عرض: سارة عبدالعزيز - باحثة في العلوم السياسية
دفعت الوتيرة المتسارعة لانتشار فيروس كورونا زمنيًّا وجغرافيًّا، وامتداد تداعياته بما يُشكل تهديدًا مباشرًا للحياة البشرية، بل والتأثير على كافة الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ العديد من المؤسسات البحثية لمحاولة وضع سيناريوهات لاستشراف أهم التطورات المحتملة لانتشار الفيروس والتداعيات المترتبة عليها، وهو ما يشكل جزءًا من مساهمتها في دق ناقوس الخطر وبلورة أهم ملامح الاستعداد المسبق من جانب الدول والحكومات.
ويأتي ضمن تلك الجهود ما أصدرته مؤسسة ستراتفور مؤخرًا من طرح ثلاثة سيناريوهات محتملة للمرحلة الراهنة التي يصل مداها الزمني إلى ثلاثة أشهر، وسيناريو آخر طويل المدى لما بعد تلك المرحلة.
محدِّدات أساسية
تتوقع ستراتفور أنه خلال الأسابيع الأربعة المقبلة، ستتسارع جائحة كورونا بشكل كبير، الأمر الذي سيترتب عليه تصاعد احتمالية تحقق أربع نتائج محتملة خلال فترة الثلاثة أشهر القادمة. فحتى منتصف أبريل، من المتوقع زيادة حالات الإصابة بالفيروس بشكل كبير في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وذلك وفقًا لنمط تفشي وباء كورونا. وهو ما سيترتب عليه ضعف الطلب الاقتصادي في مراكز الاستهلاك العالمية، هذا في الوقت الذي بدأت فيه الصين ذات النمط الموجه نحو التصدير في التعافي، وهو ما يؤدي إلى إلحاق ضرر شديد قصير المدى بالاقتصاد العالمي.
وفي المرحلة التالية، التي تشمل الفترة من أواخر أبريل أو أوائل مايو، وفقًا لتوقعات ستراتفور؛ فإن هناك سبعة محددات أساسية للمسار الذي يتخذه الوباء والتي تم الاعتماد عليها في بناء السيناريوهات. وتتمثل تلك المحددات فيما يلي: نمط الفيروس، والقدرة الاستيعابية للأنظمة الصحية، وردود الفعل والاستجابات التي يقدمها كل من الحكومات والمواطنين والقطاع الخاص. هذا بالإضافة إلى السياسات النقدية والمالية التي سيتم اتباعها. علمًا بأن أهم محددين يتمثلان في النمط الذي سيتخذه الفيروس في الانتشار من حيث كونه فيروسًا موسميًّا سينتهي مع دخول فصل الصيف أو غير موسمي. أما المحدد الآخر، الأكثر أهمية فيتمثل في مدى اتساع وسرعة رد فعل الحكومات تجاه التعامل مع الوباء، وما إذا كان سيتخذ نمطًا تعاونيًّا في الداخل أو الخارج في مقابل السياسات الجزئية غير المتكاملة.
السيناريوهات الأربعة
استنادًا إلى المحدِّدات السابقة، قدمت ستراتفور أربعة سيناريوهات محتملة، وذلك على النحو التالي:
السيناريو الأول- وهو الأكثر ترجيحًا باحتمالية تحقق 50%: يتوقع هذا السيناريو أن نمط انتشار الفيروس سيكون موسميًّا، وهو ما يعني ضعف انتشاره مع حلول فصل الصيف. ويقترن ذلك مع نجاح الجهود الحكومية في تنفيذ عمليات الإغلاق، وفرض القيود على التجمعات في "تسطيح منحنى انتشار الفيروس". وفي حين يتوقع السيناريو استمرار انتشار الفيروس لفترة أطول، فإن العدد الأقصى للحالات سينخفض عن الوضع الحالي.
واقتصاديًّا، يتوقع السيناريو أنّ تدخّل الحكومات من خلال إجراءات التحفيز سيُسهم في تسريع إنعاش الحالة الاقتصادية. ومع ذلك فإنه من المتوقع أن ينتهي عام 2020 في ظل حالة من الكساد مع تحقيق خسائر في الإنتاج تتراوح ما بين 2 إلى 2.3 تريليون دولار. وهو ما يعني انخفاض الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسب تتراوح ما بين 2.4% إلى 2.7٪.
وبشأن معززات تحقق ذلك السيناريو، فوفقًا للبيانات المتاحة والملاحظة الأولية، فإن فيروس كورونا يميل إلى كونه فيروسًا موسميًّا، حيث إنه يتأثر جزئيًّا بالظروف البيئية. كما أن انتشاره يبدو بطيئًا نسبيًّا في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، وكذلك في عدد من المواقع الاستوائية ذات الكثافة السكانية العالية مثل تايلاند. ويعزز من تلك العوامل البيولوجية، الإجراءات الجادة التي اتخذها عدد من الحكومات الديمقراطية وغير الديمقراطية على حد سواء من حيث تقييد حركة الأشخاص والتجمعات، الأمر الذي من المتوقع أن يؤتي ثماره في الحد من معدلات انتشار العدوى.
وفي حين أن تنفيذ السياسات الرامية إلى مواجهة الخسائر الاقتصادية لا تزال تسير بوتيرة أبطأ من انتشار المرض، كما أنه لم يتم تفعيلها بالكامل؛ فإن الاضطرابات الاقتصادية الشديدة المتوقعة في أبريل ستؤدي إلى خفض معدلات النمو في الربع الثاني إلى المنطقة السلبية، ولن تتمكن الأسواق من تعويض تلك الخسائر والتعافي إلا في النصف الثاني من العام المالي، وذلك بافتراض عدم وجود انتكاسة هائلة بنفس القدر مع عودة الخريف والشتاء في دول الشمال.
