يُعوِّل كثيرون على دور ألمانيا في حل الصراع المتأزم في ليبيا، وينبع ذلك من سعي ألمانيا لتوحيد الموقف الأوروبي، وتقديمها مبادرات سياسية لحل الأزمة مثل مؤتمر برلين، بيد أن غياب الاستجابة الفعَّالة للجهود الألمانية، دفع بعض الأصوات الألمانية والأوروبية إلى دعوة ألمانيا للتدخل العسكري في ليبيا في إطار مهمة للأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي؛ وهو ما قُوبل بموجة رفض داخلية، لكنه -في الوقت ذاته- يدفع للتفكير في فرص وتحديات توسع الدور الألماني في ليبيا، وحدود فعاليتها في ضوء تطورات الصراع ومآلاته المحتملة.
طبيعة الدور الألماني:
يرتكز الدور الألماني في التعاطي مع الأزمة الليبية منذ اندلاعها وتزايد الأطراف المنخرطة فيها على ضرورة وقف إطلاق النار، واستبعاد الحل العسكري للصراع، والدفع نحو إيجاد حل سياسي جذري للأزمة عبر وضع جميع الأطراف المتحاربة وداعميهم من الخارج على طاولة المفاوضات.
ومن واقع هذه الرؤية؛ تلعب ألمانيا دورًا مزدوجًا تكامليًّا؛ الدور الأول داخل أوروبا، حيث تعمل ألمانيا على تقريب وجهات النظر بين الدول الأوروبية الأكثر ارتباطًا بالملف الليبي وبالتحديد إيطاليا وفرنسا، بهدف توحيد الموقف الأوروبي تجاه الأزمة، وتقويض مزيد من التنافس الأوروبي-الأوروبي داخل ليبيا.
وقد نجحت ألمانيا نسبيًّا في هذا الدور، وهو ما انعكس في البيانات التوافقية المشتركة التي تصدرها الدول الثلاث تباعًا بشأن تطورات الصراع، بيد أن هذا التوافق ربما يكون لحظيًّا نظرًا لوجود أعداء مشتركين في ليبيا هما روسيا وتركيا، لكنه لا يعبر بالضرورة عن توافق في المصالح أو النفوذ الفعلي.
أما الدور الثاني فيتمثل في طرح بعض المبادرات السياسية لحل الأزمة؛ كان من أبرزها مؤتمر برلين الذي عُقد في 19 يناير 2020 بحضور طرفي الصراع الرئيسيَّيْن "فايز السرَّاج" واللواء "خليفة حفتر"، إلى جانب وزير الخارجية الأمريكي "مايك بومبيو" والرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" والرئيس التركي "أردوغان"، بالإضافة إلى 8 دول ومنظمات دولية، والذي أسفر عن التزام الأطراف المعنية بإنهاء التدخل الأجنبي، ودعم حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة، وتجنب أي تصعيد إضافي في المنطقة، كما تعهد الاتحاد الأوروبي بأن يساعد بكل قوته في تنفيذ مخرجات مؤتمر برلين على الأرض.
إضافة إلى ذلك، مثَّل مؤتمر ميونخ للأمن الذي عُقد في 15 فبراير 2020 استكمالًا للجهود الدولية لإنهاء التدخلات الأجنبية في ليبيا، ونتائج مؤتمر برلين. وقد كانت القوى الخارجية حاضرة في المؤتمر، فيما غابت عنه أطراف الصراع في ليبيا.
برغم هذه المبادرات الطموحة، إلا أنها لم تُغيِّر شيئًا على أرض الواقع، ولم تؤدِّ إلى النتائج المرجوة؛ حيث لم تلتزم الأطراف المتصارعة بنتائجها وقراراتها نظرًا لكونها لم تحمل صفة الإلزامية، لذا لم تكن مخرجاتها فعالة، بما يضغط على ألمانيا بضرورة توسيع دورها في ليبيا، وإيجاد مخرج جديد للأزمة تلتزم به الأطراف المختلفة.
دوافع توسع "برلين":
تدفع ألمانيا مجموعة من العوامل لتوسيع دورها وحضورها في المشهد السياسي الليبي عبر آليات مختلفة، ويمكن إبراز هذه العوامل على النحو التالي:
1- النفوذ الروسي والتركي: فنظرًا لأهميتها الاستراتيجية في شمال إفريقيا، ووجودها على البحر المتوسط؛ تعد ليبيا ورقة رابحة لروسيا لمحاصرة أوروبا. ومن ثم إذا كرَّست روسيا نفوذها في ليبيا كضامن للاستقرار، سواء عبر إعادة إنتاج السيناريو السوري بها، أو التوافق مع تركيا على المصالح؛ فسيرفع ذلك من شأن روسيا في أية مفاوضات مستقبلية مع الاتحاد الأوروبي.
