عرض: محمد محمود السيد - باحث في العلوم السياسية
ساهم ظهور تكنولوجيا الفضاء خلال مرحلة الحرب الباردة في تطوير التطبيقات العسكرية، وفي سباق تسلح بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق. ومع سقوط الأخير، وانتهاء تلك الحرب، صارت التطبيقات المدنية والحياتية لتلك التكنولوجيا أهم وأكثر حيوية لدول العالم، وصار استهدافها جزءًا من صراع جديد بين القوى العسكرية الكبرى على مستوى العالم. ويأتي في مقدمتها الأقمار الصناعية لما تملكه من قدرة على التحكم في حياة ومصائر الدول، الأمر الذي جعل من تدميرها عملًا عسكريًّا مُعاديًا. ويبدو أن العالم مُتجه نحو نوع جديد من الحروب والصراعات، التي سيكون "الفضاء" ساحتها الرئيسية.
وفي هذا السياق، يتناول "نيال فيرث" الكاتب المتخصص في القضايا التكنولوجية، أبعاد هذه الحرب المستقبلية المحتملة في مقاله المنشور على موقع "إم آي تي تكنولوجي ريفيو" في يونيو الماضي، والذي جاء بعنوان: "كيف نخوض حربًا في الفضاء (وكيف نتجنبها)؟".
تدمير الأقمار الصناعية:
أصبحت الهند في مارس من العام الجاري الدولة الرابعة في العالم بعد روسيا والولايات المتحدة والصين التي تدمر بنجاح قمرًا صناعيًّا في مداره. فقد كانت المهمة "شاكتي" (اسم هندي يعني "القوة") عبارة عن إطلاق سلاح مباشر مضاد للأقمار الصناعية ASAT، والذي عادة ما يكون "مركبة قتل"، وهو عبارة عن قطعة من المعدن بها نظام توجيه خاص، ومثبتة على قمة صاروخ باليستي. وبعد فترة وجيزة من مغادرة الصاروخ الغلاف الجوي للأرض، تنفصل "مركبة القتل" عن الصاروخ، ثم تقوم بتصحيح مسارها أثناء اقترابها من الهدف. وليست هناك حاجة إلى متفجرات، لأن اصطدام هذه المركبة بالقمر الصناعي عند السرعات المدارية، يُنتج طاقة حركية هائلة تتسبب في الانفجار.
ويشير الكاتب إلى أن فكرة تدمير الأقمار الصناعية نشأت منذ ظهورها. وكانت أول تجربة فاشلة في هذا الصدد من نصيب الولايات المتحدة عام 1958، بعد أقل من عام من إطلاق القمر الصناعي السوفيتي "سبوتنيك-1".
وخلال الحرب الباردة، طورت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق أسلحة متطورة مضادة للأقمار الصناعية، حيث كان لدى الأولى صواريخ يمكن إطلاقها من الطائرات المقاتلة تم اختبارها بنجاح عام 1985، وكذلك صواريخ ذات رؤوس نووية قادرة على استهداف أقمار العدو. وكان أول اختبار ناجح للصواريخ المضادة للأقمار الصناعية في الصين عام 2007.
ورغم ما سبق، لم تُقْدِم أي دولة حتى الآن على تدمير قمر صناعي لدولة أخرى، خاصة وأن معظم الدول التي تستطيع فعل ذلك هي أيضًا قوى نووية. ولكن مع زيادة تشابك الأقمار الصناعية مع كل جانب من جوانب الحياة المدنية والعمليات العسكرية، تزداد فرص قيام شخص ما في مكان ما باتخاذ المخاطرة والهجوم على أحد الأقمار الصناعية، والذي ربما يؤدي إلى نشوب حرب فضاء كاملة في العالم.
يقول "فيرث" إن مصطلح "حرب الفضاء" كان شائع الاستخدام في فترة الحرب الباردة، ولكن بتعريف مختلف عن فكرة تدمير الأقمار الصناعية المعادية. فمنذ إطلاق الاتحاد السوفيتي قمرَه الصناعي "سبوتنيك-1"، استخدمت القوى العظمى تلك الأقمار في التجسس على تحركات العدو وخطط قواته، وكذلك مراقبة الهجمات النووية القادمة وحشد ترسانتها النووية. فقد كان الفضاء في تلك الفترة مجرد تمهيد لشن هجمات نووية.
واليوم، تعتمد البنية التحتية المدنية كثيرًا على نظام تحديد المواقع العالمي GPS، والاتصالات عبر الأقمار الصناعية، لذا فإن الهجمات عليها قد تؤدي إلى الفوضى. وتعتمد الجيوش بشكل أكبر على الأقمار الصناعية أيضًا، حيث يتم إرسال البيانات ومقاطع الفيديو الخاصة بالطائرات المسلحة بدون طيار -مثل طائرات ريبر بدون طيار التي يرسلها الجيش الأمريكي فوق أفغانستان والعراق- إلى مشغليها من البشر عبر الأقمار الصناعية. كما يتم أيضًا جمع المعلومات الاستخباراتية والصور بواسطة الأقمار الصناعية، ونقلها إلى مراكز العمليات في جميع أنحاء العالم. وفي تقييم المحللين الصينيين، يعتمد جهاز الاستخبارات العسكري الأمريكي على الفضاء في جمع ما يصل إلى 90% من معلوماته.
حروب الفضاء مستقبلًا:
يؤكد "فيرث" أنه قد صار للفضاء أهمية جوهرية في كيفية قتال الجيوش المتقدمة على الأرض، لدرجة أن أي هجوم على قمر صناعي أصبح كافيًا لإطلاق شرارة حرب عالمية نووية. والأهم في ذلك هو أن تحقيق عملية الردع في الفضاء أصبحت أكثر صعوبة عما كانت عليه في فترة الحرب الباردة. فهناك دول مثل إيران وكوريا الشمالية تمكنت من امتلاك تكنولوجيا تدميرية في الفضاء، وكذلك الأمر بالنسبة لجماعات مسلحة من غير الدول.
والقدرات التدميرية هنا لا تعني بالضرورة "تفجير الأقمار الصناعية"، بل تشمل أيضًا الأساليب الأقل عدوانية، مثل الهجمات الإلكترونية التي تعترض تدفق البيانات بين الأقمار الصناعية والمحطات الأرضية.
ففي عام 2008، نجحت إحدى الهجمات الإلكترونية على محطة أرضية في النرويج في التدخل في عمل أقمار "لاندسات" التابعة لوكالة ناسا(١)، وذلك لمدة 12 دقيقة. وفي وقت سابق من عام 2019، تمكّن بعض المتسللين من الوصول إلى القمر الصناعي Terra Earth التابع للوكالة ذاتها، وقاموا بعمل كل شيء عدا إصدار الأوامر، ومن غير الواضح من يقف وراء الهجوم، رغم أن بعض المُعلقين في ذلك الوقت وجّهوا أصابع الاتهام إلى الصين.
ويحذر "فيرث" من أن المتسللين يمكنهم إيقاف اتصالات القمر الصناعي، مما يجعله بلا فائدة، وكذلك يمكنهم إتلاف تلك الأقمار بشكل دائم، عن طريق حرق الوقود الدافع لها أو توجيه مستشعر التصوير تجاه الشمس لحرقها.
وهناك طريقة شائعة أخرى للهجوم على الأقمار الصناعية، وذلك عن طريق "أجهزة التشويش"، حيث يمكن للتشويش أن يتداخل مع الإشارات التي تنتقل من الأقمار الصناعية إلى المحطات الأرضية، أو تمنع وصولها من الأساس.
وهناك شكوك قوية بأن روسيا كانت تقوم بعمليات تشويش عن طريق إشارات GPS، وذلك خلال مناورات الناتو في النرويج وفنلندا. وتحدث "فيرث" عن مهاجمة روسيا لأنظمة الفضاء باستخدام أجهزة التشويش في جميع أنحاء أوكرانيا.
