جاءت استقالة "تيريزا ماي" لتزيد من تعقيد المشهد السياسي في المملكة المتحدة في ظل توقعات بإمكانية أن يخلفها أحد المؤيدين للخروج من الاتحاد الأوروبي دون صفقة، ويتشدد قادة الاتحاد فيما يتعلق بإمكانية تغيير شروط خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تخوفًا من أن يؤدي التساهل معها حيال هذا الأمر إلى إعلان دول أخرى رغبتها في الخروج. وَتَوَازَى هذا مع حث "ترامب" لبريطانيا على الخروج دون صفقة. في المقابل، يتخوف العديد من المحللين من تأثيرات "اللا صفقة" (No Deal) على الأسواق البريطانية، وعلى حقوق المواطنين البريطانيين المقيمين في دول الاتحاد الأوروبي.
دوافع الاستقالة:
تعرضت "تيريزا ماي" طوال الفترة السابقة المتزامنة مع محاولاتها إبرام اتفاق لتنظيم خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي لضغوط متعددة. وعلى الرغم من نجاحها سابقًا في مواجهة هذه الضغوط؛ إلا أن قدرتها على الصمود كانت تتآكل مع الوقت بعد كل جولة مع معارضيها. وفي 24 مايو 2019، أُرغمت "ماي" على إعلان استقالتها مع تزايد حدة هذه الضغوط واستنفاد مقومات الصمود. وتعود أسباب تزايد هذه الضغوط إلى عدد من الأمور التي يمكن تلخيصها فيما يلي:
1- ضغوط داخلية متصاعدة: بدأت هذه الخسائر في يونيو 2017، حيث أدى إصرار "تيريزا ماي" على إجراء انتخابات مبكرة لتقوية موقعها إلى خسارة الأغلبية التي كان يتمتع بها حزب المحافظين داخل البرلمان البريطاني عقب انتصارهم الكبير في عام 2015، واضطرارها لتشكيل حكومة أكثرية بعد التحالف مع الحزب الاتحادي الديمقراطي الأيرلندي DUP، مما ساهم في هشاشة حكومتها على الصعيد الداخلي لارتباط تمرير القرارات المهمة بموافقة الحلفاء.
ولم يقتصر مسلسل فقدان السيطرة على البرلمان فحسب، بل امتد إلى داخل حكومتها وأيضًا نواب حزبها، حيث تم تسجيل أعلى مستوى لاستقالة الوزراء من حكومات ما بعد الحرب العالمية الثانية أثناء ولايتها، حيث بلغ عدد الوزراء المستقيلين من حكومتها خلال ثلاث سنوات ما يقدر بحوالي 31 وزيرًا، ٢٠ منهم قدموا استقالاتهم بسبب اعتراضهم على إدارة "ماي" لملف التفاوض حول البريكست مع الاتحاد الأوروبي، كما أنها تعرضت في ديسمبر 2018 لتصويت لسحب الثقة من قبل نواب حزبها استطاعت اجتيازه بعد الإعلان عن عدم ترشحها لانتخابات مقبلة.
وأظهرت نتائج التصويت الثلاث السابقة في البرلمان لتمرير اتفاقها حول البريكست الذي توصلت إليه مع الاتحاد الأوروبي في نوفمبر 2018، أن نسبة كبيرة من نواب حزبها لم يصوتوا لصالح مشروعها، خصوصًا في أول تصويت، حيث عارض الخطة حوالي ١٠٠ نائب محافظ.
2- فقدان السيطرة على عملية التفاوض: حيث بدا واضحًا منذ بداية المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي حول البريكست أن الاتحاد هو من يضع الأجندة، ويحدد ترتيب أولويات الملفات العالقة، ويُحرر الجزء الأكبر من الصياغة. وبلغ الأمر ذروته في ٢١ مارس 2019 حين اجتمع قادة دول الاتحاد الأوروبي للتباحث في طلب "تيريزا ماي" تأجيل خروج بلادها من الاتحاد حتى 30 يونيو 2019، وقرروا رفض طلبها وحددوا مواعيد بديلة: 12 أبريل 2019 دون شروط، أو 22 مايو 2019 في حال موافقة غالبية أعضاء مجلس العموم البريطاني على خطة الخروج.
وساهم البرلمان البريطاني في تقليص سيطرتها على عملية التفاوض، حيث أقر في مارس 2019 تعديلًا يخول له مشاركة الحكومة في عملية التفاوض، ويسمح له بالتصويت على بدائل لبعض النقاط الواردة في الاتفاق المقترح من قبلها. وقد رأى بعض المحللين أن هذا التعديل ينطوي على سابقة تهدد توازن المؤسسات الديمقراطية في البلاد. ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الإطار أن 30 نائبًا من حزب المحافظين قد دعموا هذا التعديل، فيما فُسر على أنه تحدٍّ لـ"ماي".
3- تدهور شعبية "المحافظين": أتت استقالة "ماي" بعد ساعات من توجه الناخبين البريطانيين للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات الأوروبية وقبل موعد إعلان النتائج، حيث كانت استطلاعات الرأي تشير إلى أن هناك تدهورًا كبيرًا في نتائج حزب المحافظين، وقد حصل الحزب بالفعل على ما يقدر بحوالي 9٪ من الأصوات فقط، في مقابل حصول حزب البريكست بزعامة "نايجل فاراج" على حوالي 31.7٪.
كما وجهت نتائج الانتخابات المحلية التي أُجريت في 3 مايو 2019 رسالة إنذار شديدة في ظل خسارة حزب المحافظين ما يقدر بحوالي 1000 مقعد. وأشارت مجلة "الإيكونوميست" في أحد تحليلاتها إلى أن بعض معارضي "تيريزا ماي" داخل حزبها كانوا ينتظرون تسجيل حزبهم لنتائج مخيبة في هذه الانتخابات من أجل زيادة الضغط على "ماي" لدفعها نحو الاستقالة.
وأشارت صحيفة "اللوموند ديبلوماتيك" في أحد تقاريرها المنشورة في نوفمبر 2018، إلى التدهور المستمر الذي يعصف بحزب المحافظين، حيث بلغ عدد أعضائه حوالي 124 ألف عضو مقارنةً بمليون ونصف عضو في ثمانينيات القرن الماضي، مع افتقاد الحزب للعنصر الشبابي، حيث بلغ متوسط أعمار المنتسبين 57 عامًا.
4- معارضة خطة النقاط العشر: بعد ٣ محاولات تصويت فاشلة لإقرار اتفاق الانسحاب في البرلمان، كانت "تيريزا ماي" تستعد لإجراء تصويت رابع في يونيو 2019، حيث أدخلت 10 تعديلات على المشروع المقدم من قبلها، من بينها اقتراحات كانت تهدف لدفع نواب حزب العمال للتصويت لصالح مشروعها، مثل: البقاء في الاتحاد الجمركي بشكل مؤقت، والالتزام بالمعايير البيئية للاتحاد، وإعطاء النواب فرصة للتصويت بشأن إجراء استفتاء ثانٍ للانسحاب؛ إلا أن محاولاتها لكسب تأييد النواب المعارضين من حزب العمال انعكست سلبًا على نواب حزبها المؤيدين للبريكست والذين يعارضون بشدة اقتراح إعادة إجراء الاستفتاء الذي رفضه البرلمان ثلاث مرات سابقًا.
وأدى هذا إلى موجة من التبرم بعد إعلان خطتها توجت باستقالة وزيرتها لشئون البرلمان "أندريا ليدسوم" التي كانت تعتبر من أكثر المخلصين لها، معتبرة أن هذه الاقتراحات الجديدة لا تؤدي إلى حماية سيادة بريطانيا، وأن إجراء استفتاء ثانٍ هو بمثابة ترسيخ لانقسام كبير بين البريطانيين أنفسهم. ودفع كل هذا "تيريزا ماي" إلى الاقتناع بأن ساعة الرحيل قد حانت.
ما بعد "تيريزا ماي":
سيواجه رئيس الحكومة البريطاني الجديد نفس المشكلات والتعقيدات التي خاضتها "تيريزا ماي"، فخروجها من الحكومة لا يعني انتهاء أزمة المملكة المتحدة الحالية. وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى أبرز سيناريوهات خلافة "ماي" فيما يلي:
1- بديل من "المحافظين": وهو الاحتمال الذي يرجحه العديد من المحللين، حيث سيقوم نواب حزب المحافظين بعملية المفاضلة بين العديد من المرشحين الطامحين للمنصب، للاستقرار في نهاية المطاف على اثنين فقط، ثم انتخاب واحد منهم فقط، على أن يترأس الفائز الحزب ويشكل الحكومة الجديدة قبل نهاية يوليو 2019، وسيكون أمام رئيس الحكومة الجديدة عدة خيارات للتعامل مع موضوع بريكست تتراوح بين محاولة إقناع قادة الاتحاد الأوروبي لإعادة التفاوض حول اتفاق جديد أو تعديل الاتفاق القديم، أو تمديد فترة الانسحاب إلى ما بعد 31 أكتوبر، بالإضافة إلى سيناريو الانسحاب دون اتفاق في حال استمرار تعارض وجهات النظر.
