تصاعدت الأزمة الفنزويلية مع إعلان رئيس البرلمان "خوان جوايدو" تنصيب نفسه رئيسًا لفترة انتقالية للبلاد، والاعتراف به من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبعض دول أمريكا اللاتينية. وازدادت حالة التوتر في البلاد، مع وضع الاتحاد الأوروبي مهلة لمدة أسبوع للرئيس الفنزويلي المنتخب "نيكولاس مادورو" لإعلان إجراء انتخابات رئاسية عاجلة، وإلا فإنها ستتجه هي الأخرى للاعتراف بـ"جوايدو" رئيسًا لفنزويلا.
انفراط المجتمع:
تعود جذور الأزمة الفنزويلية إلى عام 2014، حينما شهدت انهيارًا اقتصاديًّا سريعًا ارتباطًا بتراجع أسعار النفط الذي يُمثّل المصدر الوحيد تقريبًا للدخل القومي في البلاد، حيث يشكل إنتاج النفط حوالي 96% من عائدات فنزويلا، فضلًا عن تراجع إنتاجها من النفط إلى مستوى هو الأقل منذ 30 عامًا، حيث بلغ 1,4 مليون برميل في اليوم مقارنة بمعدل إنتاج قياسي حققته البلاد قبل الأزمة، وهو 3,2 ملايين برميل. وبات العجز المالي يُشكل نحو 20% من إجمالي الناتج الداخلي، في حين بلغ الدين الخارجي 150 مليار دولار في أغسطس 2018.
ومع تراجع سعر النفط، تراجعت قدرة البلاد على الاستيراد؛ حيث قلت بالتبعية العملة الأجنبية، وتسبب سوء إدارة الحكومة للوضع في دخول البلاد في حالة ركود حاد، وهو ما أطلق عليه البعض "السقوط الحر للاقتصاد"، حيث تدهورت قيمة العملة، وارتفعت أسعار السلع الأساسية عشرات الأضعاف، ووصل التضخم إلى معدلات قياسية، حيث وصل إلى مليون في المائة.
ولم تستطع حكومة "مادورو" احتواء الأزمة، بل إن السياسات التي اتخذتها زادت الأمر سوءًا، حيث قامت الحكومة بطباعة المزيد من الأوراق النقدية، وأطلقت عملة نقدية جديدة، ورفعت ضريبة القيمة المضافة من 4% إلى 16%، كما رفعت الحد الأدنى للأجور 34 ضعفًا عن المستوى السابق في محاولة لتقليل الاحتقان الشعبي.
وصاحب تدهور الوضع الاقتصادي اضطرابات اجتماعية تمثلت في اندلاع احتجاجات، سواء من جانب حركات المعارضة أو من المواطنين الذين يعانون نقصًا شديدًا في الغذاء والدواء، بالإضافة إلى تراجع قدرتهم على شراء السلع الأساسية التي أصبحت أسعارها خيالية (وصل سعر الكيلوجرام من الأرز إلى 2 مليون وخمسمائة ألف بوليفار)، فضلًا عن معاناتهم من انقطاع الكهرباء المتكرر. وقد دفعت تلك الأوضاع ملايين السكان إلى النزوح خارج فنزويلا، حيث تقدر أعداد المهاجرين منذ 2014 بحوالي ثلاثة ملايين فرد، ولا يزال هناك الملايين الذين لم يستطيعوا الفرار ممن علقوا في هذه الأوضاع المزرية. وعمدت الحكومة إلى مواجهة الاحتجاجات بالقوة، وهو ما ترتب عليه سقوط حوالي 1230 قتيلًا حتى منتصف عام 2017.
تصعيد "جوايدو":
تجدّدت الأزمة الفنزويلية من جديد بعد تأدية "مادورو" اليمين الدستورية في بداية يناير 2019، وذلك عقب الإعلان عن توليه فترة رئاسية جديدة لمدة 6 سنوات، وكان ذلك إثر الانتخابات الرئاسية المبكرة التي تمت في منتصف العام الماضي، والتي أثارت جدلًا واسعًا.
فعلى الرغم من رفض قوى المعارضة وبعض القوى الدولية الاعتراف بنتائجها؛ إلا أن مراقبي الانتخابات الدوليين أكدوا عدم حدوث أي تجاوزات تؤثر على نتيجتها، وإن تراجعت نسبة المشاركة إلى حوالي 46% في ظل مقاطعة المعارضة للانتخابات، وغياب منافسين حقيقيين أمام "مادورو".
