أبدت إيران رفضاً واضحاً للعملية العسكرية التي تشنها تركيا في شمال سوريا، بداية من 9 أكتوبر الجاري، تحت مسمى "نبع السلام". واتخذت خطوات عديدة حاولت من خلالها توجيه إشارات إلى أنقرة بأنها لا تدعم الترتيبات الأمنية التي تقوم بصياغتها في شمال سوريا، لاسيما أنها كانت بالتوافق مع روسيا والولايات المتحدة الأمريكية. وبالطبع، فإن إيران لا تفصل ذلك عن مجمل التطورات التي تشهدها الملفات الأخرى التي تنخرط فيها بشكل مباشر، سواء التصعيد المتواصل مع واشنطن حول الاتفاق النووي والبرنامج الصاروخي، أو الخلافات التي بدأت تظهر تدريجياً مع روسيا حول التطورات السياسية والأمنية في سوريا.
رفض واضح:
لم تكتف إيران بإبلاغ تركيا معارضتها للعملية العسكرية التي تشنها داخل الأراضي السورية في الفترة الحالية، حيث اتخذت خطوات أخرى في هذا السياق، منها إلغاء رئيس مجلس الشورى علي لاريجاني زيارته إلى اسطنبول، والتي كانت ستجري بالتوازي مع بداية العملية، للمشاركة في اجتماع برلماني بدعوة من نظيره التركي. كما سمحت السلطات الإيرانية لوسائل إعلام بشن حملة قوية ضد تركيا والرئيس رجب طيب أردوغان، على غرار صحيفة "فرهيختگان"، التي وضعت على صفحتها الأولى، في العدد الصادر في 8 أكتوبر الجاري، عنوان "السلطنة في خدمة الإرهاب"، وصورة للرئيس أردوغان، حيث اعتبرت أن العملية العسكرية سوف تمنح "تنفساً صناعياً للإرهاب".
اعتبارات مختلفة:
رغم أن الأسباب المعلنة من جانب إيران لتفسير رفضها تلك العملية ترتبط بتأكيدها على أن ذلك يتعارض مع وحدة الأراضي السورية ومع التفاهمات التي تتواصل مع تركيا وروسيا في إطار مسار الآستانة، إلا أن ثمة اعتبارات أخرى دفعت إيران إلى تبني هذا الموقف يمكن تناولها على النحو التالي:
1- تفاهمات روسية - تركية: لا تبدي طهران ارتياحاً تجاه التفاهمات المستمرة بين موسكو وأنقرة. ورغم أن قسماً من هذه التفاهمات يتم في إطار محادثات الآستانة التي تشارك فيها بصفة مستمرة، باعتبار أنها أحد رعاتها الرئيسيين، إلا أن طهران ترى أن ثمة تنسيقاً ثنائياً بين الطرفين يجري دون النظر إلى ما إذا كان ذلك يتوافق مع مصالحها ورؤيتها لمستقبل الترتيبات السياسية والأمنية في سوريا أم لا.
ومن دون شك، فإن ذلك لا ينفصل عن قلق طهران من السياسة التي تتبناها موسكو في سوريا، والتي تقوم على فتح قنوات تواصل مع كافة الأطراف الإقليميين والدوليين المنخرطين في الصراع، بما فيهم خصوم طهران نفسها، على غرار إسرائيل والولايات المتحدة. وهنا، فإن إيران ترى أن موسكو تسعى إلى تكريس دورها باعتبارها الرقم الأصعب في المعادلة السورية والمحور الرئيسي في مجمل الترتيبات التي يجري العمل على صياغتها في مرحلة ما بعد تراجع المواجهات المسلحة مع استعادة النظام للجزأ الأكبر من الأراضي السورية.
ويبدو أن إيران باتت ترى أنه إذا كان هناك حرص من جانب موسكو على احتواء الخلافات معها حول الترتيبات السياسية والأمنية في سوريا، أو عدم إخراجها إلى العلن، فإن ذلك قد لا يستمر طويلاً وربما لا يمثل سياسة روسية مستقرة. إذ قد تصل تلك الخلافات إلى مرحلة من النضوج لدرجة لا يمكن معها احتواءها أو فرض تعتيم عليها، خاصة مع اقتراب استحقاقات سياسية مهمة، على غرار اللجنة الدستورية.