بالإضافة إلى ذلك، لدى روسيا رغبة كبيرة في تأسيس قاعدة عسكرية لها في ليبيا، تُضاف إلى قاعدتي حميميم وطرطوس في سوريا، بما يجعلها منافسًا خطيرًا لحلف الناتو في المتوسط، ويُهدد أمن أوروبا، أو على الأقل يمثل ورقة ضغط عليهم تقوِّض خياراتهم أمام روسيا.
من ناحية أخرى، تتخوف ألمانيا من تمدد تركيا في البحر المتوسط عبر تعزيز نفوذها في ليبيا بما يعطيها الفرصة لمواصلة تهديداتها للدول الأوروبية ومصادر الطاقة في المنطقة، وهو ما يمثل أولوية كبرى لأوروبا، حتى إن ألمانيا وضعته ضمن أجندتها لرئاسة الاتحاد الأوروبي التي بدأت في 1 يوليو الجاري.
2- تهديدات الأمن القومي: وبالتحديد تزايد تدفق المهاجرين واللاجئين من ليبيا وما قد يستتبعه من دخول الإرهابيين لأوروبا؛ خاصة أن ألمانيا تعد المقصد الأساسي لمعظم راكبي البحر من شمال إفريقيا ودول جنوب الصحراء الكبرى، فضلًا عن استغلال الجماعات الإرهابية حالة الفوضى الناتجة عن استمرار الصراع للتحرك صوب أوروبا والاندساس بين اللاجئين وتهديد الأمن الأوروبي. لذا فإن تحقيق الاستقرار في ليبيا من شأنه وأد تلك التهديدات.
3- تصاعد الانقسام الأوروبي: فليس من شك في أن استمرار الصراع في ليبيا قد يؤدي إلى تزايد الانقسام في المواقف بين إيطاليا وفرنسا تحديدًا، خاصة مع تباين وتعارض مصالح الدولتين في ليبيا، لا سيما المصالح النفطية بين شركتي "إيني" و"توتال"، ومصالح النفوذ الاستراتيجي والأمني في شمال إفريقيا.
لذلك تسعى ألمانيا إلى إيجاد حل سياسي حاسم للصراع تجنبًا لدخول الدول الأوروبية في نزاع على النفوذ والمصالح في ليبيا، والذي من شأنه أن يزيد من انقسام الاتحاد الأوروبي، الذي يعاني بالأساس من أزمات متتابعة تُهدد بتفككه وانهياره. يُضاف إلى ذلك أن قدرة ألمانيا على صياغة موقف موحد ومشترك تجاه الأزمة الليبية من شأنه استعادة النفوذ الأوروبي المفقود والدور المحوري لها في ليبيا.
احتمالية التدخل العسكري:
نظرًا لفشل المبادرات السياسية التي طرحتها ألمانيا لحل الأزمة، نادت بعض الأصوات الداخلية في ألمانيا -والأوروبية عمومًا- بضرورة التفكير في التدخل العسكري في ليبيا حفاظًا على الأمن القومي. ففي 29 يونيو الماضي، أكد "فولفغانغ إشينغر"، رئيس مؤتمر ميونخ الدولي للأمن، أنه "يتعيّن على الاتحاد الأوروبي أن يُهدّد باستخدام الوسائل العسكرية في ليبيا". فيما اقترح "نوربرت روتغن"، أحد المرشحين الألمان لرئاسة الحزب المسيحي الديمقراطي خلفًا لميركل، في 7 يوليو الجاري، ضرورة مشاركة الجيش الألماني في عملية عسكرية تقودها الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي لإخماد الحرب الأهلية في ليبيا.
بيد أن هذا الاقتراح لم يجد صدى إيجابيًّا في الداخل الألماني؛ إذ قُوبل بمعارضة من الأحزاب الألمانية الرئيسية المتمثلة في: الحزب الديمقراطي المسيحي الحاكم، والحزب الاشتراكي الديمقراطي، وحزب الخضر، والحزب الليبرالي، والتي أجمعت على ضرورة دعم جهود الوساطة الدبلوماسية التي يقوم بها وزير الخارجية الألماني "هايكو ماس" لحل النزاع في ليبيا.
من ناحية أخرى، تعد فكرة إرسال جنود ألمان إلى ليبيا، سواء ضمن مهمة للاتحاد الأوروبي أو تحت مظلة الأمم المتحدة، حلًّا غير عملي أو فعَّال من جهة، ولا يتوافق مع التوجه الألماني العام تجاه الأزمة من ناحية أخرى، وذلك لعدة أسباب، منها:
1- أن التدخل سواء ضمن قوة تابعة للأمم المتحدة أو للاتحاد الأوروبي في ليبيا يتطلب موافقة أطراف النزاع في ليبيا وموقف موحد للمجتمع الدولي، ولا يتوفر أي منهما في الوقت الحالي، بما يستلزم الاستمرار في استخدام القنوات الدبلوماسية لحل الأزمة سياسيًّا.
