ما زالت إيران حريصة على توسيع هامش الخيارات وحرية الحركة المتاح أمامها في إدارة خلافاتها مع القوى الدولية الساعية إلى إجراء مفاوضات جديدة للوصول إلى اتفاق يستوعب مجمل القضايا العالقة بين الطرفين، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية، على نحو بدا جليًا في المبادرة الأخيرة التي عرضتها إيران وتقضي بقبولها تعديلات بسيطة على الاتفاق، بالتوازي مع مشاركة الرئيس حسن روحاني في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي تخللتها جهود بذلتها فرنسا لترتيب لقاء بينه وبين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
سعت إيران عبر المبادرة الجديدة التي أعلنت عنها، في 25 سبتمبر الجاري، إلى تحقيق أهداف عديدة دون أن يكون لديها استعداد لتقديم تنازلات حقيقية يمكن أن تحتوي التحفظات التي تبديها العديد من القوى الدولية على الاتفاق الحالي. وفي الواقع، فإن ذلك ربما يشير إلى أن إيران بدأت تدرك أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد الطرف الوحيد الذي يسعى إلى إجراء مفاوضات جديدة، بل امتد ذلك إلى الدول الأوروبية التي اعتبرت أن الأحداث الأخيرة التي وقعت في منطقة الخليج بالتوازي مع التصعيد الإيراني- الأمريكي، تفرض ضرورة إجراء هذه المفاوضات لتسوية الخلافات حول القضايا الأخرى، مثل برنامج الصواريخ الباليستية والتدخلات الإيرانية في المنطقة، لا سيما في دول الأزمات. وعلى ضوء ذلك، يمكن تناول أهم أهداف إيران من هذه المبادرة على النحو التالي:
1- تكريس الطابع النووي للاتفاق: تحاول إيران عبر هذه التنازلات غير الجادة تكريس الطابع النووي للاتفاق، بما يعني استثناء القضايا الأخرى محل الخلاف من أى مفاوضات قد تجري في المستقبل. وبمعى آخر، فإن إيران تسعى عبر ذلك إلى الإيحاء بأن الخلاف الأساسي مع الدول الغربية يكمن في البرنامج النووي، أو محاولات إيران الوصول إلى مرحلة إنتاج القنبلة النووية.
وهنا، فإن إيران تطمح في أن تؤدي مثل هذه المفاوضات المفترضة، وهو احتمال يواجه عقبات عديدة بالفعل، إلى انتزاع اعتراف غربي بدورها في المنطقة وعدم تقديم تنازلات في برنامجها للصواريخ الباليستية.
2- تدوير الزوايا: لا تفرض المبادرة الجديدة التي قدمتها إيران قيمة مضافة للاتفاق الحالي، لأنها تحاول أن تؤكد ما سبق التأكيد عليه، وهو أن إيران لن تسعى إلى إنتاج القنبلة النووية. وهنا، فإن الهدف المعلن لها لا يختلف عن ما سعت القوى الدولية إلى تحقيقه عبر الوصول للاتفاق الحالي مع إيران في 14 يوليو 2015. إذ حاولت تلك القوى من خلال هذا الاتفاق منع إيران من الوصول إلى القنبلة النووية، رغم أن هناك اتجاهات عديدة، من بينها إدارة الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، اعتبرت أن هذا الاتفاق لم يتضمن الآليات التي يمكن من خلالها تحقيق ذلك، على نحو دفعها في النهاية إلى الانسحاب منه وإعادة فرض عقوبات أمريكية على إيران.
كما كانت هذه القوى تطمح في أن يؤدي الوصول إلى الاتفاق إلى دفع إيران نحو إجراء تغييرات في سياستها باتجاه عدم التدخل في الشئون الداخلية لدول المنطقة أو مواصلة تقديم دعم للتنظيمات الموجودة فيها إلى جانب التوقف عن تنشيط برنامج الصواريخ الباليستية، واعتبرت أن رفع العقوبات الدولية التي كانت مفروضة على إيران قبل الاتفاق وإعادة إدماجها في منظومة التفاعلات الدولية، على المستويين السياسي والاقتصادي، فضلاً عن عودة الاستثمارات الأجنبية إلى الأسواق الإيرانية من جديد، من الممكن أن تدفع في هذا الاتجاه.