وقد كان لافتاً أن بعض وسائل الإعلام الإيرانية، القريبة من الحرس الثوري، مثل موقع "رجانيوز"، حرصت على الإشارة إلى أن الخلافات الروسية- الإيرانية كان لها دور في إطلاق يد تركيا في شمال سوريا، بما يعني أن تلك الخلافات ساهمت في توسيع نطاق الخيارات وحرية المناورة المتاحة أمام أنقرة قبل تنفيذ عمليتها العسكرية.
2- ضغوط أمريكية مستمرة: لا تستبعد إيران أن يكون أحد أهداف التفاهمات الأمريكية-التركية التي مهدت الطريق أمام الوصول إلى توافق حول إقامة منطقة آمنة في شمال سوريا، يكمن في سعى واشنطن إلى دفع أنقرة نحو تبني سياسة أكثر توازناً تجاهها. فعلى مدار العام ونصف الأخيرين، تبنت أنقرة سياسة مؤيدة، إلى حد ما، لموقف طهران إزاء التصعيد مع واشنطن، حيث رفضت، في البداية، العقوبات الأمريكية المفروضة على طهران، وما زالت مُصِرَّة على مواصلة التعاملات الثنائية مع الأخيرة، وربما تتحول العلاقات معها إلى آلية تحاول إيران استخدامها للالتفاف على العقوبات الأمريكية، على غرار ما حدث خلال فترة العقوبات الدولية التي توقف العمل بها مع تطبيق الاتفاق النووي.
وقد ترى طهران أن واشنطن أيضاً تسعى إلى توسيع نطاق الخلافات بينها وبين موسكو، خاصة أنها تدرك أن الأولى تراهن على أن علاقاتها مع الأخيرة يمكن أن توفر لها ظهيراً دولياً تستطيع الاستناد عليه في حالة ما إذا اتجه التصعيد حول الاتفاق النووي إلى مسارات لا تتوافق مع مصالحها، على غرار نقل الملف الإيراني إلى مجلس الأمن من جديد.
3- أهمية إدلب: ما زالت إيران حريصة على الترويج إلى أن "الخطر" الأكبر الذي يواجه مستقبل الترتيبات الأمنية والسياسية في سوريا يتمثل في بقاء مشكلة إدلب دون تسوية. ففي رؤيتها، فإن هذا الملف يكتسب أهمية أكبر بمراحل من "الخطر" الذي تزعم تركيا أنه يواجهها من خلال سيطرة الميليشيا الكردية على المناطق المحاذية لحدودها. وربما ترى اتجاهات في طهران أن أحد أهداف العملية العسكرية التركية يتعلق بمحاولة توجيه الانتباه بعيداً عن ملف إدلب، التي تحولت إلى "خزَّان جهادي" في ظل سيطرة التنظيمات الإرهابية عليها، وهو الملف الذي سعت إيران وروسيا والنظام السوري إلى منحه الأولوية في الفترة الماضية من أجل إنهاء وحود التنظيمات الموجودة فيها وتوسيع نطاق سيطرة القوات النظامية على الأرض.
زاوية أخرى:
مع ذلك، فإن اتجاهات في إيران بدأت في الإشارة إلى أنه يمكن استغلال التداعيات التي تفرضها تلك العملية. ففي رؤيتها، فإن هذه العملية سوف تدفع الأكراد إلى رفع مستوى التنسيق، السياسي والأمني، مع النظام السوري، بشكل يمكن أن يعزز موقفه قبل الاستحقاقات السياسية القادمة. كما أنها لا تستبعد أن تكون لتلك العملية تكلفة تفرض أعباءً أكبر على أنقرة، وهو ما قد يتم استثماره في مرحلة لاحقة لامتلاك أوراق ضغط ضد الأخيرة.
وفي كل الأحوال، لا يرجح أن تتجه إيران إلى إجراء تغيير كبير في سياستها تجاه تركيا. فرغم الخلافات العالقة بين الطرفين، والتي بدت جلية في العملية العسكرية الحالية، إلا أن الضغوط الإقليمية والدولية التي تتعرض لها الأولى في المرحلة الحالية لا توفر لها هامشاً واسعاً من حرية الحركة، بشكل سيجعلها حريصة على استمرار علاقاتها مع تركيا، على المستويات المختلفة، وربما تتجه إلى محاولة ممارسة دور الوسيط بين تركيا من جهة والنظام والأكراد من جهة أخرى.