عرض: محمد بسيوني - باحث في العلوم السياسية
تحولت كرة القدم من فضاء يُعزز من ظاهرة الإسلاموفوبيا، وخطابات الكراهية في المجتمعات الأوروبية إلى ساحة لتغيير الصور النمطية السلبية للعرب والمسلمين، ومواجهة خطابات تيار اليمين المتطرف المتصاعد في عدد من الدول الأوروبية الذي يضطهدهما. ويُعد اللاعب المصري "محمد صلاح" المتألق مع نادي ليفربول الإنجليزي، أفضل نموذجًا على كيف أصبحت اللعبة الأشهر عالميًّا أداة لنشر السلام والتسامح داخل المجتمعات، ومصدرًا من مصادر القوة الناعمة الجديدة للمنطقة العربية.
وتشير العديد من الأدبيات الغربية إلى كيف أضحت كرة القدم أحد المداخل المهمة لبناء هويات وطنية مشتركة بين الجماعات المختلفة، وتجاوز ميراث الكراهية والعنصرية بينها. بالإضافة إلى ما قدمته بجماهيريتها العالية من فرصة للانفتاح على ثقافات مختلفة، لا سيما مع التطور في منظومة الاحتراف العالمية، واستقدام اللاعبين من جنسيات مختلفة.
جدلية العنصرية
تتعاطى الكثير من الأدبيات مع كرة القدم وعلاقتها بخطابات الكراهية والعنصرية من منظور السياق المجتمعي العام، وهيمنة التوجهات العنصرية عليه.
في كتابه عن "اللاعبين الأفارقة في السويد"(١) يفترض "كارل جوستاف سكوت" أن ظهور بعض التوجهات والتصريحات العنصرية، المعززة للكراهية، في مجال كرة القدم السويدية ارتبط بطبيعة المجتمع الذي ظل لعقود يتسم بدرجة كبيرة من التجانس العرقي والإثني، وهذا التجانس انعكس على ملاعب كرة القدم والفرق الرياضية، حيث بدا من الصعب تقبل لاعبي كرة قدم من أصول عرقية مختلفة على غرار اللاعبين الأفارقة.
ويشير "جاكو فان ستيركينبيرج" في دراسة مشتركة مع آخرين عن العنصرية وعمليات التصنيف في كرة القدم داخل هولندا(٢) إلى أن التوجه العنصري في مجال كرة القدم في بعض المجتمعات الغربية، على وجه الخصوص، اكتسب درجة أكبر من التعقيد في السياق النيوليبرالي الذي يُعلي من قيم الجدارة والقدرات الفردية، إذ ربما تكون هذه القيم آلية لإخفاء سرديات العنصرية، وتبرير استبعاد البعض أو انتقاد بعض الفئات المشاركة (مثل اللاعبين ذوي الخلفية العرقية أو الدينية المغايرة) في مجال كرة القدم. أو بمعنى آخر، فإن التركيز على القدرات الفردية يجعل الأنماط المستمرة للعنصرية اليومية غير مرئية، ويحد من إمكانية فهم الطابع المنهجي للعمليات اليومية للتمييز العنصري.
وتستدعي هذه الطبيعة المعقدة للعلاقة بين العنصرية وكرة القدم، الطابع الذرائعي للعنصرية وتوظيفاتها من جانب مشجعي الفرق الرياضية المختلفة. وفي هذا المضمار، يوضح "رامون لويس جويج" في دراسته عن "العنصرية وكراهية الأجانب والتعصب في كرة القدم الإسبانية"(٣) أن العنصرية الذرائعية Instrumental racism في كرة القدم تنطوي على نوع من السلوك يربط العنصرية بدرجة كفاءة لاعب كرة القدم وتواجده في الفرق المنافسة. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يسخر المشجعون من اللاعبين ذوي البشرة السوداء في الفرق المنافسة، ولكنهم -في الوقت ذاته- قد يقبلون مثل هؤلاء اللاعبين إذا كانوا يلعبون في صفوف النادي الذي يشجعونه.