2- إجراء انتخابات مبكرة: وهو السيناريو الأقل ترجيحًا والذي من الممكن أن يحدث في حال فشلت الحكومة المُشكّلة من قبل رئيس حزب المحافظين الجدد في الحصول على ثقة البرلمان. ويرى بعض المراقبين أن أي رئيس حكومة جديدة في ظل توازنات القوى التي تحكم البرلمان الحالي سيواجه نفس المشاكل التي سبق وأن واجهتها "تيريزا ماي"، وبالتالي فإن الحل للخروج من عنق الزجاجة يكون باللجوء إلى تنظيم انتخابات مبكرة، أو إبقاء الحال على ما هو عليه حتى عقد الانتخابات في عام 2021. ولا يرحب المحافظون بطرح الانتخابات المبكرة التي ترجح فوز حزب العمال، ويفضلون استمرار تمسكهم بالسيطرة الهشة على البرلمان عبر أغلبية بسيطة رغم كل المخاطر المحدقة.
ويُظهر استطلاع للرأي نشرته YouGov في 23 فبراير 2019، أن 70% من ناخبي حزب العمال الذين أيدوا بريكست في عام 2016 يعتبرون أنفسهم قاموا بخيار خاطئ، وهو ما قد يدفع قادة حزب العمال للمطالبة بإجراء استفتاء ثانٍ حول البريكست في ظل تأكيد العديد من استطلاعات الرأي أن أصوات بعض ناخبي حزب العمال قد تتسرب لأحزاب أخرى معارضة للبريكست في حال دعم الحزب اتفاق البريكست المقدم من قبل المحافظين، فيما قد يربح حزب العمال أصواتًا أكثر من تلك التي خسرها في حال دعمه إجراء استفتاء ثانٍ.
الخروج دون اتفاق:
يطرح العديد من المحللين سيناريو إمكانية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق، ويرجح هذا السيناريو عدد من النقاط التي يمكن الإشارة إليها فيما يلي:
1- خليفة "تيريزا ماي": تؤيد بعض الأسماء المرشحة لخلافة "تيريزا ماي" من حزب المحافظين في كونها مشككة في الاتحاد الأوروبي، ومؤيدة للبريكست الحاد Hard Brexit، ومنهم على سبيل المثال وزير الخارجية السابق "بوريس جونسون" الذي لم يتأخر بعد استقالة "ماي" بساعات عن التصريح بأنه بعد ٣١ أكتوبر يجب أن تكون بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي باتفاق أو بدون اتفاق No deal، ومن المحتمل أن يتنافس "جونسون" مع عدد من الشخصيات الأخرى مثل وزير البريكست المستقيل "دومنيك راب"، ووزير البيئة "مايكل جوف"، ووزير الخارجية "جيريمي هانت" الذي صرح في 28 مايو 2019 بقوله: "السعي إلى تنفيذ خروج بدون اتفاق من خلال انتخابات مبكرة ليس بحلّ؛ إنه انتحار سياسي".
2- ضغوط الاتحاد الأوروبي: يرى بعض المحللين أن حدة الخلافات ستزداد بين الاتحاد الأوروبي ورئيس الحكومة البريطاني المقبل، انطلاقًا من أن بعض المرشحين لخلافة "تيريزا ماي" يرون أن الخروج دون اتفاق أفضل من الانسحاب بالاتفاق الذي تفاوضت عليه "ماي"، خاصةً أن العديد من المسئولين في الاتحاد الأوروبي قد صرحوا بأنه من المستحيل إعادة فتح باب التفاوض مجددًا. وفي هذا الإطار، صرّح كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي في ملف بريكست "ميشال بارنييه" في مارس 2019 بأن "هذا الاتفاق هو الوحيد الممكن، وسيبقى كذلك". وبعد استقالة "ماي" بساعات صرحت المتحدثة باسم رئيس المفوضية الأوروبية "مينا أندريفا" قائلة: "سنحترم رئيس الوزراء الجديد، لكن ذلك لا يغير شيئًا في الموقف الذي اعتمده المجلس الأوروبي حول اتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد".
