حدث تاريخي بكل المقاييس، عندما أصدر ما يزيد على ألف ومئتي فقيه ومفكر وثيقة مكة المكرمة التاريخية من رحاب مكة المكرمة بالمملكة العربية السعودية، تستعيد وثيقة المدينة النبوية في عهد الرسول الكريم، مؤكدةً على استعادة معاني الإسلام الأصيلة من تسامحٍ ومحبةٍ وخيرٍ وتعايش إلى الواجهة من جديد، بعدما حيّدتها خطابات الأصولية والتطرف والإرهاب عقوداً من الزمن.
مضامين الوثيقة ومعانيها السامية تستدعي قراءة مطولة وتفصيلية، ولكن ذلك لا يمنع من الإشادة المستحقة بإصدارها، وشبه الإجماع المنعقد حولها والدعم اللامحدود من المملكة العربية السعودية لتهيئة الظروف لحشد هذا التأييد الواسع لها في العالم الإسلامي.
التأكيد على مركزية الدولة السعودية كمرجعية للإسلام والمسلمين بوصفها خادمة وراعية للحرمين الشريفين مهبط الوحي ومأرز الإيمان ينهي أطماع بعض الدول الداعمة للطائفية أو للأصولية والإرهاب في اختطاف هذه المكانة أو ادعاء تمثيل الإسلام والمسلمين لأغراض حزبيةٍ ضيقةٍ، تسعى إلى السلطة السياسية أكثر مما تهتم بنشر قيم الإسلام الأصيلة التي تبنتها هذه الوثيقة التاريخية.
هذه الوثيقة، بما تمثله من توافق كبيرٍ وواسعٍ بين فقهاء المسلمين، تسعى إلى استعادة الإسلام من خاطفيه المتشددين والمتطرفين، فلقد كان بروز خطاب حركات الإسلام السياسي في الهند ومصر، وتوسعه لاحقاً لحظة خطيرة في تاريخ الإسلام وتاريخ البشرية، وتم من خلاله نشر خطابات الكراهية والعداء والتطرف والإرهاب، وجزء من أهمية هذه الوثيقة هو استعادة روح الإسلام كدين سماوي كريم يسعى لخير البشرية جمعاء، ويرفض كل معاني تلك الخطابات المنحرفة.
سيتذكر المسلمون والعالم أجمع عام 2019 كعامٍ تاريخي في اتجاه استعادة الإسلام للمسلمين وللأمم والشعوب الإسلامية، ففيه صدرت وثيقتان تاريخيتان تهدفان إلى نفي التحريف العميق الذي طرأ على الإسلام ورسالته الإنسانية وجوهره الداعم للسلام والتسامح، الأولى «وثيقة الأخوة الإنسانية» التي صدرت من أبوظبي، والثانية «وثيقة مكة المكرمة» الصادرة من مكة المكرمة بجوار البيت العتيق، وفي العشر الأواخر من رمضان.
لم تزل الخطابات الكبرى في تاريخ البشرية من أديان وفلسفاتٍ قابلة للقراءة وإعادة التأويل وهذا جزء من خلودها وضمان استمراريتها، وتعزيز رسالتها وأهدافها في خدمة البشرية وتطوير الإنسانية وبناء العيش المشترك بين بني البشر جميعاً، على الرغم من اختلافاتهم الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية، وإصدار هذه الوثيقة هو انحياز للسلام والوئام والمحبة ورفض للكراهية والتشدد والتطرف، ودفع للتسامح والتعايش والتنمية والعمل على صلاح الدنيا والدين.
اختنق الفضاء العام للإسلام والمسلمين من حجم التحريفات والتشويهات التي طالته لسنوات وسنواتٍ، ما سبب قطيعة بين المسلمين وبين العصر الذي يعيشون فيه، وجعل كثيراً من تياراتهم وجماعاتهم تعيش عزلةً عن العالم وتشعر بتناقض معه وتكن عداوة له تحت شعارات الصدام الحضاري أو الغزو الفكري أو غيرها من المفاهيم الجامعة التي تدعو للخصام مع التاريخ ومع البشرية بأسرها، وكان لا بد من وقفة تاريخية تجد المخارج الصحيح من هذا المأزق الحضاري المصطنع وتعيد للإسلام رونقه وبهاءه ورسالته الخالدة فجاءت هذه الوثيقة منطلقاً جديداً يمهد لمرحلة جديدة في تاريخ الإسلام والمسلمين وفي تاريخ العالم أجمع.
مع الرفض التام لاعتبار الإسلام كدينٍ مصدراً للإرهاب والتطرف، إلا أنه لا جدال في أن الجماعات والتنظيمات التي تتحدث باسمه مسؤولة عن أغلب ما يحدث في العالم من إرهاب، وبالتالي كانت هذه الوثيقة تحملاً تاريخياً للمسؤولية، ورفضاً قاطعاً لكل ما دفع باتجاه التشدد والغلو.
أخيراً، سيبقى طويلاً في التاريخ الاعتراف بالفضل لكل من دفع باتجاه هذه الوثيقة التاريخية من أفرادٍ ومؤسساتٍ ودولٍ، لما تحويه من خير ورسالةٍ نيرةٍ. وكل عامٍ وأنتم بخير.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد