"كل دولة في كل منطقة لديها الآن قرار تتخذه: إما أن تكون معنا، أو تكون مع الإرهابيين". تمثل هذه المقولة الشهيرة للرئيس الأمريكي "جورج دبليو بوش" جزءًا من حملة واسعة النطاق للبلاغة السياسية التي تقسم العالم إلى أصدقاء وأعداء، وتستبعد وجود مناطق رمادية، أو مواقف ثالثة محايدة. وقد ساهمت هذه الحملات المتصاعدة خلال الآونة الأخيرة، إضافة إلى العديد من العوامل الأخرى، في تصاعد اتجاهات الاستقطاب، وتطور علاقات التنافس والخصومة إلى علاقات عداء عززتها الصور النمطية، وتصاعد التنافس على النفوذ، والمخاوف الواقعية والمتصورة من الآخر بشكل عام. وبالنظر إلى خطاب الساسة في بداية القرن الحادي والعشرين، يبدو بوضوح أنه مفعم بصور التهديد والعداء، وتحذير دائم يطلقه القادة السياسيون من الأخطار التي تواجه شعوبهم (1)، والتي استندت إلى أسباب واقعية ومنطقية في بعض الأحيان، ومتصورة أو مختلقة في أحيان أخرى.
وقد حاول "صمويل هنتنجتون" في كتابه "صراع الحضارات" أن يشرح السبب وراء ارتباط السياسة بعلاقات العداء، وذلك عندما أشار إلى أن الأفراد "يستخدمون السياسة ليس فقط لتعزيز مصالحهم ولكن أيضًا لتحديد هويتهم" (2)، ومن هنا يبدو أن علاقات العداء قد تتشكل لأسباب ليست ذات صلة بتهديدات أو مخاطر مباشرة، وإنما قد يتم تشكيلها وصياغتها لتحقيق أهداف أخرى، مثل: حشد التأييد، أو تعزيز النفوذ أو حتى تعزيز الهوية. ومن المهم هنا التمييز بين العدو والعداء، فقد تتحد الدول في الاعتماد على استراتيجية مشتركة للقضاء على العدو، بدلاً من العداء بين الأطراف المختلفة، ولعل هذه الاستراتيجية هي التي مهدت للحربين العالميتين الأولى والثانية، وهي التي يمكن أن تمهد أيضًا لحرب عالمية ثالثة. ووفقًا للمؤرخين فإن عدد القتلى في الحربين العالميتين الأولى والثانية وصل إلى 15 مليونًا و60 مليونًا على التوالي، وقد لا تقارن هذه الأرقام بما يمكن أن يحدث في حال وقوع حرب عالمية ثالثة (3).
وتبدو أهمية رصد أبعاد ومؤشرات تصاعد العداءات بين الدول في ظل ما يشهده الإقليم من تصاعد في اتجاهات ومؤشرات تصاعد المنافسة التي اتجهت في أحيان عدة نحو الخصومة، والتي قد تتصاعد بدورها لتصل إلى مرحلة العداء وفي بعض الأحيان مرحلة الشيطنة، وهو ما لا يقتصر فقط على العداءات التاريخية بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، وإنما أيضًا ما يشهده الإقليم من تطورات متسارعة تتضمن إعادة تشكل تحالفات جديدة وتفكك تحالفات قائمة، وتطور ما يمكن وصفه بـ"حالات الخصومة الجماعية"، وفي نهاية عام 2019 ومع بداية حلول عام 2020 يبدو أن ملامح هذه التحولات تتجه نحو مزيد من الوضوح، ما يدفع لضرورة تناولها بالدراسة والتحليل.
مفهوم العداء:
يعود الجذر اللاتيني لكلمة عدو إلى Inimicus، وتعني "not + amicus" أو "ليس بصديق"، ويعرف العدو وفقًا لقاموس ويبستر (1984) ببساطة بأنه "قوة أو سلطة معادية"، أو "عضو أو وحدة في هذه القوة"، أو "شيء ما له تأثير مدمر". ويعرف القانون الفيدرالي للولايات المتحدة "العدو" بأنه "حكومة أي دولة تكون الولايات المتحدة في حالة حرب معها". من جهة أخرى، يعي علماء النفس منذ فترة طويلة أن "القوى المعادية" "Hostile forces" و"التأثير المدمر" “Destructive effect” ليسا دائمًا حقائق موضوعية واضحة ولكنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالعلاقات المعقدة بين المشاركين في الصراع. وبالنظر إلى دور الإدراك، يمكن تعريف "العدو" بأنه شخص أو مجموعة من الأشخاص الذين يتم إدراكهم بوصفهم يمثلون تهديدًا أو خصمًا للطرف المدرك (4). ويتعين هنا التمييز بين الواقع والإدراك، ويشير هذا التعريف إلى أن إدراك العداء قد لا ينطوي على أسباب عداء قائمة في الواقع.
