عرض: ياسمين أيمن - باحثة في العلوم السياسية
مع الذكرى السبعين لتأسيس حلف شمال الأطلنطي (حلف الناتو)، يثور التساؤل حول تأثيرات التحولات الأوروبية والدولية على مستقبل الحلف الذي لعب دورًا مؤثرًا في حفظ الأمن والاستقرار الأوروبي والدولي منذ تأسيسه، ولا سيما مع تزايد التحديات الأمنية لأعضائه في وقت يتعاظم فيه النفوذ الروسي في الفناء الخلفي للدول الأوروبية، وتصاعد موجات الإرهاب مع تدفقات اللاجئين من تلك الدول المشاطئة للبحر الأبيض المتوسط، وتصريحات الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" المهددة بخفض الولايات المتحدة مساهماتها المالية بالحلف.
وفي هذا الإطار، يُناقش "واين إيه سكرودير" (زميل غير مقيم متخصص بالشئون الأمنية والاستراتيجية بالمجلس الأطلنطي) في تقرير بعنوان "الناتو في السبعين: سد الثغرات الحرجة في قدرة الناتو على الدفاع" نشره المجلس الأطلنطي في أبريل الماضي، القدرات الدفاعية للحلف، والمشكلات البنيوية والهيكلية، والمخاطر الأمنية الأوروبية والدولية التي يجب عليه التعامل معها.
وقد أشار الباحث -في بداية تقريره- إلى أن هناك جملة من المتغيرات التي أثرت على بنية الحلف. فقبل عامين لم تكن هناك رغبة لدى أعضائه التسعة والعشرين في مناقشة أي تغييرات في الاستراتيجية التي تم إقراراها منذ عام 2010، والمتبلورة حول أن الدول الأوروبية في حالة سلام لا تشوبه أي مهددات، لكن التغييرات المتتالية في البنية الدولية دفعتها لضرورة تطوير منظومة الناتو الدفاعية لتلائم تحديات المجتمع الدولي الجديدة، والتي تختلف باختلاف المناطق الجغرافية التي ينتمي لها أعضاء حلف شمال الأطلنطي.
التهديد الروسي:
استعرض "سكرودير" في تقريره المخاطر المتباينة التي تواجه حلف "الناتو" في عامه السبعين، والتي يجب عليه التعامل معها، ويتمثل أهمها في أن تنامي نفوذ روسيا في القارة الأوروبية، وسعيها لاستعادة إرث الاتحاد السوفيتي السابق؛ يهدد أمن واستقرار دول الحلف، حيث تعمل على خلخلة النظام الذي تم تأسيسه في أعقاب انتهاء الحرب الباردة، عن طريق محاولتها المستمرة للعب دور إقليمي ودولي مؤثر على المصالح الأوروبية والأمريكية، كما في حالة دعمها نظام الرئيس السوري "بشار الأسد"، فضلًا عن دورها في قلقلة الأوضاع داخل أوكرانيا.
وأوضح التقريرُ الدورَ المؤثر الذي مارسته روسيا في الحرب الأهلية السورية، ومآلاته. ففي مقابل مساعدتها نظام "الأسد"، وقّعت موسكو اتفاقيات تسمح لها بتعزيز نفوذها البحري والجوي، بما يعزز الهيمنة الروسية ممتدة المدى. وتحدث عن تزايد ظاهرة اللجوء والهجرة غير الشرعية التي تهدد أمن الدول الأوروبية التي تطل على البحر الأبيض المتوسط، لتزايد الحروب والنزاعات بمنطقة الشرق الأوسط.
أزمة التمويل:
في ضوء انتقادات الرئيس الأمريكي "ترامب" لنسب المخصصات المالية المنخفضة التي تقرها الدول الأعضاء لميزانية حلف الناتو الدفاعية، أشار "سكرودير" إلى أنهم بحاجة لإعادة هيكلة أسلوب التمويل لزيادة الإنفاق على تجهيز الحلف بطريقة يستطيع بها منافسة القدرات العسكرية الروسية، حيث تم التعهد في عام 2014 بتخصيص نحو 20% من الميزانية المخصصة للحلف لتجهيزه بالمعدات والأسلحة الثقيلة بحلول عام 2024.