لكن مجمل هذه الطموحات لم تتوافق مع المعطيات الموجودة على الأرض، التي أشارت إلى أن إيران سعت إلى استغلال الاتفاق للإمعان في أدوارها التدخلية في المنطقة، بعد أن اعتبرت أن موافقة القوى الدولية على تلك الصفقة يفرض، ضمنيًا، اعترافًا من جانبها بإيران كطرف مهم في التفاعلات الإقليمية التي تجري في المنطقة، وبدأت في استغلال الأموال التي كانت مجمدة في الخارج فضلاً عن عوائد الصادرات النفطية في مواصلة تقديم الدعم لحلفائها.
3- استعادة مكاسب الاتفاق: سعت طهران عبر تلك المبادرة إلى استعادة المكاسب السابقة للاتفاق النووي، التي أدت العقوبات الأمريكية إلى تقليصها بشكل كبير بعد أن دفعت الشركات الأجنبية إلى الانسحاب من الاستثمارات التي أبرمت صفقات حولها مع جهات داخل إيران وأسفرت عن تراجع الصادرات النفطية الإيرانية من نحو 2.5 مليون برميل يوميًا قبل العقوبات إلى حوالي 200 ألف برميل يوميًا في أغسطس 2019.
وترى إيران أن العودة إلى مرحلة ما قبل العقوبات هو الخيار الأمثل بالنسبة لها، باعتبار أن ذلك سوف يساهم في رفع مستوى صادراتها النفطية من جديد وإعادة الاستثمارات الأجنبية، بما يمكن أن يساعد الحكومة في احتواء تداعيات الأزمة الاقتصادية المزمنة في الداخل، والتي انعكست في مؤشرات عديدة مثل ارتفاع مستوى التضخم والبطالة وانهيار العملة الوطنية. ومن هنا، ربطت إجراء تلك التغييرات بمصادقة الكونجرس الأمريكي على الاتفاق النووي.
وفي هذه اللحظة، لن يكون تنظيم لقاءات بين مسئولين أمريكيين وإيرانيين أو إجراء مفاوضات ثنائية بين واشنطن وطهران بمثابة مشكلة كبيرة بالنسبة لحكومة الرئيس جسن روحاني أو أية حكومة مقبلة. فالمسألة في المقام الأول، وعلى عكس ما توحي التصريحات الإيرانية، تتعلق بتوقيت التفاوض وليس التفاوض في حد ذاته.
تحفظات دولية:
كان لافتًا أن القوى الدولية المعنية بتطورات التصعيد الحالي بين واشنطن وطهران لم تقدم دعمًا للمبادرة الإيرانية الجديدة، وهو ما يعود إلى أن تلك القوى باتت ترى أنه لا يمكن التعويل على إمكانية انخراط إيران في التزامات دولية صارمة، لا سيما بعد أن اتجهت إيران إلى تقليص التزاماتها في الاتفاق النووي، خاصة فيما يتعلق بزيادة كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 3.67% ورفع مستواه إلى 4.5% مع إنهاء العمل بالقيود التي كانت مفروضة على عمليات البحث والتطوير. وقد وجهت فرنسا وألمانيا وبريطانيا، وفقًا لتقارير عديدة في 27 سبتمبر الحالي، تحذيرات إلى إيران بأن استمرارها في تبني هذه السياسة سوف يدفعها للانسحاب بدورها من الاتفاق النووي.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن المبادرة الإيرانية الأخيرة لا تعبر عن حدوث تغيير في السياسة الإيرانية، على ضوء الضغوط والعقوبات التي تتعرض لها في المرحلة الحالية، فضلاً عن أنها لن تساعد في تعزيز فرص استمرار العمل بالاتفاق النووي، الذي قد يواجه اختبارات صعبة في المرحلة القادمة. إذ أن عدد الأطراف التي باتت تدرك أن هذا الاتفاق فشل في تحقيق أهدافه الأساسية يتزايد تدريجيًا، بشكل قد يعني أن توقف العمل به قد لا يكون احتمالاً مستبعدًا في المرحلة القادمة.