وعلى الرغم من أن "العدو" Enemy تقليديًّا يُعرف بأنه نوع من التهديد المتصور أو الحقيقي؛ إلا أن العداء Enmity يضع مزيدًا من التركيز على التبادلية، وفقًا لذلك، يُعرِّف قاموس Webster السالف الذكر "العداء" بأنه "كراهية متبادلة عميقة الجذور"، من الناحية الافتراضية، يمكن أن تكون الأمة [أ] عدوًّا للأمة [ب]، في حين أن الأمة [ب] لا تعتبر الأمة [أ] عدوها، ومع ذلك، عندما نصف العداء بين الأمتين [أ] و[ب]، فإننا نعني الخوف أو التهديد أو الكراهية المتبادلة (5)، إلا أنه غالبًا ما يتم النظر إلى مفهوم العداء الدولي International enmity استنادًا إلى أن الدولة تعتبر دولة أخرى عدوًّا فعليًّا أو محتملًا إلى الحد الذي تعتبر فيه نوايا أو أفعال هذه الأخيرة تهدد مصالحها المحورية. وقد تستند هذه التوقعات إلى تاريخ الصراع، أو إلى توقع العداء في المستقبل (6).
تصاعد العلاقات العدائية:
على الرغم من صعوبة القياس الكمي لمؤشرات تصاعد العداءات بين الدول، كون العداء يمثل اتجاهًا نفسيًّا في المقام الأول يتبدى في صورة مشاعر راسخة قائمة على تراكمات ماضية تم التضخيم منها وتغذيتها على مدى سنوات، إلا أن تصاعد اتجاهات العداء بدا بوضوح عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والتي ساهمت بصورة فاعلة في شحذ الصور الذهنية السلبية تجاه الآخر المختلف دينيًّا أو عرقيًّا، وما صاحبها من خطاب شعبوي يقوم على شيطنة الآخر، وتصويره على أنه بمثابة تهديد محتمل، ساهم أيضًا في تصاعد اتجاهات العداء في التفاعلات الدولية. وبخلاف ما يشير له مؤشر السلام العالمي من تدهور مستمر لمستوى السلام عالميًّا، وزيادة عدد الوفيات كل عام خلال العقد الماضي بنسبة بلغت 264 في المائة (7)، فقد أشار مؤشر المخاطر الدولي إلى تدهور التزام القوى الدولية بالتعاون فيما بينها، وتراجعها عن المشاركة في الآليات والكيانات التي أنشئت لدعم الأمن الدولي، وتعزيز المساءلة المتبادلة واحترام القواعد المشتركة. على سبيل المثال، شهد عام 2016 انسحاب روسيا وجنوب إفريقيا وبوروندي وغامبيا من المحكمة الجنائية الدولية، ورفض الصين حكم المحكمة الدولية في بحر الصين الجنوبي، وخروج أصحاب المصلحة الرئيسيين من اتفاقيات اقتصادية، مثل: شراكة عبر المحيط الهادئ والتجارة عبر المحيط الأطلسي، وفي سوريا واليمن وليبيا تشير الطبيعة المطولة للحرب إلى غياب اتفاق القوى العظمى الذي يضاعف صعوبات التوسط في تسوية الصراع مع العديد من أصحاب المصلحة على المستويات العالمية والإقليمية وغير الحكومية، أو حتى تنظيم تدخل محدود لتسهيل الإغاثة الإنسانية أو حماية المدنيين" (8).