وذكر تقرير حديث صادر عن وكالة الاستخبارات الدفاعية الأمريكية DIA أن الصين تعمل الآن على تطوير أجهزة تشويش يمكن أن تستهدف مجموعة واسعة من الترددات، بما في ذلك نطاقات الاتصالات العسكرية. ويُعتقد كذلك أن كوريا الشمالية اشترت أجهزة تشويش من روسيا. ومن المعروف أن التنظيمات المسلحة في العراق وأفغانستان تستخدمها أيضًا.
كذلك هناك أجهزة تقوم ببث إشارات GPS مزيفة لتخدع بها أجهزة استقبال الأقمار الصناعية على الأرض. ففي صيف عام 2013، استخدم بعض الطلاب في جامعة تكساس جهازًا بحجم الحقيبة لبث إشارة GPS مزيفة، وتسببوا في انحراف يخت خاص -بقيمة 80 مليون دولار- مئات الأمتار عن البحر المتوسط. ولم يتم اكتشاف هذه الخدعة، ولكن الطلاب أعلنوا بأنفسهم عن ذلك في وقت لاحق.
ويبدو أن روسيا تستخدم أيضًا تلك الخدعة كوسيلة لحماية البنية التحتية الحيوية، وكذلك الرئيس "فلاديمير بوتين" نفسه وهو يتحرك، بحيث يكون في مأمن من عمليات الاغتيال المحتملة بطائرات بدون طيار، عن طريق إخفاء موقعه.
وعلى مستوى آخر، قد ترغب بعض الدول في تعطيل الأقمار الصناعية لدول أخرى عن تنفيذ مهامها تمامًا، وهنا يأتي دور أشعة الليزر. ويشير "فيرث" إلى أنه لا توجد دولة حتى الآن تمكنت من استخدام أشعة الليزر في تدمير الأقمار الصناعية، وذلك بسبب الصعوبات التقنية التي تحول دول توليد الطاقة الكافية لمثل هذا الليزر في الفضاء، سواء كان ذلك باستخدام الكهرباء أو المواد الكيميائية.
ومع ذلك، يمكن إطلاق الليزر عالي الطاقة -نظريًّا- من المحطات الأرضية أو تركيبه على الطائرات. وقد خصصت بعض الدول الكبرى تمويلًا ضخمًا لتطوير هذا المشروع النظري. ويشير تقرير وكالة الاستخبارات الدفاعية الأمريكية إلى أن الصين سوف تمتلك ليزرًا أرضيًّا يمكنه تدمير أجهزة الاستشعار البصرية للأقمار الصناعية في مدار أرضي منخفض، في وقت مبكر من العام المقبل. أي إنه بحلول منتصف عام 2020، ستكون بكين قادرة على إتلاف بنية القمر الصناعي.
وبشكل عام، ليس القصد من أجهزة الليزر هو تفجير قمر صناعي في السماء، بل إتلاف مستشعراته البصرية بحيث يعجز عن تصوير المواقع الحساسة، وقد يكون هذا التلف مؤقتًا، وقد تكون أشعة الليزر قوية بما يكفي لجعل هذا التلف دائمًا.
استعادة أمريكا هيمنتها:
كلاعب مهيمن في الفضاء لعقود من الزمان، يرى "فيرث" أن الولايات المتحدة لديها الآن الكثير لتخسره. حيث يشير تقرير وكالة الاستخبارات الدفاعية الأمريكية إلى أن كلًّا من الصين وروسيا قد أعادتا تنظيم قواهما العسكرية لإعطاء الحرب الفضائية دورًا مركزيًّا أكبر بكثير. في الوقت الذي تشعر فيه واشنطن بأنها قد فقدت هيمنتها على الفضاء، وبل وصارت أقمارها الصناعية عُرضة للهجمات الفضائية.