وأعلن الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" عن معارضته لتمديد مهلة الخروج حتى عام 2020، لأن هذا الأمر يعرقل تطوير المشروع الأوروبي، مطالبًا السلطات البريطانية بإيضاحٍ سريع لتوجهاتها الجديدة.
ويعود تشدد الاتحاد الأوروبي حيال مسألة الخروج البريطاني إلى تخوف الاتحاد من أن يقود التساهل مع المملكة المتحدة إلى تشجيع دول أخرى على تقديم طلبات خروجها، أو الحصول على تنازلات للبقاء، لذا فإن استراتيجية المسئولين في الاتحاد الأوروبي قائمة على تخيير المملكة المتحدة: إما البقاء في الاتحاد الأوروبي من دون تنازلات، أو الخروج منه بثمن مرتفع جدًّا.
3- صعود حزب "البريكست": هناك توجه لدى بعض قادة حزب المحافظين للتشدد أكثر في قضية البريكست لقطع الطريق على تمدد "نايجل فاراج" زعيم حزب البريكست، خصوصًا بعد حلوله في المركز الأول في الانتخابات الأوروبية؛ إلا أن بعض المراقبين يعتبرون أن جنوح حزب المحافظين لاتخاذ قرارات مصيرية كدعم خيار الخروج من دون اتفاق من أجل قطع الطريق على تمدد حزب "فاراج" سيكون خطأ فادحًا له آثار كارثية. مشيرين إلى أنه يُشبه ما فعله "ديفيد كاميرون" حينما نظم استفتاء حول الخروج من الاتحاد الأوروبي ظنًّا منه أن هذا كفيل بإنهاء موجة التأييد الكبيرة التي حققها "فاراج" في الانتخابات الأوروبية عام 2014 عن طريق إثارة ملف الهجرة.
ويُلاحظ أن هناك اختلافات جوهرية بين الانتخابات الأوروبية والتشريعية؛ حيث إن نسبة التصويت عادةً ما تكون أقل في الانتخابات الأوروبية. كما أنه سبق وأعلن "نايجل فاراج" انسحابه من الحياة السياسية بعد خسارته الانتخابات التشريعية عام 2015 بعد عام واحد من تحقيق حزبه السابق المرتبة الأولى في الانتخابات الأوروبية.
كما أن العديد من المحللين رأوا أن الأحزاب المعارضة للبريكست حققت مجتمعة أرقامًا أعلى من تلك التي حققها حزب البريكست، متسائلين -في الوقت نفسه- عن تداعيات تنفيذ الخروج من دون اتفاق على وحدة المملكة المتحدة نفسها، وقدرة أي زعيم جديد للمحافظين مؤيد لـ"اللا اتفاق" على إقناع أسكتلندا وويلز -المتحمستين للبقاء في الاتحاد الأوروبي- بالبقاء في المملكة المتحدة بعد تطبيق الخروج الحاد.
4- دعم "ترامب": حيث شجع "ترامب" بريطانيا خلال زيارته الأخيرة لها في يونيو 2019 على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق. مشيرًا إلى استعداده لإقامة اتفاق تجاري مهم للغاية وتحالف اقتصادي أقوى معها بعد البريكست، مشيدًا بـ"بوريس جونسون"، حيث وصفه بأن "بإمكانه أن يكون خيارًا ممتازًا كرئيس للحكومة"، كما شجع المسئولين البريطانيين على عدم دفع المستحقات المالية للاتحاد الأوروبي. والتقى خلال الزيارة بـ"نايجل فاراج"، معلنًا تأييده لإشراكه في أي مفاوضات جديدة حول البريكست.
ويأتي هذا في إطار محاولات إدارة الرئيس "ترامب" إغراء الحكومة البريطانية المقبلة من أجل إلغاء العقود مع شركة هواوي الصينية لتأسيس شبكات الإنترنت من الجيل الخامس، كما أن الشركات الأمريكية تتهيـأ للدخول في خصخصة نظام الرعاية الصحية الضخم في بريطانيا. وعقب تصريحات "ترامب" أعلن "بوريس جونسون" في مقابلة مع "صنداي تايمز" في يونيو 2019، أنه إذا أصبح رئيسًا للوزراء فسيرفض أن تدفع بلاده التزاماتها المالية للاتحاد الأوروبي إلى حين موافقة الاتحاد الأوروبي على شروط أفضل للانسحاب من الاتحاد.