ستتغير العلاقات العسكرية بين الفلبين والولايات المتحدة جذريًّا بعد 9 أغسطس 2020، إذ يُعد هذا التاريخ نهاية الفترة الانتقالية التي حددها الإخطار الرسمي من جانب الرئيس الفلبيني "رودريجو دوتيرتي" بإنهاء العمل باتفاقية القوات الزائرة في فبراير 2020، وبدء انسحاب القوات الأمريكية من الفلبين. أثار القرار اضطرابًا في العلاقات بين الدولتين اللتين جمعهما تحالف تاريخي امتد لعقود، وهو ما انعكس في الأجواء المتوترة التي هيمنت على لقاء المسؤولين العسكريين الفلبينيين والأمريكيين في منتصف مارس 2020 في معسكر أجوينالدو في مانيلا لوضع ترتيبات الانسحاب.
ويستهدف الرئيس الفلبيني التقارب مع الصين وروسيا، وتحقيق التوازن في العلاقات مع الولايات المتحدة؛ إلا أن قراره يواجِه عدة تحديات، يتمثل أهمها في تراجع الدعم العسكري الأمريكي للفلبين، واحتمالات تزايد حدة التهديدات الإرهابية، وغياب الأطر المنظِّمة لإدارة الأزمات، ومعارضة العسكريين الفلبينيين للقرار، وأخيرًا تواصل تهديدات التوسع الإقليمي للصين في بحر الصين الجنوبي.
إعادة هيكلة التعاون العسكري:
تسبب إنهاء رئيس الفلبين "رودريجو دوتيرتي" لاتفاقية القوات الزائرة مع الولايات المتحدة Visiting Forces Agreement، في دق ناقوس الخطر وإثارة القلق داخل الحكومة وبين قوات الأمن، فقد جاء قراره دون أي مراجعة أو استشارة بعد إلغاء الحكومة الأمريكية تأشيرة السياحة للسيناتور المتحالف مع دوتيرتي "رونالد باتو دي لا روزا" بسبب تورطه في حرب المخدرات التي واجهت عدة إدانات عالمية، وأدت إلى وفاة الآلاف من الفلبينيين المشتبه في تورطهم في تجارة المخدرات. وفي واقع الأمر، لم يكن إلغاء اتفاقية القوات الزائرة أمرًا غير متوقع، حيث هدد الرئيس "دوتيرتي" منذ توليه السلطة في عام 2016 عدة مرات بقطع العلاقات العسكرية مع الولايات المتحدة.
ويسعى الرئيس "دوتيرتي" للتقارب مع الصين وروسيا في المجالات الأمنية والعسكرية، في مقابل الخروج من دائرة التحالف التقليدي مع الولايات المتحدة، وهي السياسة التي اتبعها على مدار 4 سنوات مضت. وفي إطار ذلك قام بتحجيم التدريبات العسكرية المشتركة بين القوات الأمريكية والفلبينية، مثل تدريبات باليكاتان Balikatan Exercises لتصبح مقتصرة على التدريب على المساعدة الإنسانية، والاستجابة للكوارث، ومكافحة الإرهاب. كما قام بالانسحاب من التدريبات المشتركة في بحر الصين الجنوبي. وعلى الرغم من هذا ظل هناك تعاون عسكري في إطار بعض المناورات، واستمر تبادل المعلومات في مواجهة تنظيم "داعش" في مينداناو.
وتُعتبر اتفاقية القوات الزائرة إحدى الاتفاقيات التي تُرسخ العلاقات العسكرية الفلبينية-الأمريكية، جنبًا إلى جنب مع معاهدة الدفاع المتبادل لعام 1951، واتفاقية التعاون الدفاعي المعزز لعام 2014، واتفاقية الدعم اللوجستي المتبادل لعام (2002). فيما أُبرمت اتفاقية القوات الزائرة عام 1998، وبموجبها يُسمح للقوات الأمريكية بالبقاء في الفلبين للقيام بعدة أنشطة، مثل: التدريب العسكري، والمناورات، وتقديم المساعدات، والاستجابة للحالات الإنسانية ومواجهة الكوارث.
