لا يزال مشهد الحراك السياسي في الساحة العراقية ضاغطاً على المواقف السياسية باتجاه الاستمرار لاستكمال مطالبه، ومنها تعديل قانون الانتخابات وحل البرلمان، في الوقت الذي تتراوح فيه ردود فعل القوى السياسية بين الذهاب إلى انتخابات مبكرة أو الاكتفاء بتلبية مطلب إقالة الحكومة واستبدالها بأخرى في إطار المشاورات السياسية التي شاركت فيها لترشيح شخصية بديلة لرئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي، على ضوء الحصص السياسية التي فرضتها نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
وفي المقابل، أبدت كتل أخرى، وأبرزها "سائرون"، وهى من أكبر الكتل النيابية، تجاوباً مع مطالب الحراك بالذهاب إلى انتخابات مبكرة بدعوى أن الحراك انتفض ضد السياسات والقواعد والمؤسسات التي أفرزت الحكومة الأخيرة، وربما الحكومات التي سبقتها، وأن هناك حاجة إلى إجراء تغيير شامل في كل المنظومة السياسية.
اتجاهات مضادة:
تزايد إصرار الحراك على استكمال ما بدأه في أعقاب الهجمات التي تعرض لها المحتجون في ساحتى السنك والخلاني في 7 ديسمبر الجاري، والتي رفعت نسبة الضحايا في صفوفه، فضلاً عن استهداف بعض الرموز السياسية والدينية التي تؤيد مطالبه، ومنهم رجل الدين البارز مقتدى الصدر، الذي تعرض منزله في منطقة الحنانة بمحافظة النجف، في اليوم نفسه، لقصف من طائرة من دون طيار، لم تستبعد اتجاهات عديدة أن تكون قد استخدمت من جانب فصائل محسوبة على "الحشد الشعبي" ومؤيدة لإيران، وبالتالي معارضة لتوجهات الصدر، لاسيما دعوته لأتباعه بحماية التظاهرات.
وفي مقابل ذلك، فإن قيادات أخرى قريبة من إيران، ومنها زعيم "عصائب أهل الحق" قيس الخزعلي، أبدت اعتراضها على تلك التطورات، وهاجمت الحراك ملوحة بـ"يوم دامٍ".
متغيران رئيسيان:
لكن إجمالاً، كشفت تلك المواقف والتطورات عن خريطة الاتجاهات السياسية في المشهد العراقي فرضها متغيران رئيسيان: يتمثل المتغير الأول، في الأحداث التي وقعت في ساحتى الخلاني والسنك، والتي أنتجت تداعيات عكسية على معارضي الحراك، حيث استقطبت قاعدة جديدة ومنظمة، وهى طلاب المدارس والجامعات.
وقد ضاعف هذا التطور تحديداً، كما يرى مراقبون عراقيون، التحديات ضد إيران وحلفائها المحليين، وأربك حساباتهم، حيث أنه قوَّض المزاعم التي تروجها الأولى بأن ما يجري تقف وراءه الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وأن "منتسبين إلى نظام البعث ما قبل ٢٠٠٣ يحركون جانباً منها".
لكن حراك الطلاب أفقد تلك المزاعم وجاهتها، لاسيما وأنه عابر للطائفية، فضلاً عن أن قسماً كبيراً من هذا الجيل الشاب لم يعاصر نظام البعث ويصعب أيضاً قبوله بتلك الذرائع في ظل ما يلمسه من تداعيات للعملية السياسية، لاسيما ما يتقاطع منها مع النفوذ الإيراني في العراق.
وينصرف المتغير الثاني، إلى الاستجابة التدريجية لمطالب الحراك، فمع استمرار التظاهرات واتساع قاعدتها، يبدو أن هناك استجابة تجري مع كل منعطف، على نحو سوف يشجع قوى الحراك على مواصلة الضغط باتجاه تلبية مطالبه، ومنها القضاء على الفساد، وبالتالي تغيير النظام السياسي الذي كرّس له وفقاً للتجربة العراقية حسب رؤية بعض الكوادر الرئيسية في الحراك، دون أن ينفي ذلك أن هناك جبهة معارضة تحاول الحيلولة دون تحقيق ذلك، لما يمكن أن يفرضه من تهديدات لمصالحها ونفوذها.
سيناريوهات محتملة:
وفي هذا السياق، يمكن طرح مسارات ثلاثة محتملة قد يتجه إليها المشهد السياسي في العراق خلال المرحلة القادمة، تتمثل في:
1- السيناريو اللبناني: يرى التيار المؤيد للتغيير أنه حتي مع الذهاب لانتخابات مبكرة، فإن الأمر سيحتاج لفترة تتراوح بين ٦ أشهر وعام، وبالتالي ستكون هناك مرحلة زمنية يتعين أن تتشكل فيها حكومة، ويحظى ذلك بتأييد من جانب بعض الكتل السنية، فيما لم تقبله أو ترفضه الكتل الكردية باعتباره أمراً قابلاً للنقاش، بينما يرفض التيار الصدري التشاور حول اختيار رئيس للحكومة وفق المعايير السابقة، على نحو يشبه، إلى حد ما، ما تشهده الساحة السياسية اللبنانية في الوقت الحالي من خلافات سياسية بين الكتل الرئيسية مع استمرار الضغط في الشارع السياسي الذي أدى إلى استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري، رغم الاختلاف في حدة المشهد الخاص بالساحات.
2- سيناريو الفوضي: والذي قد يحدث مع استمرار أعمال العنف وتورط الميليشيات في مزيد من التصعيد، بالتوازي مع استمرار المحاولات الإيرانية لإجهاض الحراك واحتواء مطالبه، ومحاولة توجيه المشهد السياسي بعيداً عن الساحات، عبر استخدام آليات عديدة منها، مثلاً، العودة إلى التحذير من وجود خلايا لتنظيم "داعش" في العراق، أو التصعيد مع الولايات المتحدة الأمريكية من خلال استهداف بعض مواقع انتشار أو تمركز قواتها على نحو ما جرى في عملية استهداف قاعدة "بلد".
3- إدارة الأزمة: من خلال التعاطي السياسي بشكل تكتيكي يسمح بنوع من الموازنة بين مطالب الحراك وعدم الانزلاق إلى الفوضي، لكن هذا المشهد يتطلب، وفق الخبرات العراقية، تقارباً بين المرجعية العليا الممثلة في علي السيستاني وبين الكتل السياسية, على نحو ما جرى في خطوة استقالة الحكومة، كما سيتوقف أيضاً على التحولات الخاصة بقوى الحراك ومدى إمكانية إجراء الحوار مع رموزها في إطار إجراءات أمنية تحول دون استخدام القوة والعنف ضدها.
في النهاية؛ يمكن القول إن المشهد السياسي العراقي لا يزال يتسم بحالة من السيولة، بالنظر إلى طبيعته ومتغيراته وتفاعلاته المستمرة، التي تبدو غير مسبوقة على مدار أكثر من ١6 عاماً منذ الإطاحة بنظام الرئيس الأسبق صدام حسين. لكنه أيضاً سيظل مشهداً مرتبكاً، في ظل تعقيدات المعادلة السياسية بين أطراف متعددة وتداخل حساباتها إزاء المرحلة المقبلة، ولكن المؤكد أن ما يحدث الآن سيظل نقطة تحول مفصلية في تقييم التجربة السياسية العراقية بأكملها.