ولعل ما يتم من رصد لما تتبادله القوى العالمية الكبرى من اتهامات لبعضها يعد بمثابة إنذار مبكر لما يمكن أن تتحول إليه لغة الخطاب العدائي في المستقبل القريب. فلسنوات يتهم الرئيس "بوتين" الولايات المتحدة بالسعي لتقويض الاستقرار العالمي والسيادة الروسية. وفي عام 2016، ألقت وكالة الأمن القومي الأمريكية باللوم على روسيا في التدخل بالانتخابات الرئاسية. وتصاعد التوتر بين الولايات المتحدة والصين بشأن حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي، ونشر أنظمة الدفاع الصاروخي الأمريكية في جمهورية كوريا، مما أدى إلى تحذير بكين الولايات المتحدة من "الإضرار بالمصالح الأمنية الاستراتيجية للصين". والأوضاع المضطربة في إقليم الشرق الأوسط مع ما تثيره إيران من توترات وتهديدات لأمن الإقليم، وأمن الملاحة. وما سببته النزاعات المستمرة في أفغانستان واليمن وسوريا معًا من وفاة ما يقرب من مائة ألف شخص خلال عام 2018 فقط. بالإضافة إلى زيادة عدد المواقع التي شهدت نزاعًا مسلحًا بنسبة 11 بالمائة، وزيادة عدد الجهات الفاعلة المشاركة في النزاعات بنسبة 16 بالمائة (9)، وغيرها من مظاهر الاضطراب التي تتراوح بين التنافس والخصومة، منبئة بتصاعد اتجاهات العداء بين الدول.
من المنافسة إلى الشيطنة:
وضع "باركر" Barker (2007) متصلًا يتضمن أربع نقاط أساسية تمتد من المنافسة البسيطة وتصل في نهاية المطاف إلى الشيطنة لوصف تطور توتر العلاقات بين الدول، يتضمن:
تتضمن المنافسة Competition هجومًا على سياسات أو جدارة الخصم، وتعد المنافسة أكثر النقاط سلمية، حيث تتضمن قواعد تقييدية ولا تشتمل على عداء مباشر بين المنافسين، وقد تنطبق على مجال أو قضية بعينها دون سواها. وتبدو المنافسة بين الدول حول النفوذ أو الزعامة نموذجًا لهذه المرحلة. وتتطور المنافسة إلى خصومة Antagonism عندما يتم وصف الخصم بأنه شرير أو معيب أخلاقيًّا، حيث تنطوي الخصومة على نظرة دولة إلى دولة أخرى بوصفها مهددًا لما يتصورونه رفاهية النظام، أو سلامة المجتمع، أو أمن الدولة، أو طموحاتهم ومصالحهم(10) . وتستند الخصومات الدائمة إلى(11) :
1- مجموعة معلقة من القضايا التي لم تُحَلّ.
2- الترابط الاستراتيجي: التصورات المتبادلة لكل طرف بوصفه تهديدًا لأمن الطرف الآخر.
3- المظاهر النفسية للعداء: الشك، والشيطنة، والكراهية.
4- الصراع العسكري المتكرر.
يُعبر العداء Enmity عن سرد يقدمه شخص أو جماعة على أنه تهديد ومعادٍ لدرجة تحتم مواجهته بالقوة، لذا فإن الفرق بين دولة توصف بأنها خصم، ودولة توصف بأنها عدو، أن الخصومة تنطوي على تهديد لمصالح الدولة، بينما ينطوي العداء على التهديد بتدميرها(12) . وتعد الشيطنة Demonization شكلًا من أشكال العداء الأكثر تطرفًا، حيث توصف جماعة أو دولة أو فرد بأنه شر أو تهديد لدرجة أن وجوده -في حد ذاته- يهدد وجود الشخص أو المجموعة أو الدولة الأخرى. وفي الوقت الذي ينطوي فيه العداء على دعم نزاع مادي محدود؛ فإن إضفاء الشيطانية، ينطوي على الدعوة إلى التدمير الكامل للجماعة أو المجتمع الذي تتم شيطنته(13) ، ويتعين هنا ملاحظة أنه من الممكن كسب الخصوم وتحويلهم إلى حلفاء، لكن مع الأعداء يصعب ذلك، فالوصول إلى حل وسط مع خصم هو أمر مقبول بل يستحق الثناء، ولكن في حالة العداء فإن الحلول الوسط تعني "هزيمة" وتنازلًا غير مقبول(14) .