ويمكن القول إن اتفاقية القوات الزائرة تعد إحدى أهم الاتفاقيات التي أبرمتها الفلبين في المجال العسكري جنبًا إلى جنب مع اتفاقية وضع القوات مع أستراليا (SOFA). وعلى الرغم من الانسحاب من اتفاقية القوات الزائرة، إلا أن الفلبين لا تستطيع التخلص من اعتمادها العسكري على الولايات المتحدة، حيث لا تزال واحدة من أكبر الدول المتلقية للمساعدات العسكرية الأمريكية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، كما تَلَقَّى العديد من الضباط والعسكريين الفلبينيين تدريبهم العسكري في الولايات المتحدة، وتم كذلك تنفيذ برنامج تحديث القوات المسلحة الفلبينية في الفترة من عام 2012 إلى عام 2016 بتمويل من الولايات المتحدة الأمريكية.
تكلفة الانسحاب الأمريكي:
اتجهت الفلبين للتأكيد المستمر على حقها السيادي في الانسحاب من الاتفاقيات التي أبرمتها مع واشنطن، منذ قيام الحكومة الفلبينية بدعوة الولايات المتحدة في عام 1992 للانسحاب من عدد من القواعد العسكرية المحورية للولايات المتحدة في المحيط الهادئ. وفي هذا الإطار، يمكن القول إن أهم تداعيات الانسحاب من هذه الاتفاقية تتمثل في:
1- فقدان الأُطر المنظمة لإدارة الأزمات: توفر اتفاقية القوات الزائرة إجراءات واضحة لكيفية معالجة الأزمات التي قد تنشأ نتيجة لوجود قوات أمريكية داخل الفلبين. فعلى سبيل المثال، أُدين أحدُ أفراد المشاة البحرية الأمريكية بتهمة الاعتداء وقتل فلبينية في عام 2015، وبموجب اتفاقية القوات الزائرة تم إجراء ترتيبات المحاكمة بسهولة، إذ تنص الاتفاقية على أن سلطة القضاء الجنائي عن أي عمل ارتكبه الأفراد العسكريون الأمريكيون من ضمن اختصاصات المحاكم الفلبينية. وعلى الرغم من أن الاحتجاز يقع ضمن اختصاصات الحكومة الأمريكية، إلا أن حالة الغضب الشعبي المتزايدة بسبب هذه القضية أدت إلى الوصول لحل وسط في إطار الاتفاقية ينص على توفير مواقع احتجاز أمريكية داخل المنشآت العسكرية الفلبينية.
2- تقليص الدعم العسكري الأمريكي: قبل وصول الرئيس "دوتيرتي" إلى سدة السلطة سعت الفلبين إلى تقليص الوجود العسكري البري للولايات المتحدة، حيث تم في عام 2015 إيقاف عمليات قوة المهام الخاصة المشتركة الأمريكية–الفلبينية (JSTOF-P) التي كانت مختصة بمكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى فرض المزيد من القيود على حركة الجنود الأمريكيين خارج مقرات القواعد العسكرية خلال فترة إجازاتهم. بيد أنه -في المقابل- اتجهت الفلبين إلى تعزيز الوجود البحري للجيش الأمريكي، لا سيما مع إبرام اتفاقية التعاون الدفاعي المعزز (Enhanced Defense Cooperation Agreement)، بالإضافة إلى سريان العمل باتفاقية الدعم اللوجستي المتبادل (Mutual Logistics Support Agreement) والتي سمحت لواشنطن ببناء منشآت عسكرية وقواعد لوجستية في الفلبين. إلا أن الرئيس "دوتيرتي" يسعى لتقليص الوجود الأمريكي في البلاد بشكل أكبر من سابقيه.
3- تصاعد تهديدات تنظيم "داعش": سيؤدي عدم وجود اتفاقية جديدة بديلة إلى مغادرة القوات الأمريكية الموجودة في الفلبين، بما في ذلك الجنود المنخرطون في مواجهة "داعش" في جنوب البلاد، وبالتالي فإن انسحاب القوات الأمريكية سيؤدي إلى انتشار "داعش" في جنوب شرق آسيا وانطلاقه من الفلبين كنقطة تمدد إقليمي في ظل عدم قدرة الدولة على مواجهته وحدها.
4- تزايد معارضة العسكريين: أثار قرار إلغاء "اتفاقية القوات الزائرة" انقسامًا حادًّا في الفلبين، حيث قام مجلس الشيوخ برفع قضية أمام المحكمة العليا الفلبينية بسبب اتجاه السلطة التنفيذية لإلغاء المعاهدة دون موافقتها، بينما صرح أعضاء الحكومة التي يهيمن عليها العسكريون بأنه سيتم إعادة التفاوض على اتفاقية جديدة بدلًا من ذلك.
5- تهديدات التوسع الصيني إقليميًّا: أبدى العديد من الضباط النظاميين مخاوفهم من الآثار المترتبة على إلغاء الاتفاقية، وما قد يترتب عليها من التأثير على طموحات الفلبين الإقليمية في بحر الصين الجنوبي، كما أنه بدون هذه الاتفاقية سيكون من الصعب إجراء التدريبات العسكرية المشتركة التي تنص عليها معاهدة الدفاع المتبادل، حيث كانت اتفاقية القوات الزائرة تسهل دخول القوات والمعدات إلى الفلبين، ويدرك الجيش الفلبيني عدم قدرته منفردًا على مواجهة تهديدات الصين في بحر الصين الجنوبي، وأن الصين ستقوم باستخدام تكتيكات "المنطقة الرمادية" (Grey Zone) لاستكمال طموحاتها، والاستمرار في مخطط بناء جزيرة اصطناعية هناك.
ولذا فإن هناك حالة من عدم اليقين ستسود العامين القادمين قبل انتهاء ولاية الرئيس "دوتيرتي" في يونيو 2022، إذ إن هناك تساؤلات من قبيل: هل تقوم الحكومة بالتفاوض على اتفاقية جديدة لتنفيذ المناورات العسكرية التي من المخطط تنفيذها بعد أغسطس 2020؟ وهل يمكن معالجة المخاوف الفلبينية فيما يخص الثغرات في "معاهدة الدفاع المتبادل" بحيث تقتصر على الدعم الأمريكي في حالة الهجوم المسلح فقط؟ بالإضافة إلى ترقب إصدار قرار المحكمة العليا بشأن النزاع الدستوري حول قيام السلطة التنفيذية بإلغاء اتفاقية القوات الزائرة.
ختامًا، يمكن القول إن قرار الرئيس "دوتيرتي" بإلغاء اتفاق القوات الزائرة هو نوع من المغامرة يهدف لتغيير توجهات البلاد الخارجية، ويسير ضد الخط العام السائد داخل الحكومة والجيش، إذ إن هناك حالة متزايدة من الثقة في واشنطن كحليف عسكري يتمتع بعلاقات قوية مع الجيش الفلبيني منذ ما يزيد على 70 عامًا، وهو ما تؤكده نتائج استطلاع للرأي أجرته "محطة الطقس الاجتماعي الإحصائية" (Social Weather Station) مؤخرًا، كما أن هناك قاعدة قوية مؤيدة للولايات المتحدة داخل الجيش الفلبيني، فقد صرح أحد الجنرالات السابقين بعد إلغاء المعاهدة "بما أن الجيش الفلبيني ليس مستعدًّا بعد لتقديم دفاع موثوق به عن أراضيه، فنحن بحاجة إلى حليف لمساعدتنا، والولايات المتحدة -وهي دولة متشابهة التفكير ملتزمة بالديمقراطية وحقوق الإنسان- هي أقل الأضرار مقارنةً بالصين".
وعلى الرغم من هذا، لا يزال التحالف العسكري بين البلدين قائمًا ليشمل المساعدات العسكرية الأجنبية الأمريكية، مع استمرار معاهدة الدفاع المتبادل. وفي ظل الضغوط القضائية من السلطة التشريعية، من المحتمل ألا يتم التراجع عن أي اتفاقيات رسمية أخرى، وسيكون إلغاء اتفاق القوات الزائرة مجرد توتر في العلاقات العسكرية-الفلبينية.