بعد يوم من قيام الدفاعات الجوية الإيرانية بإسقاط طائرة أميركية مسيّرة فوق مياه الخليج، ادعت أنها اخترقت مجالها، أعلن الحرس الثوري الإيراني في 21 يونيو (حزيران) الماضي أنه تجنب إسقاط طائرة عسكرية أميركية من طرازB - 8 على متنها 35 عسكرياً أميركياً كانت ترافق طائرة التجسس التي تم إسقاطها، ونقلت وكالة «تسنيم» للأنباء عن قائد القوة الجوية في الحرس الثوري أمير علي حاجي زاده قوله: «إن هذه الطائرة دخلت أيضاً مجالنا الجوي، وكان من الممكن أن نسقطها، لكننا لم نفعل».
وبررت طهران تجنبها إسقاط الطائرة B - 8 العسكرية، باستجابتها للنداءات التحذيرية التي وُجهت لها، وقامت بمغادرة الأجواء الإيرانية. في حين الطائرة المُسيّرة لم تستجب لثلاثة نداءات وجهت لها تطالبها بمغادرة الأجواء الإيرانية فتم إسقاطها.
تتلخص الرواية الإيرانية في بُعدين، الأول أن الطائرة استجابت للتحذيرات الإيرانية وغادرت باتجاه الأجواء الدولية، أما الآخر أنها كانت في مرمى صواريخها، لكنها فضلت عدم إسقاطها. وبعيداً عن الرواية الإيرانية ومصداقيتها، فإن طهران اختارت هدفاً أميركياً مباشراً، لكنها تجنبت في اختيارها تخطي المحاذير الأميركية، ووضعت سقفاً للتصعيد انحصر في إسقاط طائرة أميركية من دون طيار تجنباً لسقوط ضحايا أميركيين، ويعتبر هذا الخيار نقلة في استراتيجية الحرب التكتيكية التي تخوضها منذ إعلانها الحرب على المصالح الاقتصادية العالمية في منطقة الخليج العربي، حيث تعرضت ناقلات نفط ومنشآت اقتصادية حيوية لهجمات، التزم خلالها المنفذ بتجنب إسقاط ضحايا وعدم المساس بأهداف أميركية، حيث يأتي قرار إسقاط الطائرة المسيرة في إطار مخطط لاستفزاز واشنطن وجرها إلى فخ التصعيد، الذي كانت وما زالت تراهن عليه طهران من أجل فك عزلتها، وفرض الجلوس معها على طاولة المفاوضات دون شروط مسبقة.
كانت طهران تراهن على سوء تقدير أميركي وانفعال يؤدي إلى استعجال الضربة رداً على إهانة إسقاط الطائرة، عشية انطلاق المنافسة على الانتخابات الرئاسية الأميركية، من خلال استجدائها ضربة أميركية استراتيجية محدودة لن تسقط النظام، لكن تعطيه مزيداً من المبررات لسياساته الراديكالية، والأخطر أن الضربة ستحوّل طهران إلى ناخب رئاسي داخلي سيساهم في إسقاط الرئيس ترمب، عبر التأثير في الرأي العام الداخلي الأميركي، بعدما تعالت الأصوات المستاءة من تردد إدارة البيت الأبيض التي أضرت بالهيبة الأميركية، وباتت مطالبة بتفسير أدائها المتعثر في التعامل مع التهديدات الإيرانية التي تصاعدت نتيجة قرار الرئيس ترمب الانسحاب من الاتفاق النووي، الذي أدخل واشنطن في مواجهة لم تكن مستعدة لها، وهذا ما حاول الديمقراطيون الاستفادة منه انتخابياً، وبرز ذلك في الانتقادات الحادة التي وجهتها رئيسة مجلس النواب الأميركي زعيمة الحزب الديمقراطي نانسي بيلوسي لإدارة ترمب عندما اعتبرت أن «الوضع مع إيران خطير، ولا ينبغي للولايات المتحدة أن تتهور في الرد عليها»، وأعلنت أنه «لا توجد رغبة في خوض الحرب في بلدنا».
صدمت طهران بعد نجاح إدارة ترمب في استيعاب الصدمة، وقررت إلغاء عملية الرد، واللجوء إلى تطبيق مزيد من العقوبات الاقتصادية، وهو ما يعتبر صفعة للتكتيكات الإيرانية؛ ما سوف يدفعها إلى القيام بتحركات أكثر تهوراً، حيث لم يعد أمامها إلا إسقاط ضحايا أميركيين، وحينها تكون واشنطن نجحت في جرها إلى المربع الذي تريده، ويصبح الرد على استفزازاتها حاجة أميركية ملحة، بعدما كان ضرورة إيرانية مستعجلة، أو تكون إدارة ترمب قد نجحت في استدراج طهران إلى لعبة الأفخاخ التي تريدها ووضعتها أمام إشكالية التصعيد بحيث لم يعد أمامها إلا خيار الاحتكاك المباشر بهدف رفع مستوى الابتزاز لواشنطن، لكن خطورة هذا الموقف قد يجعل من الحرب على إيران رأياً عاماً أميركياً داخلياً، يستغلها ترمب في الوقت المطلوب ويستثمره انتخابياً بعدما تكون طهران قد أعطته كافة المبررات الداخلية والخارجية لاتخاذ قرار استخدام القوة.
تاريخياً، استخدمت الولايات المتحدة الهجوم الياباني على قاعدة بيرل هاربر البحرية ذريعة لدخولها الحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء، وهي الآن تنتظر ذريعة إيرانية تبرر لها ضربة عسكرية استراتيجية تؤدي إلى إلزام طهران بتطبيق شروط واشنطن قبل الجلوس على طاولة المفاوضات. قبل هجوم بيرل هاربر بـ30 دقيقة أبلغت طوكيو واشنطن بوقف مفاوضات السلام بينهما، وقبل قرار الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي أبلغت واشنطن طهران بقسوة العقوبات التي لم يعد ممكناً الخلاص منها إلا بحرب قاسية وتسوية صعبة.
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط