رغم كل الجهود التي تبذلها الدول الأوروبية من أجل الحفاظ على علاقاتها الاقتصادية مع إيران، على نحو تسبب في خلافات حادة مع الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن إيران لم تتوانى عن مواصلة شن حملة قوية ضد تلك الدول، على نحو يطرح دلالات عديدة ترتبط برؤية إيران لمستقبل الاتفاق النووي بعد الانسحاب الأمريكي منه، ولموقع تلك الدول على الساحة الدولية. لكن هذه الحملة ربما تفرض تداعيات عديدة قد تضاعف من حدة الضغوط الدولية التي تتعرض لها إيران خلال المرحلة القادمة، بشكل يمكن أن يساعد واشنطن في مساعيها لتكوين حشد دولي مناهض لطموحات إيران النووية والصاروخية وتدخلاتها الإقليمية.
انتقادات مستمرة:
كان لافتًا أن كلاً من ألمانيا وفرنسا تجنبتا المشاركة بشكل بارز في المؤتمر الذي دعت إليه الولايات المتحدة الأمريكية في بولندا للبحث في التحديات التي تواجه الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وهو الموقف الذي توازى مع عزوف منسقة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي فيدريكا موغيريني عن الحضور لارتباطات مسبقة.
ومن دون شك، فإن ذلك يعود إلى حرص تلك الدول على تجنب تصعيد حدة خلافاتها مع إيران، باعتبار أن السياسة التي تتبناها الأخيرة كانت أحد المحاور الرئيسية في المؤتمر، خاصة أن انعقاد المؤتمر جاء عقب تفعيلها الآلية الجديدة لمواصلة التعاملات التجارية مع إيران في ظل العقوبات الأمريكية. كما يمكن تفسيره في إطار سعى تلك الدول إلى انتهاج سياسة مستقلة عن السياسة الأمريكية فيما يتعلق بالتعامل مع بعض الملفات الإقليمية في المنطقة، وفي مقدمتها الملف الإيراني، بجوانبه المختلفة النووية والصاروخية والإقليمية.
وقد تسببت تلك الإجراءات في استياء الولايات المتحدة الأمريكية، على نحو بدا جليًا في تصريحات نائب الرئيس مايك بنس خلال مؤتمر وارسو، والتي اتهم فيها "الدول الأوروبية بالالتفاف على العقوبات التي تفرضها واشنطن على طهران"، داعيًا الأوروبيين إلى الانسحاب من الاتفاق النووي على غرار الخطوة التي اتخذتها إدارة الرئيس ترامب في هذا الصدد.
ومع ذلك، ردت إيران على تلك الخطوات الإيجابية من جانب الدول الأوروبية بحملة قوية، بدأها المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، الذي حذر المسئولين الإيرانيين، في كلمته خلال الاحتفال بحلول الذكرى الأربعين للثورة الإيرانية، في 12 فبراير 2019، من الثقة في الدول الأوروبية، في موقف واضح يكشف عن تشككه في مدى جدوى الآلية التجارية الجديدة التي تم الاتفاق عليها بين الأخيرة وحكومة الرئيس حسن روحاني، ومدى إمكانية تعويل إيران عليها في التعامل مع التداعيات التي فرضها الانسحاب الأمريكي من الاتفاق وإعادة فرض العقوبات الأمريكية على إيران من جديد.
هذه الحملة واصلها المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي، في 16 من الشهر ذاته، عندما قال أن "الأوروبيين يسعون إلى إبعادنا عن الاكتفاء الذاتي"، في إشارة إلى المطالب الأوروبية المتعددة لإيران بالتوقف عن إجراء تجارب خاصة بالصواريخ الباليستية.
اعتبارات مختلفة:
يمكن تفسير إصرار إيران على شن حملة قوية ضد الدول الأوروبية، في هذا التوقيت، في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- تأثير الدور: مع أن إيران رحبت بإعلان الدول الأوروبية عن تفعيل الآلية التجارية الجديدة، إلا أنها لا تُعوِّل، في الغالب، على تلك الآلية في الحصول على عوائد اقتصادية كبيرة من مواصلة الالتزام بالاتفاق النووي. إذ أن المتغير الأهم في هذا السياق لا يكمن في إجراءات الدول وإنما في مواقف الشركات، التي حرص أغلبها على الخروج من السوق الإيرانية تجنبًا للعقوبات الأمريكية.