لقد كانت التوقعات العدائية أو المبالغ فيها هي جوهر سباق التسلح والحرب الباردة، فقد استمرت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في تقديم تنبؤات عدائية حول نية الطرف الآخر في صنع الأسلحة واستخدامها. ففي عام 1956، صرح الجنرال "كورتيس ليماي"، قائد القوات الجوية الأمريكية، بأن "الروس كان لديهم بحلول عام 1959 ضعف عدد القاذفات بعيدة المدى التي تملكها الولايات المتحدة، وفي الوقت الذي لم يستند فيه هذا التصريح -مثل تصريحات أخرى كثيرة- إلى وقائع حقيقية، فقد سعت الولايات المتحدة سعيًا حثيثًا للحفاظ على تفوقها على السوفيت في القاذفات بعيدة المدى، في بعض الأحيان بهامش 10 - 1 أو أكثر. المخاوف بشأن "التفوق السوفيتي"، و"النوايا التوسعية السوفيتية"، غذّت بصورة مستمرة سباق التسلح بين البلدين(15) .
وتتطور علاقات العداء بين الدول استنادًا إلى ديناميات عدة قائمة في المجمل على عمليات شحن نفسي منظمة تقوم على تصوير الآخر على أنه تهديد قائم ومحتمل، وهنا تلعب الصور النمطية دورًا هامًّا، خاصة وأنها تقوم على تصورات مفرطة في التبسيط وتتسم بالمبالغة والانحياز، والتعميم المفرط، ولعل ما شهدته الآونة الأخيرة من انتشار وتصاعد الصور النمطية استنادًا إلى الشحن الإعلامي والسياسي ساهم بصورة مباشرة في تصاعد العداءات بين الدول، حيث يحذر السياسيون بشكل مستمر من الأخطار التي تواجه رعاياهم: الإرهاب، والتعصب الديني، والإمبريالية الاقتصادية، والمغامرات العسكرية، والفساد الأخلاقي، وانهيار النظام الاجتماعي، والشغب والجريمة والفساد، وغيرها. وغالبًا ما تعلن الأمم والأديان والأحزاب والحركات عن أعدائها من خلال وسائل الإعلام والسرد المتوارث، ومن هنا تمثل الخطوة الحاسمة في تطور علاقات الخصومة إلى علاقات عداء في الانتقال من التصور الواقعي والدقيق للآخر المختلف، إلى إطلاق الأحكام الأخلاقية حياله، فيصبح "الآخر السيئ" أو "الآخر الخطير" الذي يمثل تهديدًا لتماسك وبقاء الجماعة، ويتعين هنا التنبيه إلى أن "صورة العدو" لا تقتصر على مشاعر الكراهية؛ بل يجب أن تنطوي على احتمال التهديد بالعدوان والعنف(16) .
ويقوم العداء -إلى حد كبير- على الواقع المدرك وليس الواقع الحقيقي، فقد كشفت دراسة كلاسيكية أجريت في الولايات المتحدة في خضم الحرب الباردة أن الشباب ينظرون إلى السوفيت على أنهم "عدو"، ليس لأنهم يشكلون تهديدًا ماديًّا للولايات المتحدة ولكن بسبب اختلاف أيديولوجيتهم وموقفهم كقوة منافسة. ويبدو أن الخصائص التي تشكل "علاقات العداء" تتباين استنادًا إلى العديد من المتغيرات. معظم البالغين الذين تزيد أعمارهم عن خمسين عامًا والذين مروا بتجربة شخصية مع الحرب يعرّفون "العدو" بالطريقة التقليدية، أي إنه يعني البلد الذي نحن فيه في حالة حرب معه، ومع ذلك فإن معظم الشباب في أوروبا والولايات المتحدة لم يختبروا أي حرب خلال حياتهم البالغة، ويحددون باستمرار "العدو" بعبارات أكثر تجريدًا، بما في ذلك الأيديولوجيات أو الأديان أو القيم أو التنافس على الهيمنة على العالم. ومؤخرًا تم توسيع تعريف العدو وربطه في الغالب بأشخاص مختلفين وغير معروفين بدلًا من الأشخاص المهددين(17) .
التحالفات وصناعة العداء:
يجادل أنصار المدرسة الواقعية بأن الدول تحركها غريزة البقاء، ولكن بما أنه لا يمكن لأي دولة ضمان بقائها من خلال الاعتماد على قوتها منفردة، فيتعين عليها السعي إلى الاندماج مع حلفاء للتعامل مع التهديدات الأمنية؛ إلا أن هذا السعي تواجهه عقبة ضعف الثقة والخوف من الاستغلال، ويحل الواقعيون هذه المفارقة بحجة أن الدول حليفة على أساس توافق المصالح الاستراتيجية، وأن منطق ميزان القوى يجعل الدول تشكل تحالفات وتتعاون ضد الأعداء المشتركين، وبالتالي فإن الدول التي تتشارك في الأعداء من المرجّح أن تصبح دولًا متحالفة(18) .
