منذ عدة سنوات، تقوم «مؤسسة الفكر العربي» بترجمة الكتاب السنوي «أوضاع العالم»، والذي يصدره فريق من الباحثين بإشراف المفكر الاستراتيجي المعروف برتران بادي. وموضوع الكتاب لهذا العام، أي «أوضاع العالم 2020» هو نهاية الزعامة الأميركية للعالم! ولنعد لشرح المعطيات التي يوردها الباحثون الفرنسيون الذين رفضوا القيادة الأميركية منذ ستينيات القرن العشرين، وهي تتلخص بحسب مئات المفكرين الاستراتيجيين من مختلف الجنسيات في أربع مراحل: مرحلة تبلور الزعامة الأميركية فيما بين الحرب الأولى (1914-1918) والحرب الثانية (1939-1945)، وخلال تلك الحقبة تشابكت الولايات المتحدة مع أوروبا اقتصادياً، ثم أنقذتها وأنقذت روسيا عسكرياً من هجمة ألمانيا النازية، فسيطرت في الاقتصاد والعسكر وصياغة النظام الجديد. والمرحلة الثانية كانت مرحلة الصراع مع روسيا السوفييتية على قيادة العالم في الحرب الباردة. والثالثة هي مرحلة الهيمنة الأميركية والتي بدأت مطلع ثمانينيات القرن الماضي بوضع هدف إسقاط الاتحاد السوفييتي (وحلف وارسو) من دون مناطحة نووية، ونجحت في ذلك عام 1990، فسادت منفردةً تقريباً حتى عام 2007. والمرحلة الرابعة: مرحلة الصراع مع الصين على قيادة العالم، ففي مطالع القرن الحادي والعشرين أصبح «التنين الأصفر» ثاني أكبر اقتصاد في العالم، كما أمّنت الصين جبهتها الدفاعية بالسلاح النووي، والجيواستراتيجية بجنوب شرق آسيا. وقد بنت شبكة اقتصادية هائلة من التبادل التجاري ودعم الاقتصادات المتوسطة والصغيرة في آسيا وأفريقيا وبعض أقطار أميركا اللاتينية، إضافة إلى «مشروع الحزام والطريق» عام 2013. وأخيراً فهي الشريك الرئيس للولايات المتحدة في التبادل الجاري!
عندما كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها يتصارعون مع روسيا، ما أقاموا سلاماً وتعاوُناً مع الصين وحسْب، بل وصلوا إلى شبه تحالُف، لأن ماوتسي تونغ وزملاءه من الجيل الأول للثورة الصينية كانوا مهجوسين بطموحات السيطرة والسطوة الروسية. بيد أنّ الأميركيين وحلفاءهم تنبهوا إلى أن الصين انصرفت منذ ثمانينيات القرن العشرين للحلول محلّ الاتحاد السوفييتي في مناطق انحساره وحتى في مناطق التماس بين الإمبراطوريتين في الشرق الأقصى. لذا اقترح البولندي الأصل بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي أيام الرئيس كارتر، نظاماً أوراسياً له ثلاثة أضلاع لقيادة العالم: أوروبا (وضمنها روسيا)، والصين والهند واليابان (الركن الآسيوي)، والركن الأطلسي الأميركي الذي يضمن المدار العالمي الأوراسي اقتصادياً وعسكرياً وأمنياً.
وفي عام 2004، وضمن موجةٍ متصاعدة من النُذُر لأميركا بالتهديد الصيني الوشيك، كتب فريد زكريا، محرّر مجلة «نيوزويك» وقتها، كتابه الذي صار شهيراً، «ما بعد عالم أميركا». لأنه هندي الأصل، فما اكتفى بالإرعاب من الصين، بل اقترح على الولايات المتحدة تحالفاً مع الهند الوديعة والصاعدة!
أما نحن في الشرق الأوسط، وبعد ظهور الفشل الأميركي في العراق، ونشوب الحرب الأهلية الداخلية بتسعيرٍ خارجي، فإنّ الأميركيين (أعني بوش الابن والمرشح لخلافته أوباما) بدأوا يتحدثون عن توجيه الاهتمام الاستراتيجي للقوة الأميركية (الاقتصادية والعسكرية) نحو الصين وعالمها في شرق وجنوب شرق آسيا. والإجراء المباشر: الخروج من العراق، وإقامة إدارة للمنطقة من إسرائيل وإيران وتركيا، والتقليل من الأهمية الاستراتيجية للبترول العربي، لأن الأميركيين يتصاعد عندهم إنتاج النفط الصخري!
ولنعد إلى الصراع الأميركي الصيني الحالي. بدأ الرئيس ترامب قبل أكثر من عام صراعه مع الصين بشأن الاختلال في الميزان التجاري بين الدولتين. وعلى مشارف وباء فيروس كورونا اتفق الطرفان بعد مناكفات ومطاردات أن تزيد الصين مشترياتها من الولايات المتحدة بمقدار مائتي مليار دولار. ثم أصبحت أزمة كورونا عالمية لتدخل على ملف الصراع الأميركي الصيني، باعتبار أنّ الصين كانت بؤرة الوباء الذي أصاب الولايات المتحدة والعالم. وأنّ الصينيين كانت عندهم معلومات، وما فعلوا شيئاً لضبط الوباء عندهم، ومنع تصديره للعالم. والصينيون ينكرون ذلك تماماً ويستشهدون بمنظمة الصحة العالمية التي يتهمها ترامب بالانحياز لبكين!
لا وسطاء في الصراع الحالي. وليس لأن ترامب يرفض فقط، بل ولأن الجميع مرهق جداً وبخاصةٍ الأوروبيين والروس واليابانيين. الصين قوية بكل المقاييس، وأميركا قويةٌ جداً بكل المقاييس، ولا إمكانية للحرب، والأزمة الاقتصادية هائلة ولن يحلها حتى التوافق الأميركي الصيني!
*نقلا عن صحيفة الاتحاد