تتجه الحكومة المغربية نحو تبني آلية جديدة لتسعير الوقود تقوم على وضع سقف لأسعار البنزين والديزل في السوق المحلية، وذلك بخلاف النظام الذي يترك تحديد أسعار الوقود لآلية العرض والطلب بشكل كامل. ويعود هذا التحول إلى اعتبارات مختلفة من أبرزها امتناع شركات توزيع الوقود عن الاستجابة لتخفيض أسعار المنتجات المكررة رغم تراجع الأسعار العالمية للنفط. وبلا شك، فإن هذا النظام سوف يصب في صالح المستهلكين، إلا أنه رغم ذلك قد يضر بمبدأ المنافسة ويثير جدلاً حول جدوى برنامج الإصلاح الاقتصادي.
نظام جديد:
تشير تصريحات لحسن الداودي الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بالشئون العامة والحكامة، في منتصف فبراير 2019، والتي قال فيها أن "وضع سقف لسعر الوقود سيظل ساريًا"، إلى أن السياسة الجديدة التي سوف تعتمدها الحكومة تقوم على تحديد سعر أقصى لأرباح شركات توزيع الوقود بعد الأخذ بعين الاعتبار الأسعار الدولية.
وقد واجه هذا النظام معارضة واسعة من قبل مجلس المنافسة بدعوى أنه لا يحافظ على مصالح المنتجين أو المستهلكين. ورغم ذلك، فإن مسئولي الحكومة أكدوا في أكثر من مناسبة على أن هذا الإجراء يتماشى مع قانون حرية الأسعار والمنافسة الذي يتيح اتخاذ تدابير مؤقتة لمدة ستة أشهر يمكن تمديدها إلى ستة أشهر أخرى حال حدوث خلل في جانب الأسعار بأحد القطاعات الاقتصادية.
ومنذ تحرير أسعار الوقود بشكل كامل في ديسمبر 2015، يتم تحديد أسعار البنزين والسولار بناءً على قوى العرض والطلب، مع إتاحة مساحة من الحرية لشركات توزيع الوقود لوضع أسعارها الخاصة وفقًا لسياستها التسويقية وتكاليفها التشغيلية، مع الأخذ في الاعتبار الدور الرقابي للجهات الحكومية للحيلولة دون مغالاة الشركات في تسعير المنتجات النفطية.
وقبل عام 2015، كانت الحكومة تقوم بدعم أسعار البنزين والسولار في الموازنة العامة، حيث كانت تتحمل فارق أسعارهما في السوقين العالمي والمحلي، مما حمّل الموازنة أعباءً مالية كبيرة في الأعوام الماضية، مع العلم بأن المغرب تستورد معظم احتياجاتها النفطية من الخارج، لا سيما في ضوء ضعف الطاقة الإنتاجية لمصفاة "سامير"، وهى المصفاة الوحيدة في البلاد والتي تم إغلاقها مؤخرًا، على نحو زاد من فاتورة واردات الطاقة إلى أكثر من 8 مليار دولار سنويًا.
متغيران رئيسيان:
يمكن القول إن ثمة متغيرين رئيسيين دفعا الحكومة إلى وضع سقف لأسعار الوقود: يتمثل أولهما، في امتناع معظم شركات توزيع الوقود عن الاستجابة للمطالب الحكومية والشعبية بخفض أسعار الوقود في السوق المحلية رغم تراجع أسعار النفط في الأسواق الدولية، وهو ما تبرره الشركات بوجود تكاليف أخرى على غرار النقل والضرائب على الاستهلاك.
ومنذ تحرير أسعار الوقود في عام 2015، ارتفع متوسط أسعار البنزين والديزل عند مستوى 10 دراهم و9 دراهم على التوالي، وبأعلى من الأثمان العادلة بما يتراوح بين 3 و4 دراهم وفقًا لبعض الاتجاهات، بشكل سمح للشركات بتحقيق هامش كبير للأرباح سنويًا، مع العلم بأنه باستثناء شركتى توزيع وقود مدرجتين في البورصة، فإن الشركات غير مضطرة للكشف عن أرباحها، مما يجعل من الصعب التحقق من بياناتها المالية.