وتحدث علاقات الصداقة والعداوة غير المباشرة عندما يُعد أعداء الحلفاء أعداء لأنه -حتى لو لم تكن هذه الجهات معادية مباشرة للدولة المحورية- فقد يحولها حلفاؤها بصورة مقصودة أو غير مقصودة إلى طرف في الصراع. وبالمثل، ترى الدول حلفاء الأعداء كأعداء محتملين، لأنهم ينظرون إلى أنفسهم كأهداف محتملة للتحالفات التي أقامها أعداؤهم، وبالتالي فهي تعمل على موازنة التحالفات التي قد تكون معادية، أو الشروع في صراع وقائي ضدها، وغالبًا ما يدفع هذا المنطق النظام الدولي نحو القطبية، ويصعد من خطر النزاع العالمي(19) .
آليات الحد من العداء في التفاعلات الدولية:
تناولت الأدبيات العديد من الآليات التي يمكن اللجوء اليها للحد من العداء، وقد اتجهت رؤى أخرى لطرح آليات تهدف إلى تحويل العداء إلى صداقة، من خلال عدة مراحل رئيسية يجملها "تشارلز كوبشان" (2011) فيما يلي(20) :
1- التسوية من جانب واحد Unilateral Accommodation: تبدأ المصالحة بعمل من جانب واحد، حيث تسعى الدولة التي تواجه تهديدات متعددة إلى إزالة أحد مصادر انعدام الأمن من خلال ممارسة ضبط النفس الاستراتيجي، وتقديم تنازلات للعدو، ومثل هذه التنازلات تشكل عرضًا للسلام يهدف إلى إظهار النوايا الحميدة بدلًا من النوايا العدائية، حيث يشير البادئ إلى أنه ليست لديه نية عدائية، وأنه يعتقد أن نوايا الدولة المستهدفة حميدة أيضًا، مما يرسل إشارة واضحة عن رغبته في تجنب الصراع.
2- ضبط النفس المتبادل Reciprocal Restraint : المرحلة الثانية تستلزم ممارسة ضبط النفس المتبادل، حيث يستجيب الطرف الآخر إلى عرض البادئ بحسن نية، بعد ذلك يتبادل البلدان التنازلات ويبتعد كل منهما بحذر عن التنافس لأنه يدرك أن المنافسة قد تخف وتفسح المجال في النهاية للتعاون، ويمارس كلا الطرفين بسهولة التسوية ويتوقعان المعاملة بالمثل.
3- التكامل المجتمعي Societal Integration: تستلزم المرحلة الثالثة من بداية السلام المستقر تعميق التكامل الاجتماعي بين الدول المشاركة في المصالحة، حتى هذه النقطة، فإن التقارب هو في المقام الأول مرتبط بالنخبة، ويقتصر على صناع القرار والدبلوماسيين والعسكريين المشاركين في الحكم والسعي لتحقيق المصالحة. في المرحلة الثالثة، يوسع التقارب قاعدته المجتمعية؛ ويمتد الاتصال المنتظم بين الولايات المعنية إلى البيروقراطيين ونخب القطاع الخاص والمواطنين العاديين، تبدأ مجموعات المصالح التي تستفيد من العلاقات الأوثق في الاستثمار في الضغط من أجل مزيد من تخفيف الحواجز الاقتصادية والسياسية، مما يضيف قوة دفع لعملية المصالحة.
4- جيل من الروايات والهويات الجديدة: حيث تستلزم المرحلة الرابعة والأخيرة توليد قصص وهويات جديدة من خلال بيانات النخبة والثقافة الشعبية (وسائل الإعلام والأدب والمسرح) والأشياء المليئة بالرمز السياسي، مثل المواثيق والأعلام والأناشيد، حيث تتبنى الدول المعنية خطابًا محليًّا جديدًا يمكّن الشركاء الناشئين من الاحتفاظ بهويات حميدة لبعضهم بعضًا، وإزالة التمييز بين الذات والآخر، وإفساح المجال للهويات الجماعية والشعور المشترك بالتضامن، واستكمال تحقيق سلام مستقر.
