أحمد عبدالعليم - باحث دكتوراه في العلوم السياسية
في ضوء التوتر الذي تشهده العلاقات الأمريكية-الصينية، خاصةً مع تبنّي إدارة الرئيس "دونالد ترامب" نهجًا متشددًا للغاية إزاء التعامل مع الصعود المتنامي لبكين على الساحة الدولية، ومحاولة فرض مزيد من الضغوط عليها، سواء فيما يتعلق بالعلاقات التجارية بين البلدين أو بالتطور التكنولوجي الصيني؛ فإن هناك العديد من الكتابات الغربية التي بدأت تُنظِّر لتلك العلاقة الصراعية، وذهب بعضها إلى إمكانية إعادة إنتاج حرب باردة جديدة يكون طرفاها هذه المرة: الولايات المتحدة، والصين.
وفي هذا الإطار، تأتي دراسة "هل تخلق الولايات المتحدة حربًا باردة مع الصين؟"، والتي أعدَّها الأكاديمي "جيفري ساكس"، وهو أستاذ اقتصاد بجامعة كولومبيا ومستشار بالأمم المتحدة، والتي نشرت بعدد شتاء ٢٠١٩ من مجلة "Horizons"، التي تفند الصراع الحالي بين واشنطن وبكين، حيث يعتبر الباحث أن الأخيرة ليست بالخطورة التي تحاول إدارة "ترامب" تصويرها للعالم، ويُحذِّر من استمرار نهج الإدارة في التعامل مع الصين، سواء على العلاقات بين البلدين أو على مستقبل العالم أجمع.
من "حليف" إلى "خصم"
تشير الدراسة إلى أنه تاريخيًّا كانت الصين حليفًا للولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية، ولكن بعد الانتصار الشيوعي بقيادة "ماو تسي تونج" بدأت تتحول إلى خصم للأمريكيين، وهو ما تجلّى بوضوح خلال خمسينيات القرن الماضي في الحرب الكورية، ومن ثَم بات يُنظر إليها كدولة معادية من جانب صانعي السياسة الأمريكية. ومع ذلك فقد كانت واشنطن ترى في التقارب مع بكين ضرورة مرحلية باعتبارها مركز ثقل موازن للاتحاد السوفيتي، وهو ما حدا بالرئيس الأمريكي الأسبق "ريتشارد نيكسون" للقيام بزيارة إليها في عام 1972، وقد هدفت تلك الزيارة التاريخية لتطبيع العلاقات بين البلدين.
وبعد الإصلاحات الاقتصادية الصينية في عام 1978 بقيادة "دنج شياو بينج" الذي تولى قيادة الحزب الشيوعي الصيني وتبنى أفكار اقتصاد السوق حتى مطلع تسعينيات القرن الماضي، كان يُنظر لبكين من جانب السياسيين ورجال الأعمال وحتى الجمهور الأمريكي باعتبارها شريكًا تجاريًّا جديدًا ومهمًّا.
بيد أن الأمور قد اختلفت في الوقت الحالي بشكل كبير حيث عادت النظرة إلى الصين باعتبارها عدوًّا خطيرًا وفقًا لرؤية صانعي السياسة الأمريكيين، وهو ما يمكن تفسيره بأنه نمط من "جنون العظمة" الأمريكي -وفقًا للدراسة- القائم على خلق الأعداء عبر المبالغة في الحديث عن الأخطار التي قد لا يكون لها وجود بالأساس.
ويضرب الباحث أمثلة على ذلك الخوف الأمريكي غير المُبرَّر الناتج عن جنون العظمة، بالخوف من البلاشفة إبان الحرب العالمية الأولى، والاتهامات ضد الشيوعية بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك الحرب العالمية على الإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001. ويعتبر أن الحديث الحالي عن الخوف الأمريكي من الصين، والتحريض ضدها، والتهديد بحرب باردة جديدة، ليس إلا حلقة من حلقات صناعة العدو من جانب الساسة الأمريكيين.
جنون العظمة الأمريكيّ
تُبرز الدراسة عدة أسباب يُفسِّر بها جنون العظمة الأمريكيّ، وأولها كون الولايات المتحدة كانت أُمَّة توسُّعية منذ بداية الاستيطان الاستعماري في أوائل القرن السابع عشر، حيث كان الأمريكيون يندفعون نحو أراضٍ جديدة، ويخلقون أعدادًا جديدة مع الوقت في معارك توسُّعية لا تنتهي، وهو ما جعل المُخيّلة الأمريكية مُعبأة بفكرة وجود أعداء لدولتهم في كل مكان، وبهذا المعنى فإن جنون العظمة الأمريكيّ هو نوع من الإسقاط النفسي للتوسع الأمريكي.