متغيرات جوهرية
تفترض الأدبيات أن ثمة متغيرين كان لهما تأثير على تزايد معدلات الكراهية في كرة القدم خلال السنوات الأخيرة، أولهما الأوضاع السياسية في العديد من الدول الغربية وتنامي نفوذ تيار اليمين المتطرف وأطروحاته المعادية للمهاجرين والرافضة لمظاهر التعددية الثقافية والدينية داخل أوروبا، وهنا توضح دراسة "جاكو فان ستيركينبيرج" وآخرين أن قضايا الهجرة واللاجئين باتت تهمين على وسائل الإعلام في الكثير من الدول الغربية، وعادة ما يُنظر إلى الإسلام، على وجه الخصوص، على أنه يتعارض مع القيم الثقافية الغربية وعقبة أمام اندماج الأقليات العرقية الأخرى.
وفي هذا السياق، باتت سرديات وشعارات اليمين المتطرف أكثر ظهورًا في ملاعب كرة القدم في الكثير من الدول الغربية، حيث يشير "رامون لويس جويج" في دراسته إلى أن الشعارات التي ترفعها جماعات اليمين المتطرف تسربت إلى ملاعب كرة القدم في صورة هتافات وتعليقات عنصرية على اللاعبين، وإطلاق أصوات شبيهة بأصوات القرود لمهاجمة اللاعبين ذوي البشرة السوداء، وإلقاء الفول السوداني والموز عليهم.
ومن جهة ثانية، شكّل الفضاء الإلكتروني متغيرًا جوهريًّا في خطاب الكراهية والعنصرية الراهن. إذ يعتقد "جيمي كليلاند"، في دراسته عن وسائل التواصل الاجتماعي ودورها في الخطاب العنصري بكرة القدم الإنجليزية(٤)، أن التوسع في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والفضاء الإلكتروني ساهم في توافر ساحة ممتدة، وغير خاضعة لقيود فعلية، للترويج لخطاب الكراهية والعنصرية في كرة القدم الإنجليزية، ناهيك عن تعقيد محاولات التصدي لهذا الخطاب.
ويؤكد "دانيال كيلفينجتون" و"جون برايس"(٥) على الأمر ذاته، فالفضاء الإلكتروني أتاح لجماعات الكراهية التي تدعو إلى العنف والعداء غير المبرر تجاه أشخاص أو مجموعات لها سمات عرقية أو دينية أو جهوية أو حتى جنسية، حيزًا جديدًا للترويج لخطاب لكراهية تجاه المجموعات المختلفة، ومن ثم تعزيز قدرتها على الوصول إلى الجماهير بشكل غير مسبوق، وإعادة تدوير خطابها، وتجديد صياغته، لا سيما مع تعرض عدد من الدول الغربية لهجمات إرهابية خلال السنوات الأخيرة، وتزايد تدفق اللاجئين من مناطق الصراعات.
تأثير "محمد صلاح"
ثمة اتجاه في الأدبيات الغربية يعول على اللاعبين المحترفين في الأندية الغربية كآلية لتقويض خطاب الكراهية، ومن النماذج المطروحة هنا اللاعب المصري "محمد صلاح" الذي أمسى يستحوذ على اهتمام الكثير من وسائل الإعلام في الآونة الأخيرة، فقد قدم على مدار سنوات احترافه في الملاعب الأوروبية، ولا سيما بعد انتقاله إلى نادي ليفربول الإنجليزي، فرصة للتعبير عن قوة ناعمة جديدة لمصر والمنطقة العربية، وهو ما دفع البعض إلى المراهنة على "صلاح" لتغيير الصور النمطية السلبية للعرب والمسلمين لدى المجتمعات الغربية، وبالتالي مواجهة ظاهرة الإسلاموفوبيا في الغرب.
وفي هذا الصدد، تشير دراسة صادرة عن مختبر سياسة الهجرة في شهر مايو الماضي(٦) إلى أن وجود مشاهير ناجحين من أبناء الفئات والأقليات المهمشة التي تتعرض للتمييز، يساهم بشكل أو بآخر في الحد من النظرة السلبية لهذه الفئات والتحيز ضدها. ومن ثم، تذكر الدراسة (التي قامت بتحليل نحو 936 من جرائم الكراهية على مستوى بريطانيا، ونحو 15 مليون تغريدة على تويتر لمشجعي كرة القدم في الدوري الإنجليزي، بالإضافة إلى استطلاع رأي 8060 مشجع لنادي ليفربول) أن "صلاح" ربما كان له أثر إيجابي على صورة المسلمين في بريطانيا، حيث أظهرت بيانات شرطة ليفربول تراجع جرائم الكراهية ضد المسلمين في "ميرسيسايد" بنسبة 18,9% بعد انضمام "صلاح" إلى الفريق، كما تراجعت تدوينات مشجعي الفريق المعادية للإسلام.