ويُشير الباحث إلى أن اتجاه الدول الأعضاء لتخفيض الإنفاق على الجوانب العسكرية في أعقاب الأزمة المالية العالمية لعام 2008 أثر على بنية حلف الناتو، الأمر الذي أدى إلى خفض قدراته العسكرية، حيث انخفض التمويل بنحو 15% منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، بالإضافة إلى أن الجزء الأكبر من المخصصات الدفاعية بالحلف تُنفق على اللوجستيات الخاصة بالأفراد المسئولين عن القيام بالعمليات العسكرية كما في حالة أفغانستان، مما يؤدي إلى تقليل الإنفاق على الجوانب البحثية المخصصة لتطوير قدرات الحلف الدفاعية.
وفي هذا الشأن، يوضح التقرير أنه خلال الفترة من عام 2010 حتى عام 2015 يوجد نحو 27 دولة داخل الحلف قد خفضت الميزانية الخاصة بالدفاع باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية وكندا. ولكن في اجتماع ويلز عام 2014 تعهد الأعضاء في الحلف بزيادة الإنفاق على الدفاع. وقد رصد تقرير الناتو في مارس الماضي (٢٠١٩) أنهم اتجهوا إلى زيادة ميزانيات الدفاع، حيث وصلت لنحو 1,48٪ من الناتج المحلي الإجمالي بالنسبة للدول الأوروبية وكندا خلال الفترة من عام 2014 حتى عام 2018، وهو ما يمثل 34,1٪ من ميزانية حلف الناتو في عام 2018.
وعن النسبة المخصصة للإنفاق على المعدات والتي لا بد أن تبلغ 20% من ميزانية الناتو، يشير تقرير الحلف إلى أنه نتيجة للظروف الاقتصادية التي مرت بها الدول الأوروبية منذ انتهاء الحرب الباردة، تأثرت تلك النسبة، إلا أنه خلال الفترة من عام 2014 حتى عام 2018 اتجهت نحو 23 دولة عضو في الناتو لزيادة النفقات الدفاعية المخصصة للمعدات. وقد كانت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ولاتفيا وليتوانيا وبولندا أكثر الدول المحققة للنسب المقررة للإنفاق على الدفاع من بين الدول الأعضاء داخل الناتو.
ثلاثة اتجاهات
استنادًا إلى التهديدات السابقة التي يواجهها حلف "الناتو"، قدم "سكرودير" في تقريره ثلاثة مقترحات رئيسية لتطوير منظومة الدفاع داخله، وهي على النحو التالي:
أولًا- تعظيم التحالفات بين الدول الأعضاء لمواجهة التحديات المستقبلية، حيث يشير "سكرودير" لضرورة تبنيهم مجموعة من الإجراءات لسد العجز داخل الحلف والتي تتمثل في:
1- توجيه الإنفاق لتطوير الجوانب الاستعدادية للحلف، والبنية التحتية، وذلك لتطوير عملية التخطيط الدفاعي للناتو، التي تشمل مواجهة الهجمات السيبرانية، وضبط الاتصالات بين أعضاء الحلف، ومواجهة القدرات الجوية والبحرية للأعداء، وضبط العمليات الاستخباراتية. ويُشير التقرير إلى أن الحلف تبنى مجموعة من تلك الخطط في عام 2017 إلا أنه في حاجة للحفاظ على استمراريتها.
2- تشكيل تحالفات إقليمية تقوم على المصالح المشتركة بين الدول الأعضاء، فعوضًا عن تشتت المصالح الخاصة بهم، سمح الناتو حاليًّا بتشارك الأعباء عن طريق تفعيل تحالفات إقليمية بين كبار الدول وصغارها، وهو ما يسمح بخلق مصالح استراتيجية موحدة داخل الحلف.
3- خلق تعاون دائم بين الدول الأعضاء، ففي عام 2017 وقعت نحو 25 دولة داخل الاتحاد الأوروبي على اتفاقية دائمة للتعاون، وهو الأمر الذي يعزز قدراتها، لذلك سيكون من الملائم تنفيذ تلك الاستراتيجية بين أعضاء الناتو لزيادة القدرات الدفاعية للدول وتطوير قدراتها العسكرية.