ويُشير الباحث إلى أن السبب الثاني لجنون العظمة الأمريكيّ هو عزلتها الجغرافية النسبية عن بقية العالم، وقد بدأت الإمبراطورية الأمريكية الخارجية بشكل جدّي منذ عام 1893 مع غزو هاواي، ثم الحرب الفلبينية عام 1899، وبالتالي فقد وجدت الولايات المتحدة نفسها حاكمة لأراضٍ بعيدة في ظل خبرة أو معرفة قليلة بها. وقد كان هذا الفهم المحدود للظروف المحلية للدول أحد أسباب الكوارث الأمريكية في العالم مثلما حدث في فيتنام، وأفغانستان، وكذلك العراق.
السبب الثالث -وفق الدراسة- يعود إلى انخفاض الثقة الاجتماعية بشكل نسبي داخل المجتمع الأمريكي، حيث إن هناك أزمة ثقة بين أفراد المجتمع الذين يعيشون في إطار دولة متنوعة العرقيات والأصول الاجتماعية، علاوةً على أن للولايات المتحدة تاريخًا طويلًا من العبودية، ولذا فإن الكثير من الأمريكيين البيض على وجه الخصوص قد شهدوا تهديدات لفترات طويلة من أعراق أخرى، وهو ما يُفسِّر شيوع العنصرية ضد الأمريكيين من أصول إفريقية أو آسيوية أو حتى عربية، وهي سمة سيئة ترتبط بشكل وثيق بالثقافة الأمريكية.
دروس من الحرب الباردة
يركز الباحث على الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي الذي يصفه بأنه كان بمثابة العدو العنيد، حيث كانت تلك الحرب بالأساس بهدف السعي للهيمنة العالمية بين القوتين الأكبر في العالم، ولذا فقد خاضت واشنطن حروبًا بالوكالة ضد القوات السوفيتية في جميع أنحاء العالم من أمريكا اللاتينية إلى إفريقيا والشرق الأوسط وحتى جنوب شرق آسيا، وذلك وصولًا إلى مطلع تسعينيات القرن الماضي مع انهيار الاتحاد السوفيتي.
ويبرز كون الساسة في الولايات المتحدة قد تعاملوا مع المخاوف الأمنية المشروعة للاتحاد السوفيتي كتهديد وجودي لهم، وكان ينبغي بدلًا من الصدام محاولة فهم التحركات السوفيتية على أنها استجابة لمخاوفهم الأمنية الحقيقية وليست عدوانية موجهة ضد واشنطن بالأساس، وقد تم التعبير عن تلك الرؤية الأمريكية في ورقة سياسات مجلس الأمن القومي عام 1950. حيث اعتمدت تلك الوثيقة الشهيرة على تقييم الاتحاد السوفيتي كعدو عنيد يهدف إلى تدمير الوحدة الأمريكية وتهديد الأمن الأمريكي، حيث تضمنت الوثيقة أن التصميم الأساسي لمَن يسيطرون على الاتحاد السوفيتي هو الإبقاء على سلطتهم المطلقة وترسيخها، سواء في الاتحاد نفسه أو في المناطق التي تخضع لسيطرته حول العالم، ويتطلب تحقيق هذا التمدُّد الديناميكي لسلطتهم القضاء بشكل نهائي على أي جهة أو دولة تعارض ذلك.
وهو ما يعتبره الكاتب قد دفع بالعالم كله نحو الهاوية، حيث كان العالم لعقود على حافة الإبادة النووية نظرًا لتلك الحرب بين البلدين، ولذا فإن العالم -وفق الباحث- محظوظ لأنه نجا من مأزق الحرب الباردة، وكان ذلك أمرًا استثنائيًّا خاصةً في ظل أزمة الصواريخ الكوبية في أكتوبر 1962، وهو ما جعل القيادة السياسية في البلدين تدرك أن هناك حاجة للانسحاب من حافة الهاوية، ولذا فقد تم التوقيع على معاهدة الحظر الجزئي للتجارب النووية عام 1963 وصولًا إلى معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية عام 1968.
ولكن مع الغزو السوفيتي لأفغانستان في عام 1979 عاد التأزم من جديد بين البلدين، وحملت منتصف ثمانينيات القرن الماضي شفا حرب نووية بين البلدين مرة أخرى، وبالتالي فإن تكلفة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي كانت مرتفعة للغاية، خاصة في ظل امتدادها لسنوات طويلة، وكذلك في ظل ما كان يمكن أن ينتج عنها من تداعيات جمّة على البلدين وكذلك على باقي دول العالم.
تكثيف الضغوط
يشير الكاتب إلى أن السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الصين خلال السنوات الأخيرة بدأت بالاحتواء في عهد "باراك أوباما"، إلا أن ذلك قد اختلف مع وصول "دونالد ترامب" إلى البيت الأبيض، حيث حاول توجيه ضربات قوية للصين تمثلت في فرض التعريفة الجمركية من جانب واحد، وجهود دبلوماسية كبيرة لمنع اعتماد تقنيات صينية مثل (Huawei G5) في دول حليفة مثل بريطانيا، علاوةً على وضع تدابير لمنع شراء التكنولوجيا الأمريكية والأوروبية من قِبل جهات صينية، وتدابير لوقف استثمارات صينية في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى الضغط على الحلفاء من أجل تبني رؤية مماثلة للرؤية المُتشددة الأمريكية تجاه بكين.
وقد أشارت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الصادرة عام 2017 إلى كون الصين لم تتخذ إجراءات كافية من أجل الإصلاح الديمقراطي، ولذا فإنه يجب اتباع نهج مُتشدد ضدها، خاصةً في ظل تزايد الشكاوى الأمريكية من القوة العسكرية الصينية، ومبادرة "الحزام والطريق" الصينية، واستهداف بكين لقيادة التكنولوجيا الجديدة الأكثر تطورًا بحلول عام 2025.
ويرى الباحث أن الصين لا تتعامل بالمثل، ولا تنظر للولايات المتحدة بنفس النهج، خاصة في ظل امتلاك واشنطن أكثر من 70 قاعدة عسكرية حول العالم بما في ذلك المنتشرة في أغلب أنحاء القارة الآسيوية، كما أن الولايات المتحدة لديها أكبر ميزانية عسكرية في العالم، ومع ذلك لا تتعامل بكين بنفس العدوانية تجاه الولايات المتحدة.
ويَعتبر الكاتب تلك السياسات الأمريكية مُكلّفة للغاية بالنسبة للشركات الكبرى في الولايات المتحدة، بل ومن الممكن أن تهدد بإبطاء النمو العالمي، كما أنها يمكن أن تؤدي إلى سباق تسلُّح متصاعد يمتد إلى الفضاء، واشتعال الحروب الإلكترونية، وحتى سلسلة من الحروب بالوكالة، وصولًا إلى إمكانية المواجهة المباشرة في نهاية المطاف.
وفي هذا الإطار، يُقلّل الباحث من خطورة الصين، حيث يشير إلى أن التقدم الاقتصادي الصيني لا يُشكّل خطرًا -في حد ذاته- على الولايات المتحدة، بيد أن هناك قناعة لدى بعض صناع القرار الأمريكي مفادها أن الدول الكبرى مثل بكين والهند لا بد أن تظل أقل من الناحية الاقتصادية والتكنولوجية مقارنة بالولايات المتحدة من أجل الحفاظ على القوة الأمريكية المهيمنة في العالم.
ويعتبر ذلك هو التفسير الحقيقي لمرحلة التوتر في علاقات البلدين في الوقت الحالي، وتحول الصين بشكل واضح من منافس إلى خصم للولايات المتحدة بل وعدو في بعض الكتابات الأمريكية، ولذا فإن هناك محاولات أمريكية من أجل الحد من النجاح الصيني، سواء الاقتصادي أو التكنولوجي.
وختامًا، يشير الكاتب إلى أنه من الضروري على إدارة "ترامب" أن تقوم بإعادة قراءة التاريخ بشكل دقيق من أجل محاولة الهروب من تزايد عدم الثقة بين الولايات المتحدة والصين، لأن المُضيّ قُدمًا في ذلك من شأنه أن يكون ذا تكلفة مرتفعة للغاية، وله نتائج كارثيّة، ليس على البلدين فحسب ولكن على العالم أجمع خلال السنوات المقبلة.
المصدر:
Jeffrey D. Sachs, “Will America Create a Cold War With China?”, Horizons, Journal of International Relations and Sustainable Development, No.13, Winter 2019, p. 28-39