رغم أن الأسباب الرئيسية المعلنة التي أدت إلى اندلاع الاحتجاجات الحالية في إيران بداية من 15 نوفمبر الجاري، هى نفسها الدوافع التي ساهمت في تصاعد التظاهرات في 28 ديسمبر 2017، إلا أن ذلك لا ينفي أن ثمة اختلافات عديدة بين الحدثين، ربما يكون السياق الزمني هو المتغير الأهم الذي يمكن من خلاله التمييز بينهما، إذ أن الاحتجاجات الحالية تأتي في ظل ظروف بالغة الصعوبة تواجهها إيران على الساحتين الداخلية والخارجية، على نحو يفرض غموضاً حول مساراتها المحتملة وما إذا كان يمكن أن تتراجع حدتها تدريجياً على غرار ما جرى في نهاية 2017، أم أنها يمكن أن تتطور إلى مرحلة أو مستوى آخر غير مسبوق يشكل تحدياً حقيقياً للنظام.
تصعيد مبكر:
ربما يكون أهم ما يميز الاحتجاجات الحالية التي تشهدها إيران، ويتمثل سببها المعلن في الاعتراض على رفع أسعار الوقود، هو التصعيد اللافت والمبكر فيها، والذي بدا جلياً في مؤشرات عديدة منها تجاوز عدد القتلى، وفقاً لتقارير مختلفة، في الأيام الثلاثة الأولى منها حاجز الثلاثين، ووصول عدد المعتقلين إلى أكثر من ألف، مع تعرض منشآت اقتصادية لأعمال تخريب وفرض قيود على شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.
ورغم أن مثل هذه الأحداث لا تعبر عن ظاهرة جديدة في الاحتجاجات المتوالية التي تشهدها إيران، إلا أن ارتفاع منسوب التصعيد فيها بشكل مبكر يبقى علامة مميزة، على نحو لا يمكن معه الفصل بين ذلك وبين الضغوط الحالية التي يواجهها النظام الإيراني، والتي ربما تكون غير مسبوقة بالنسبة له.
ومن هنا، يمكن القول إن الاحتجاجات الحالية تتشابه مع مثيلاتها التي وقعت في السابق من ناحية الأسباب المعلنة لاندلاعها، دون أن ينفي ذلك أن ثمة محاور عديدة للاختلاف بين الطرفين، يمكن تناولها على النحو التالي:
1- الأزمة الاقتصادية المزمنة: رغم أن الاحتجاجات في ديسمبر 2017 جاءت على خلفية اقتصادية أيضاً، إلا أنها لم تتوازى مع ضغوط اقتصادية قوية يواجهها النظام. ففي هذه الفترة لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية قد انسحبت من الاتفاق النووي أو فرضت عقوبات على إيران، حيث أنها بدأت اتخاذ هذه الإجراءات في 8 مايو 2018، بما يعني أن إيران كانت لديها القدرة على تصدير نفطها والحصول على عوائده نقداً، بالتوازي مع تحسن علاقاتها مع الدول الأوروبية. وقد أشارت تقديرات عديدة إلى أن الإيرادات التي حصلت عليها إيران من صادراتها النفطية، التي كانت تبلغ قبل مايو 2018 أكثر من 2.6 مليون برميل يومياً، وصلت إلى نحو 50 مليار دولار.
لكن في الوقت الحالي، الوضع يبدو مختلفاً إلى حد كبير. ففضلاً عن أن الولايات المتحدة الأمريكية انسحبت من الاتفاق النووي، في 8 مايو 2018، فقد فرضت عقوبات ضد إيران على مرحلتين في 7 أغسطس و5 نوفمبر من العام نفسه، وتلتها سلسلة عقوبات أخرى طالت مسئولين عسكريين وسياسيين، بالتوازي مع إلغاء الإعفاءات التي منحتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى ثماني دول كانت تستورد النفط الإيراني في 22 إبريل 2019، على نحو ساهم في تقليص حجم الصادرات النفطية الإيرانية من حوالي 2.6 مليون برميل قبل مايو 2018 إلى 160 ألف برميل في أغسطس 2019.
2- الضغوط الخارجية غير المسبوقة: لم تواجه إيران هذا المستوى من الضغوط الإقليمية والدولية في أى وقت سابق مثلما تبدو في الوقت الحالي. إذ كاد التصعيد مع الولايات المتحدة الأمريكية أن يتطور إلى مرحلة استخدام القوة العسكرية، خاصة بعد أن قامت الدفاعات الأرضية الإيرانية بإسقاط طائرة أمريكية من دون طيار في 20 يونيو 2019.