2- ضبابية مسألة التدخل العسكري؛ خاصة في ظل غياب التوافق التام داخل البيت الأوروبي على دعم أطراف محددة في الصراع الليبي، ومن ثم لن يعرف الجنود الألمان إلى أي جانب سيقفون، بما سيزيد من انقسام الموقف الأوروبي بدلًا من محاولة توحيده.
3- محاولة تدخل ألمانيا عسكريًّا لن تؤدِّ إلا إلى زيادة عدد الأطراف الخارجية المنخرطة في الأزمة، حتى لو دخلت تحت غطاء أممي أو أوروبي، لأن ذلك من شأنه أن يطيل أمد الصراع من ناحية، ويتناقض مع سياسة ألمانيا المعلنة من ناحية أخرى.
آليات التمدد:
برغم أن ألمانيا تواجه وضعًا حرجًا في ليبيا، في ظل عدم التزام الأطراف المتحاربة بمخرجات مؤتمر برلين، فضلًا عن تنامي النفوذ التركي والروسي في ليبيا، ومع غياب احتمالية التدخل العسكري الألماني على خط الصراع؛ إلا أن دعم المسار السياسي لحل الأزمة يظل هو المخرج الأفضل والآمن لحماية الأمن الأوروبي، والحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في ليبيا.
في هذا الإطار، ما زالت هناك فرصة أمام ألمانيا لتوسيع دورها في الأزمة الليبية؛ وذلك عبر مسار متكامل يبدأ من توحيد الموقف الأوروبي تجاه الملف الليبي، والذي من شأنه أن يُعزز دور الاتحاد الأوروبي في ليبيا، خاصة أنه الجهة الأكثر دعمًا للانتقال السياسي الديمقراطي، على عكس الأطراف الأخرى، بالتحديد روسيا وتركيا، والتي تنجح أكثر في دعم مغذيات الصراع والاستفادة منه.
بالتزامن مع ذلك، تستمر ألمانيا في قيادة الاتحاد الأوروبي لدعم مهمة "إيريني" التي تم إطلاقها في مايو الماضي، لمراقبة حظر انتقال السلاح إلى ليبيا عبر البحر المتوسط، خاصة بعد انتهاك الأطراف الخارجية الداعمة للصراع للقرار الأممي بحظر الأسلحة إلى ليبيا، بما يساهم في تقويض نقل الأسلحة والأشخاص إلى ليبيا.
ويُستكمل هذا المسار باستمرار قيادة ألمانيا للجهود الدبلوماسية الأوروبية عبر دفع الاتحاد الأوروبي ككتلة كبرى ذات ثقل، ربما بالتعاون والتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية، لتبني مبادرة مكملة لمؤتمر برلين لوضع أسس الحل السياسي للأزمة الليبية وفقًا للمعطيات الأخيرة وتطورات الصراع على الأرض، على أن تتلافى المبادرة الجديدة نقاط ضعف مؤتمر برلين؛ بحيث تتضمن تعهدات ملزمة من جميع الأطراف لتنفيذ مخرجاتها السياسية وحل النزاع بشكل سلمي.
وتجدر الإشارة -في هذا الصدد- إلى أنه لدى ألمانيا ما يؤهلها بقوة للقيام بهذا الدور عن أي قوة دولية أخرى؛ فليس لها تاريخ استعماري في المنطقة مثل إيطاليا وفرنسا، وهي الدولة الأوروبية الأكثر قدرة على تمويل عملية سياسية في ليبيا، كما أنها تقف تقريبًا على مسافة واحدة من أطراف الصراع الرئيسيين، بما يعطيها حيادية ومصداقية في تحركاتها لحل الأزمة.
يُضاف إلى ذلك خبرتها السابقة في حل النزاعات؛ إذ نجحت ألمانيا في الجمع بين الفرقاء الأفغان عام 2001 فيما عُرف بـ"مؤتمر بون"، الذي تم خلاله التوقيع على "اتفاقية بون" وتشكيل المجلس المعروف بــ"اللويا جيرجا"، الذي وضع الدستور الأفغاني الحالي، ثم بعدها تشكلت أول حكومة أفغانية.
ختامًا، يظل هذا المسار الألماني التكاملي مرهونًا بعدة أمور؛ أولًا قدرتها على توحيد الموقف الأوروبي من الأساس، وثانيًا حدود استجابة الأطراف الفاعلة في الأزمة الليبية لهذا المسار، وثالثًا القدرة على تنفيذ هذه الرؤية على أرض الواقع في ضوء تباين المصالح وتعدد الأطراف الخارجية المنخرطة في الصراع الليبي. ومن ثم فبرغم إمكانية توسع الدور الألماني في التأثير في تطورات الملف الليبي، إلا أن جميع العوامل السابقة قد تعوق فعاليّة قيام ألمانيا بهذا الدور، في ضوء محدودية تأثيرها الحالي في الأزمة الليبية.