ولا يستبعد أيضًا، بحسب هذه الاتجاهات، أن تكون شركات توزيع الوقود قد توصلت فيما بينها إلى اتفاق ضمني حول تحديد أسعار الوقود في السوق المحلية، مع الوضع في الاعتبار أن ثلاث شركات فقط تستحوذ على أكثر من نصف سوق توزيع الوقود، بما يعني أن بإمكانها توجيه مجريات السوق حسبما تشاء.
وينصرف ثانيهما، إلى ظهور دعوات شعبية لتقييد هوامش أرباح شركات توزيع الوقود أثناء حملة المقاطعة التي نظمها بعض المواطنين منذ مايو 2018 ضد منتجات ثلاث شركات رئيسية في مجال الماء والحليب ومشتقاته والوقود بسبب ارتفاع أسعار منتجاتها بشكل كبير في العام الماضي.
وقد فرضت هذه الحملة بالفعل تداعيات على مبيعات هذه الشركات التي تراجعت أرباحها في الأشهر الماضية، وبما ترك آثارًا على أسعار أسهمها في البورصة، على نحو اضطر بعضها إلى تعديل الأسعار.
تداعيات محتملة:
قد يفرض تطبيق النظام الجديد مجموعة من التداعيات في الفترة المقبلة على مستويات متعددة تشمل موزعي الوقود والمستهلكين والحكومة. فبالنسبة لموزعي الوقود، ربما يضغط النظام الجديد على العوائد المالية لكثير من شركات توزيع الوقود بما قد يضطر بعضها، لا سيما الأقل قدرة على المنافسة في ظل الأسعار الجديدة، للخروج من السوق أو على أقل تقدير تقليص النفقات التشغيلية والاستثمارية.
في حين أن النظام الجديد يصب بالأساس في صالح المستهلكين، حيث سيتفادى عيوب النظام السابق الذي أتاح الحرية الكاملة للشركات في تسعير أسعار البنزين والديزل. ورغم ذلك، إلا أن تأثير النظام الجديد على الأسعار يبقى محدودًا في حالة ما إذا اتجهت أسعار الوقود للارتفاع في الأسواق العالمية.
أما فيما يتعلق بالحكومة، فيمكن القول إن هذا النظام يمثل مكسبًا سياسيًا لها في ظل استمرار الاحتجاجات الشعبية ضد ارتفاع الأسعار مؤخرًا، فضلاً عن أنه مع انخفاض أسعار النفط في الأسواق الدولية لن تضطر الحكومة، مع تطبيق هذا النظام، إلى تقديم دعم مالي للشركات لتحمل خفض أرباحها، وهو ما سيجنب الموازنة أعباءً مالية جديدة.
ورغم ذلك، فإن التحول نحو هذا النظام، ولو لفترة مؤقتة، قد يوجه إشارات سلبية بالتخلي عن مبدأ المنافسة وعن خطة الإصلاح الاقتصادي، وبما قد يؤثر على الثقة الدولية في الاقتصاد، وهو ما أشار إليه مجلس المنافسة، الذي اعتبر أن السيطرة على أسعار الوقود لن تكون في مصلحة المستهلكين أو الاقتصاد.
وبناءً على ذلك، فإن ثمة خيارات أخرى قد تكون متاحة أمام الحكومة للحفاظ على تنافسية سوق توزيع الوقود، يتعلق أبرزها بتوسيع قاعدة الإنتاج المحلي من المنتجات المكررة، حيث من الضروري أن تدعم الحكومة مشروع تدشين إحلال مصفاة جديدة بدلاً من "سامير" التي توقفت عن العمل، بما يساهم في تنويع مصادر توريد احتياجات السوق المحلية من المنتجات المكررة. كما يمكن أن تتجه الحكومة إلى وضع حد للضرائب المفروضة على تداول منتجات الوقود، حيث تمثل حاليًا أكثر من ثُلث السعر النهائي للتر الواحد من البنزين.
وختامًا، يمكن القول إن النظام الجديد لتسعير الوقود قد يمثل حلاً مؤقتًا لاحتواء الاحتجاجات الشعبية ضد ارتفاع الأسعار، إلا أنه لا ينفي حاجة الحكومة، خلال الفترة المقبلة، إلى تعديل منظومة الإنتاج المحلي من المنتجات النفطية المكررة بالتوازي مع تعديل النظام الضريبي على الوقود بما يعالج تشوهات سوق الوقود في البلاد.