السيناريو الثاني- السيناريو الأفضل، ذو مدى زمني قصير للأشهر الثلاثة القادمة باحتمالية تحقق 10%: يعد هذا السيناريو مثاليًّا، حيث يتوقع أن الفيروس سيكون موسميًّا، وأن الأنظمة الصحية ستكون قادرة على التعامل مع حالات الإصابات بالفيروس حتى في ظل وصولها إلى ذروة منحنى الانتشار. ومن ثم، فإنه لا توجد حاجة ملحّة لمزيد من التدخل الحكومي الإضافي، سواء من خلال تقييد حركة الأشخاص أو التحفيز الإضافي للنشاط الاقتصادي.
وبناءً عليه، سيقتصر الضرر الاقتصادي على النصف الأول من عام 2020، وهو ما سيترتب عليه حجم خسائر للاقتصاد العالمي تصل إلى ما لا يزيد على 1 تريليون دولار، أي انخفاض الناتج المحلي الإجمالي العالمي بما لا يزيد على 1.2٪.
السيناريو الثالث- السيناريو الأفضل ذو مدى زمني طويل، بعد الثلاثة أشهر باحتمالية تحقق 20%: بخلاف السيناريو السابق، يتوقع هذا السيناريو أن الفيروس لن يكون موسميًّا، وهو ما يعني استمراره خلال فصل الصيف. كما أن الإجراءات الحكومية للتدخل لمواجهة الفيروس لن تكون كافية لدعم عمليات تسطيح منحنى الانتشار، الأمر الذي سيزيد من الأعباء المتوقعة على الأنظمة الصحية، وتصاعد احتمالات انهيارها في ظل أزمة صحية عالمية تتجاوز قدرات الدول.
وفي هذا الشأن، يطرح السيناريو إمكانية تدخل حكومات مجموعة العشرين من أجل تنسيق السياسات المالية والنقدية، وزيادة الإجراءات التحفيزية للاقتصادات بشكل ملحوظ، حيث ستُنحّي كل من الولايات المتحدة الأمريكية والصين خلافاتهما جانبًا من أجل قيادة الاستجابة العالمية بشكل مشترك. وفي حين لن تتمكن تلك الخطوات من معالجة التداعيات الاقتصادية على المدى القصير، والمتمثلة في الانكماش الحاد خلال الثلاثة أشهر الأولى، مع تراوح حجم الخسائر الاقتصادية ما بين 1 إلى 2 تريليون دولار، وهو ما يعني انخفاض الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 1.2 إلى 2.4٪؛ إلا أنه على المدى الطويل من المتوقع أن يؤدي ذلك التكامل إلى خروج العالم من حالة الركود في عام 2021.
السيناريو الرابع- السيناريو الأسوأ، احتمالية تحقق 20٪: وفقًا لهذا السيناريو فإن الفيروس سيستمر في الانتشار وفقًا للمعدل نفسه، حيث إنه لا يُعد موسميًّا. وعلى الجانب الآخر، لن تتمكن الحكومات من إحداث التعاون اللازم فيما بينها لتنفيذ سياسات نقدية أو مالية متكاملة، نتيجة لعدم القدرة على التغلب على المنافسة الاستراتيجية بين كل من الولايات المتحدة الأمريكية والصين وأوروبا، حيث تسود الانعزالية وتسيطر الميول القومية، مما يؤدي إلى فرض المزيد من القيود على الصادرات واضطراب سلاسل التوريد، الأمر الذي يؤدي إلى انهيار الأسواق المالية وتبخر السيولة. وفي الوقت ذاته، سيؤدي انتشار الفيروس والإصابات بين العمال إلى تعطل الإنتاج وتقديم الخدمات، وارتفاع الطلب على السلع في ظل ندرتها.
ونتيجة لكل ما سبق، توقعت ستراتفور أن يشهد العالم خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، انخفاضًا حادًّا في الأداء الاقتصادي العالمي بحجم خسائر سنوية تقترب من 10 تريليونات دولار، وهو ما يعادل انخفاضًا بنسبة 12٪ تقريبًا في الناتج المحلي الإجمالي العالمي، مع احتمالية حدوث بعض الانتعاش في عام 2021.
ختامًا، يمكن القول إن العالم الآن يعيش في حالة كبيرة من اللا يقين، حيث يواجه فيروسًا مستجدًّا يُعد الأسرع انتشارًا، والأكثر قسوة من حيث تداعياته. ومن ثم، فإن تلك السيناريوهات لا تعدو كونها مجرد تقديرات بنسب احتمالات قابلة للتغيير المتوالي من آن لآخر، وذلك بمجرد حدوث أي تغير في أيٍّ من المحدِّدات السبعة التي تم استعراضها. ولا تزال هناك حالة من اللا يقين أيضًا بخصوص وضع الصين مع تصاعد احتمالات تعرضها لموجة ثانية من انتشار الفيروس، وما يعنيه ذلك من حدوث المزيد من الضرر الاقتصادي مع انخفاض الطلب العالمي. كما أنه لا يزال هناك عدم يقين يحيط بقدرة أنظمة الرعاية الصحية والحكومات على الاستجابة لمعدلات الإصابة المرتفعة، وانعكاسات ذلك كله على معدلات الإنتاجية وسلاسل التوريد.
المصدر:
Stratfor, "COVID-19 Scenarios: The Next 3 Months", March 27, 2020.