4- يشير الباحث إلى أن هناك تعاونًا أمريكيًّا أوروبيًّا داخل حلف الناتو، ولكنه يقتضي قدرًا أكبر من التدريب والتخطيط وتبادل البيانات الإلكترونية، بحيث تكون هناك قدرة عالية على ردع أي هجوم روسي. ويُضيف إذا توافرت القوات البرية في وقت محدد، فإن الأمر بحاجة لتكاليف هائلة لاستمرار تلك القوات لفترات أطول، ولذلك لا بد من وجود حالة من حالات التناوب بين القوات المختلفة، وهو ما يقتضي زيادة النفقات المخصصة لرفع القدرات الاستخباراتية والمعلوماتية والعسكرية الجوية.
5- يفرض التواجد الروسي في منطقة شمال المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط عقب انتهاء الحرب الباردة على الناتو ضرورة تغيير الاستراتيجية المتعلقة بتقليل قواته البحرية، فضلًا عن تطوير قدراته بتبني مشاريع تنموية، ومساعدة الدول التي تشهد حروبًا هجينة، والتي عرّفها الباحث بأنها حروب تضم اضطرابًا اقتصاديًّا، وسياسيًّا، وقرصنة إلكترونية.
6- مواجهة الإرهاب في منطقة "قوس الاضطراب" بدول الساحل والصحراء، لما تشكله من تهديد على دول حلف الناتو، فضلًا عن تبني استراتيجيات استباقية دفاعية تقوم على فهم طبيعة هجمات العدو بدلًا من تبني استراتيجية رد الفعل.
ثانيًا- مقترحات لتطوير برامج الدفاع: يشير "سكرودير" لضرورة تبني أعضاء حلف الناتو برامج إصلاحية لتحسين قدراته الدفاعية وسد الفجوات، بالإضافة إلى زيادة القدرة على مكافحة الإرهاب، وضرورة النظر في سباق التسلح النووي، وذلك من خلال سبل عدة؛ منها البحث عن إمكانية نشر القوات بصورة أوسع وأسرع لمواجهة النفوذ الروسي.
ويؤكد التقرير على ضرورة تطوير الأبحاث الجوية والفضائية والسيبرانية والبحرية، والعمل على تعزيز البنية التحتية التي تشمل المطارات والموانئ وخطوط السكك الحديدية الرابطة بين الدول وبعضها، وخصوصًا داخل الدول الواقعة في المنطقة الشمالية الشرقية من أوروبا والمتضررة من التغلغل الروسي، لأن هذا من شأنه أن يدعم فكرة وجود قوات دائمة في تلك المناطق قادرة على مواجهة الخطر الروسي.
ويدعو "سكرودير" إلى زيادة قدرات الأسلحة البحرية الثقيلة، ورفع كفاءة القوات القتالية الجوية والبحرية من خلال تكثيف التدريبات المشتركة بين الدول الأعضاء، ولا ينحصر الأمر في التدريبات القتالية، فهناك حاجة لرفع الكفاءة التكنولوجية، ووضع استراتيجيات لصد الحروب الهجينة، والقدرة على التعامل معها.
ويختص الباحث ألمانيا بالذكر عند الحديث عن رفع كفاءة القوات البحرية لحلف الناتو، نظرًا لتفوق قدراتها البحرية، ويُشير لضرورة التركيز على مبادرات إزالة الألغام البحرية، وتطوير قدرات الغواصات، وزيادة التعاون بين الدول الأعضاء، سواء على نحو ثنائي كما بين ألمانيا وهولندا، أو أكبر من ذلك لمشاركة الخبرات، فضلًا عن تطوير الأبحاث المتعلقة بالمركبات المائية ذاتية القيادة، وتطوير الأسلحة الكهرومغناطيسية، والقواعد المضادة للصواريخ الباليستية، وتطوير عمليات الاتصالات تحت الماء.
وعلى غرار المجال البحري؛ أشار "سكرودير" لضرورة العمل على تعزيز قدرات الحلف في المجال الجوي والفضائي والسيبراني أيضًا، وذلك من خلال تطوير المطارات، وزيادة التعاون وتكثيف الاتصالات بين القواعد الجوية للدول الأعضاء. وعن الفضاء، يجدر بالناتو -بحسب التقرير- العمل على رفع كفاءة الاتصالات في الفضاء الخارجي، والاستعداد لتأمين الفضاء، لأن من يسيطر عليه ستكون فرصه كبيرة للفوز بالحروب والحفاظ على السلام.