ويضاف إلى ما سبق ما وصفه "فيشباك" و"كوستمان" Kosteman& Feshbackبأنسنة العدو Rehumanization of the enemy، ويريان أنها مرحلة يجب أن تسبق أو تصاحب محاولات الحد من العداء بين الدول، حيث تقوم علاقات العداء على تجريد العدو من إنسانيته Dehumanization حتى يمكن محاربته دون ندم. إن أنسنة العدو من خلال إعادة تصويره إعلاميًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا ككيان طبيعي يغير العلاقة مع العدو، أو على أدنى تقدير سيجعله خصمًا أو منافسًا. إن التعاطف الواقعي هو القضية الرئيسية في عملية إعادة إنسانية العدو، وتتطلب منا تجاوز التحيزات. ولا يعني التعاطف الواقعي أن العدو ليس توسعيًا أو عدائيًا أو خطيرًا، هذا يعني فقط أننا ندرك احتياجات العدو وآماله ومخاوفه، والمحفزات التي تحفزه على التحرك. إذا استطعنا تطوير التعاطف الواقعي فسيتم تقليل العديد من التحيزات المعرفية والحسية، وسنكون أقل عرضة للتنبؤات العدائية، والاهتمام السلبي الانتقائي، وسنطبق عددًا أقل من المعايير المزدوجة في تقييم تصرفات العدو. وهذه النظرة الأكثر واقعية للعدو تؤدي إلى الرد على التهديدات الحقيقية بطريقة واقعية ومناسبة، وقبل كل شيء فعالة(21).
المراجع:
1- Rodney Barker. Making Enemies. Palgrave Macmillan, 2007.
2- Samuel P. Huntington,The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order. New York: Touchstone, 1997, p.21.
3- Global Peace Alliance, Surrey Society. Eliminate the Emity, not the enemy: A Recipe for Lasting Peace on Earth, January 1, 2015, https://peacealways.org/eliminate-the-enmity-not-the-enemy-a-recipe-for-lasting-peace-on-earth/
4- Obert R. Holt, College students’ definitions and images of enemies. Journal of Social Issues, 45 (1989), 33-50, p. 48.
5- Zur, O. (1991). The love of hating: The psychology of Enmity. History of European Ideas, 13(4), 345-369.
6- Zeev Maoz, Davis Lesley G. Terris, Ranan D. Kuperman. What Is the Enemy of My Enemy? Causes and Consequences of Imbalanced International Relations, 1816–2001. The Journal of Politics, Vol. 69, No. 1, February 2007, pp. 100–115
7- Institute for Economics & Peace. Global Peace Index 2019: Measuring Peace in a Complex World, Sydney, June 2019. Available from: http://visionofhumanity.org/reports (accessed 11/4/2019)
8- World Economic Forum. The Global Risks Report 2017, Geneva, 12th Edition
http://www3.weforum.org/docs/GRR17_Report_web.pdf, (accessed31/10/2019)
9- András Körösényi.Politics of Friendship versus Politics of Enmity. For the ECPR Workshop on "The Politics of Friendship", Granada, April 2005, https://ecpr.eu/Filestore/PaperProposal/126e3742-7d60-4761-9441-6b3040300d8d.pdf, (accessed1/11/2019)
10- Rodney Barker. Making Enemies. PALGRAVE MACMILLAN, 2007
11- András Körösényi.Politics of Friendship versus Politics of Enmity. For the ECPR Workshop on "The Politics of Friendship" Granada April 2005
12- Rodney Barker. Op.cit.
13- Ibid.
14- Rajeev Bhargava.The politics of enmity. The Hindu, April 02, 2019, https://www.thehindu.com/opinion/op-ed/the-politics-of-enmity/article26705249.ece
15- Zur, O. (1991). The love of hating: The psychology of Enmity. History of European Ideas, 13(4), 345-369.
16- Zur, O. (1991). The love of hating: The psychology of Enmity. History of European Ideas, 13(4), 345-369.
17- Ibid.
18- Zeev Maoz, Davis Lesley G. Terris, Ranan D. Kuperman. What Is the Enemy of My Enemy? Causes and Consequences of Imbalanced International Relations, 1816–2001. The Journal of Politics, Vol. 69, No. 1, February 2007, pp. 100–115.
19- Ibid
20- Charles A. Kupchan. Enmity into Amity: How Peace Breaks Out. International Policy analysis, April 2011,https://library.fes.de/pdf-files/iez/07977.pdf
21- Kosteman, R and Feshback,S. Towards a measure of patriotic and nationalistic attitudes. Political Psychology, 10 (1989), 257-274.