ويرتهن هذا التأثير الإيجابي لصلاح، وفقًا للدراسة، بعاملين رئيسيين: فهو من جهة أولى يقدم نموذجًا للشخص المتميز بفعل النجاح المهني والإنجازات التي حققها على مستوى نادي ليفربول أو حتى على مستوى المنتخب المصري والصعود إلى كأس العالم بعد غياب لسنوات طويلة. ومثل هذه الإنجازات تدفع الكثيرين إلى الإشادة به والارتباط الإيجابي به، خاصة وأنه يحقق الرضاء والسعادة لمشجعي فريق ليفربول ويساهم في تفوق الفريق.
ومن جهة ثانية، يتعزز تأثير "صلاح" نتيجة للنموذج الأخلاقي والديني الذي يطرحه؛ فهو معروف إعلاميًّا بدرجة كبيرة من التواضع والأخلاق المتميزة، ناهيك عن التعبير الظاهر لصلاح عن الرمزية الدينية في الملاعب الأوروبية، بالرغم من ظاهرة الإسلاموفوبيا في الغرب، فهو يقوم بالسجود عقب تسجيله للأهداف. وهذه السمات الأخلاقية والدينية المتميزة ساهمت في دفع الكثيرين للتعرف على المسلمين وشعائرهم، أو بمعنى آخر، أفضت إلى أنسنة المسلمين، بحسب الدراسة، لدى العديدين في بريطانيا، وخلق صورة نمطية مغايرة للمسلمين باعتبارهم قادرين على التعايش مع الآخرين المختلفين، وفي الوقت ذاته الاحتفاظ بهويتهم الدينية.
ختامًا، ربما تكون المجتمعات اتخذت الكثير من الإجراءات لمواجهة ظاهرة الكراهية في كرة القدم، بيد أن التطور في وسائل التواصل يفرض تحديات عديدة أمام هذه الإجراءات، فضلًا عن التداخل بين الرياضة وقضايا السياسة ومحاولة توظيف الرياضة لخدمة أهداف سياسية. هذه التعقيدات المحيطة بالرياضة تحتاج إلى استراتيجيات كلية لنزع الشرعية عن خطاب الكراهية في كرة القدم، ويمكن لهذه الاستراتيجيات استدعاء آليات متنوعة بما في ذلك النماذج الإيجابية للاعبي كرة القدم، على غرار "محمد صلاح"، كوسطاء للسمعة يساهمون في بناء علاقات أكثر إيجابية بين المجتمعات.
المصادر:
1) Carl-Gustaf Scott, "African Footballers in Sweden", (United kingdom: Palgrave Macmillan US, 2015).
2) Jacco van Sterkenburg, Rens Peeters and Noortje van Amsterdam, “Everyday racism and constructions of racial/ethnic difference in and through football talk”, European Journal of Cultural Studies, Vol. 22 (2), 2019.
3) Ramon Llopis-Goig, “Racism, xenophobia and intolerance in Spanish football: evolution and responses from the government and the civil society”, Soccer & Society, Vol. 14, No. 2, march 2013.
4) Jamie Cleland, “Racism, Football Fans, and Online Message Boards: How Social Media Has Added a New Dimension to Racist Discourse in English Football”, Journal of Sport and Social Issues, Volume 38 Issue 5, October 2014.
5) Daniel Kilvington and John Price, “Tackling Social Media Abuse? Critically Assessing English Football’s Response to Online Racism”, Communication & Sport, Volume 7 Issue 1, February 2019.
6) Ala’ Alrababa’h and others, "Can Exposure to Celebrities Reduce Prejudice? The Effect of Mohamed Salah on Islamophobic Behaviors and Attitudes", Immigration Policy Lab, Working Paper No. 19-04, May 2019.