وبخصوص المجال السيبراني، يوضح الباحث أن الحرب السيبرانية يمكن تقسيمها لثلاثة اتجاهات هي: استخدام برامج مدمرة، تدمير البنية التحتية التكنولوجية، قطع الخدمات، ولذلك يجب على دول الناتو العمل على تطوير قدراتها السيبرانية لمواجهة تلك الاحتمالات الثلاثة عن طريق أدوات عدة منها التعليم والتدريب للقوات، ورفع الكفاءة البحثية، وذلك حتى لا تتكرر الضربة الروسية لمجال أوكرانيا وجورجيا السيبراني.
وبخصوص القدرات النووية، يشير "سكرودير" لضرورة تركيز دول حلف الناتو، وخاصةً دول الاتحاد الأوروبي، بصورة أكثر جدية على الردع النووي، فالخريطة النووية قد تغيرت خلال الخمسة والعشرين عامًا الماضية، وهو ما يستدعي تطوير قدرات دول الاتحاد الأوروبي لمواجهة المخاطر النووية الروسية والقدرة على ردعها.
ثالثًا- تطوير استراتيجيات وتكنولوجيا الناتو: يُشير "سكرودير" إلى وجود فجوات تكنولوجية واسعة بين الدول الأعضاء وبعضها بعضًا، فضلًا عن الهوة الكبرى بين الولايات المتحدة وبقية الدول الأوروبية وكندا. وهذا الأمر يخلق حالة من حالات التفاوت بين القوات القتالية المختلفة، لذا لا بد من إدراك ذلك التفاوت داخل حلف الناتو سريعًا، والعمل على إدراج هدف رفع الكفاءة التكنولوجية لكافة الدول الأعضاء على أولويات حلف شمال الأطلنطي.
وعن جهود الحلف في هذا الشأن، يوضح "سكرودير" إلى أنه منذ عام 2017 تم تبني مجموعة من البرامج التي تهدف لرفع الابتكار التكنولوجي داخل الناتو استفادة من التجربة الأمريكية، وبالفعل نجحت تلك البرامج في رفع الكفاءة التكنولوجية؛ إلا أن هناك المزيد من الخطوات التي ينبغي اتباعها لتصميم برامج ابتكارية دفاعية، ورفع معدل الذكاء الاصطناعي داخل الدول الأعضاء، وتكثيف العمل على رفع كفاءة المركبات ذاتية القيادة مثل الطائرات بدون طيار أو الغواصات ذاتية القيادة، وتطوير أجهزة روبوت لها استخدامات دفاعية، فضلًا عن تصميم برامج تتنبأ بالمخاطر وتحاكي الحروب المختلفة.
ويؤكد الباحث على ضرورة الاستفادة من التجربة الأمريكية التي تحفز الشركات التجارية للابتكار في مجال التسلح، وتستفيد وزارة الدفاع الأمريكية لاحقًا من هذا الابتكار، والعمل على تعظيم التعاون بين الوكالات العلمية المختلفة داخل الدول الأعضاء، خصوصًا الوكالات المختصة بمجالات تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي. كما يؤكد على ضرورة إبراز إدارة "ترامب" استعدادها لقيادة حلف الناتو في الوقت الراهن حتى تتعاظم استفادة الدول الأعضاء من القيادة الأمريكية.
وفي الختام، يخلص "سكرودير" إلى أن أعضاء حلف الناتو كافة بحاجة لتبني استراتيجيات دفاعية جديدة، ولتطوير قدراتها العسكرية، لأن الحروب لم تعد مقصورة على النمط التقليدي الذي عرفه العالم، حيث المواجهة على أرض المعارك، ولكن التنوع في أنماط الحروب يقتضي أن يصاحبه تنوع في استراتيجيات مواجهتها.
للمزيد:
Wayne A. Schroeder, "NATO at Seventy: Filling NATO’s Critical Defense-Capability Gaps", The Atlantic Council, April 2019.