ومن هنا، يبدو أن تمسك إيران باستمرار تعاملاتها التجارية مع أوروبا يعود إلى رغبتها في تجنب مواجهة الخيار الصعب وهو الاضطرار إلى الانسحاب من الاتفاق النووي، وهو الخيار الذي يمكن أن يفرض عواقب وخيمة عليها رغم تهديدها المستمر به. فضلاً عن أن طهران تستند إلى استمرار هذه التعاملات في تأكيدها على عدم تعرضها لعزلة دولية تحاول الولايات المتحدة الأمريكية فرضها عليها في إطار مساعيها لدفعها إلى الاستجابة للمطالب الخاصة بإجراء مفاوضات جديدة للوصول إلى اتفاق يستوعب كل تحفظاتها على الاتفاق الحالي.
2- دعم المعارضة: تبدي الدول الأوروبية دعمًا واضحًا لقوى المعارضة الإيرانية، في إطار اهتمامها بالقضايا الخاصة بانتهاكات حقوق الإنسان في إيران. وقد تمكنت تلك القوى من استقطاب الاهتمام الدولي تجاه هذا الملف تحديدًا، وهو دور بدأته عندما كانت طرفًا رئيسيًا استطاع الكشف عن التطور الملحوظ في البرنامج النووي الإيراني في عام 2002.
ومن هنا، كان لافتًا أن المرشد خامنئي استند إلى التظاهرات التي تشهدها باريس وبعض المدن الفرنسية، والتي أطلق عليها "السترات الصفراء" في سياق تبرير تحذيراته بشأن عدم الثقة في الدول الأوروبية، التي اتهمها بـ"النفاق"، باعتبار أنها تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان في إيران في الوقت الذي تمتلك فيه، حسب رؤيته، "شرطة مكافحة الشغب التي تهاجم المتظاهرين في باريس وتفقدهم النظر".
3- عقوبات أوروبية: اتجهت بعض الدول الأوروبية مع الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات على إيران، بعد أن تورطت في محاولات استهداف بعض قادة ورموز قوى المعارضة الموجودة على أراضيها عبر عمليات إرهابية سعت إلى تنفيذها داخل بعض تلك الدول. وقد كانت هذه الخطوة إشارة من تلك الدول إلى طهران بأنها لن تتوانى عن انتهاج سياسات عقابية في حالة ما إذا واصلت إيران تلك المحاولات، وأن حرصها على استمرار العمل بالاتفاق النووي لن يمنعها من اتخاذ الإجراءات الكفيلة، في رؤيتها، لحماية أمنها ومصالحها.
4- توسيع نطاق الاهتمام: بدأت الدول الأوروبية في توجيه إشارات بأن اهتمامها بالعلاقات مع إيران لا ينحصر فقط في الاتفاق النووي، رغم أهميته، وإنما يمتد أيضًا إلى الملفات الأخرى التي لا تقل أهمية، على غرار برنامج الصواريخ الباليستية والأدوار التي تقوم بها إيران في بعض دول الأزمات، وفي مقدمتها سوريا واليمن.
ففي هذا السياق، وجهت بعض الدول الأوروبية، مثل فرنسا، دعوات لإيران بالتوقف عن إجراء تجارب خاصة بالصواريخ الباليستية، معتبرة أنها "لا تتفق مع قرار مجلس الأمن رقم 2231".
هذا الاهتمام يطرح دلالة مهمة تنصرف إلى أن الدول الأوروبية، ورغم إصرارها على مواصلة العمل بالاتفاق النووي، بدأت تقترب تدريجيًا من السياسة الأمريكية إزاء إيران، بعد أن بدأت تدرك أن هذا الاتفاق لم يساهم في تعزيز الاستقرار في الشرق الأوسط على نحو ما كانت تهدف عندما شاركت في الوصول إليه في 14 يوليو 2015، حيث كانت تُعوِّل على أنه سوف يساهم في تغيير توازنات القوى داخل إيران باتجاه دعم التيار المعتدل، الذي كانت ترى أنه يمكن أن يعزز نفوذه داخل عملية صنع القرار ويفرض تحولات باتجاه تبني سياسات أكثر مرونة، وهى طموحات اتضح في النهاية أنها لا تتوافق مع المعطيات الموجودة على الأرض.
وعلى ضوء ذلك، ربما يمكن القول إن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تتحرك، في المرحلة التالية على انعقاد مؤتمر وارسو، من أجل إقناع الدول الأوروبية بخيار الانسحاب من الاتفاق النووي، أو على الأقل تبني سياسة أكثر حزمًا تجاه إيران، التي ما زالت تصر على ضرورة استغلال الخلافات العالقة بين الطرفين لتوسيع هامش الخيارات المتاحة أمامها، على نحو يزيد من احتمال تعرضها لعزلة دولية أكبر خلال المرحلة القادمة.