لذلك، بدأ الجيش الأمريكي في جعل أقماره الصناعية أكثر مناعة في مواجهة الهجمات الفضائية، وكذلك أكثر صعوبة في العثور عليها. فعلى سبيل المثال، من المُقرر أن تُطلق واشنطن عام 2022 قمرًا صناعيًّا تجريبيًّا جديدًا، هو NTS-3، الذي سيكون بهوائيات قابلة للبرمجة والتوجيه، ويمكن أن يبث إشاراته بقوة أكبر لمواجهة التشويش، وتم تصميمه ليبقى دقيقًا حتى لو فقد اتصاله بوحدات التحكم الأرضية، وتمت برمجته على كشف محاولات التشويش على إشاراته.
والحل الآخر ليس فقط جعل الأقمار الصناعية أكثر مناعة وحصانة ضد الهجمات المختلفة، ولكن إنشاء شبكة واسعة من الأقمار الصناعية رخيصة التكلفة على مدارات أرضية منخفضة، والتي يمكن استخدامها أيضًا في السيطرة على الأسلحة النووية. فبدلًا من الاعتماد على روابط الاتصالات القوية hardened communications، يذهب التفكير الأمريكي إلى توليد عدد لا حصر له من المسارات للتحكم في الأسلحة النووية، والتي تمر عبر كل عنصر من عناصر الفضاء: الفضاء العسكري، والفضاء التجاري، وأنواع مختلفة أخرى من الروابط، حتى لا يمكن للأعداء الولوج بسهولة إلى منصات التحكم في هذه الأسلحة.
البحث عن إطار قانوني:
يتحدث "فيرث" بعد ذلك عن معاهدة الفضاء الخارجي لعام 1967، والتي تحظر استخدام أسلحة الدمار الشامل في الفضاء أو على "الأجرام السماوية" مثل القمر. كما تحظر "إقامة القواعد العسكرية والمنشآت والتحصينات على الأجرام السماوية". وقد صادقت الدول الرئيسية التي ترتاد الفضاء على هذه المعاهدة، لكن طموحات المعاهدة لتدوين الاستخدامات السلمية للفضاء تبدو بعيدة المنال حاليًّا، خاصة مع التطور التكنولوجي المستمر، والخطابات الصقورية الشائعة للدول الكبرى.
فقد حاولت الأمم المتحدة لعقود من الزمن حث الدول على عدم تسليح الفضاء، حيث التقى ممثلو أكثر من 25 دولة في اجتماع مغلق في جنيف في مارس 2019 لمناقشة معاهدة جديدة. ويقول "هيتوشي ناسو"، "محامي الفضاء" بجامعة إكستر بالمملكة المتحدة، والذي يعمل مع زملائه لكتابة دليل حول كيفية تطبيق القانون الدولي على الفضاء: "إن الصعوبة الأساسية في كسر الجمود تتمثل في استمرار انعدام الثقة بين القوى الكبرى".
خلاصة القول، إن الحل الوحيد في ظل التنافس بين القوى الكبرى على الفضاء، والذي ينذر بتحوله إلى حرب عالمية، والفشل في التوصل إلى إطار قانوني متفق عليه يحدد إطار التنافس في الفضاء؛ يكمن في توافر الإرادة السياسية لدى الدول الكبرى كما كان الحال في أيام الحرب الباردة، لكونها الطريقة الوحيدة لوقف الصراع في الفضاء.
(١) أقمار لاندسات: هي مجموعة أقمار صناعية أطلقتها وكالة ناسا تباعًا منذ عام 1972 حتى الآن، وأعطتها تسميات متسلسلة: لاندسات 1، ولاندسات 2، حتى لاندسات 8. وهي مجموعة أقمار صناعية بغرض استكشاف بقاع الأرض وللأغراض المدنية، وكذلك مراقبة انزياح القارات والشواطئ. وتستخدم صورها في مسح المصادر الطبيعية في البلدان وقياس التغييرات الأرضية التي قد تنشأ عن طرق تعرية طبيعية أو يكون سببها النشاط الإنساني.
المصدر:
Niall Firth. "How to fight a war in space (and get away with it)". MIT Technology Review. June 26, 2019. Available on: https://www.technologyreview.com/s/613749/satellite-space-wars/?fbclid=IwAR0lL1Q40vOGwnkQthPig4aagkcz-iLVpae3Ofqtwol5j7Q7UqWXcl2aP3A.