كما وصلت العلاقات بين إيران والدول الأوروبية إلى مرحلة غير مسبوقة من التوتر، بعد أن كانت قد شهدت تحسناً كبيراً في عامى 2016 و2017، بدا جلياً في الزيارات المتكررة التي قام بها الرئيس حسن روحاني إلى بعض الدول الأوروبية مثل فرنسا وإيطاليا إلى جانب الفاتيكان، وذلك بسبب الإجراءات التصعيدية التي تواصل إيران اتخاذها، لاسيما على صعيد تخفيض مستوى التزاماتها النووية وآخرها إعادة تخصيب اليورانيوم في مفاعل فوردو.
ومن هنا، لم يعد انسحاب بعض تلك الدول من الاتفاق النووي، على غرار الخطوة التي اتخذتها الولايات المتحدة الأمريكية، مستبعداً، بعد أن أدركت أن استمرار العمل به لن يحقق الأهداف التي كانت تسعى إليها من خلاله، حيث أفرغته الإجراءات الإيرانية من مضمونه.
3- الصراعات الداخلية الحادة: عندما اندلعت الاحتجاجات في ديسمبر 2017، كانت إيران قد انتهت من إجراء الانتخابات الرئاسية وقبلها الانتخابات التشريعية، حيث أسفرت تلك الاستحقاقات عن تحقيق تيار المعتدلين، الذي يضم قوى من المحافظين التقليديين والإصلاحيين، نتائج بارزة بدت جلية في حصوله على نسبة كبير من مقاعد مجلس الشورى بالتوازي مع فوز الرئيس حسن روحاني بفترة رئاسية ثانية على أحد أهم رموز تيار المحافظين الأصوليين رئيس السلطة القضائية الحالي إبراهيم رئيسي الذي تشير تقارير عديدة إلى أنه ربما يدخل ضمن قائمة المرشحين لخلافة المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي في منصبه، خاصة في ظل اقترابه بشكل كبير من المرشد، ونجاحه في تأسيس علاقات قوية مع المؤسسات النافذة في النظام، وفي مقدمتها الحرس الثوري.
أما الآن، فإن الاحتجاجات الحالية اندلعت قبيل فترة وجيزة من الاستحقاقات التشريعية والرئاسية القادمة، حيث سوف تجري الانتخابات التشريعية في فبراير 2020، تليها الانتخابات الرئاسية في ربيع 2021.
وهنا، فإن تيار المحافظين الأصوليين يسعى إلى تعزيز نفوذه داخل مراكز صنع القرار في النظام عبر تحقيق نتائج قوية في هذه الاستحقاقات، حيث سيحاول استعادة الأغلبية داخل مجلس الشورى، والفوز بمنصب رئيس الجمهورية، الذي لن يتولاه الرئيس روحاني لفترة رئاسية ثالثة، حيث لا يسمح له الدستور بالترشح لفترة رئاسة ثالثة على التوالي، على نحو يضع تيار المعتدلين أمام مأزق حقيقي نتيجة غياب الشخصية التوافقية التي يمكن أن تحظى بإجماع من جانب القوى الرئيسية فيه، للعمل على استمرار تكريس سيطرته على هذا المنصب.
وربما يفسر ذلك، إلى حد كبير، أسباب حرص اتجاهات عديدة على الإشارة إلى أن ممارسات بعض مؤسسات النظام كانت سبباً رئيسياً في تفاقم الاحتجاجات الحالية، على غرار الحرس الثوري الذي يشارك في عمليات تهريب الوقود إلى دول الجوار، بسبب رخص ثمن الوقود الإيراني مقارنة بتلك الدول، حيث تشير التقديرات إلى أنه يتم تهريب ما بين 10 إلى 20 مليون لتر يومياً.
كما لا يمكن استبعاد أيضاً أن تتجه قوى المحافظين الأصوليين إلى استغلال الاحتجاجات الحالية لممارسة مستوى أعلى من الضغوط على الرئيس روحاني، على نحو يبدو جلياً في محاولات استدعاءه للمثول أمام مجلس الشورى، وهو ما يوحي بأنها تحاول توظيف الاحتجاجات الحالية لتعزيز فرصها في الفوز بالاستحقاقات السياسية القادمة.
في النهاية، يمكن القول إن ما يحدث في إيران يطرح دلالة مهمة تتمثل في أن المقاربة الأمنية التي يعتمدها النظام في التعامل مع الاحتجاجات لم تحقق نتائج بارزة، بدليل أن تجدد الاحتجاجات وتصاعدها أصبح سمة رئيسية في التفاعلات الداخلية الإيرانية خلال العقد الأخير.