وقد اعتبرتها المعارضةُ وبعض دول الإقليم غير شرعية، وأعلنت صراحة عدم اعترافها بنتائج الانتخابات، وطالبت "مادورو" بعقد انتخابات أخرى في نهاية عام 2018. وحفزت بداية الفترة الرئاسية الجديدة لـ"مادورو" (2019-2025) المعارضة مرة أخرى للتعبئة، والخروج في مظاهرات ومسيرات احتجاجية، والتي وصلت إلى ذروتها مع تنصيب "خوان جوايدو" (رئيس البرلمان) نفسَه رئيسًا لفنزويلا لفترة انتقالية.
ويُعد "جوايدو" أحد مؤسسي حزب الإرادة الشعبية الذي نشأ في عام 2009، وقضى فترة في الولايات المتحدة الأمريكية لإنهاء الدراسات العليا بجامعة جورج واشنطن، وكان من بين المعارضين لحكم "شافيز". وقد انتُخب "جوايدو" في عام 2011 نائبًا في الجمعية الوطنية (البرلمان)، وأصبح في عام 2016 ممثلًا عن ولاية فارجاس التي تُعتبر واحدة من أفقر الولايات في فنزويلا.
ومن الجدير بالذكر أن "جوايدو" (35 عامًا) قد تم انتخابه رئيسًا للجمعية الوطنية قبل إعلانه تنصيب نفسه رئيسًا بثلاثة أسابيع فقط، وقبل 5 أيام فقط من بداية رئاسة "مادورو" الجديدة، حيث اختارته أحزاب المعارضة الفنزويلية زعيمًا لقيادتها كمرشح تم التوافق عليه بالإجماع، وتولى المنصب في الخامس من يناير 2019، وقد أدى انتخابه إلى إعادة تعبئة معارضي الرئيس "مادورو".
وكان من اللافت للنظر الدعم السريع الذي حصل عليه "جوايدو" من الجانب الأمريكي، حيث أعلن الرئيس "ترامب" اعترافه بـ"جوايدو" رئيسًا شرعيًّا لفنزويلا بديلًا عن "مادورو" لفترة انتقالية، ومن بعده كندا وبعض الدول الإقليمية وعلى رأسها كولومبيا والبرازيل، فضلًا عن فرنسا من الجانب الأوروبي، وهو ما يشير إلى وجود ترتيب مسبق بين هذه الأطراف حيال الأزمة.
المعادلة الدولية:
فتحت الأزمة السياسية والاقتصادية الحادة في فنزويلا الباب أمام تدخل القوى الدولية، ومحاولة التأثير عليها بما يخدم مصالحها، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- التصعيد الأمريكي لاستعادة النفوذ: تنظر الولايات المتحدة إلى أمريكا اللاتينية كمنطقة نفوذ أمريكي خالص، وسعت على مدار عقود للهيمنة على فنزويلا التي اتبعت سياسات معادية للولايات المتحدة تحت حكم الرئيس السابق "هوجو تشافيز"، الذي تبنى أيضًا سياسات اشتراكية خلقت له شعبية كبيرة امتدت خارج فنزويلا، وهو ما زاد الأمر سوءًا، خاصة وأن المعسكر الاشتراكي في المنطقة المدعوم من روسيا أخذ في التوسع خلال هذه الفترة، مع وصول حكومات اشتراكية إلى الحكم في بعض دول القارة.
وفي ضوء الوضع السابق، جعلت الولايات المتحدة من أولوياتها ضمان تولي حكومات موالية لها في القارة عمومًا، وفنزويلا على وجه الخصوص. ومثّلت الأزمة التي تمر بها فنزويلا فرصة جيدة سعت لاقتناصها. ولا يتمثل الدور الأمريكي فقط في تأييد "جوايدو" في الأزمة الحالية، فقد سبقتها محاولات كثيرة لإسقاط نظام "مادورو"، والتي يعتقد الأخير أنها تمت بدعم أمريكي، وقد تمثل أهمها في محاولة الانقلاب الفاشلة في 21 يناير 2019، والتي على إثرها هرب إلى الولايات المتحدة بعض الضباط المتورطين، أي قبل الأزمة الأخيرة بأيام معدودة.
ومنذ اللحظة الأولى التي نصّب فيها "جوايدو" نفسه رئيسًا، اعترفت به الولايات المتحدة، بل إنها دعمته بطرق مختلفة آخرها إعلان وزارة الخارجية الأمريكية في 30 يناير حق "جوايدو" في السيطرة على أي أصول تابعة لحكومة فنزويلا أو بنكها المركزي، في حوزة بنك نيويورك الاحتياطي الاتحادي، أو أي بنوك أخرى تضمنها الولايات المتحدة.
وسعت الولايات المتحدة إلى تصعيد ضغطها الاقتصادي على فنزويلا، حيث فرضت عقوبات جديدة منذ يومين على الشركة الوطنية للنفط في فنزويلا، والتي تمتلك شركة النفط "سيتجو" (Citgo) التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرًّا لها. وتتضمن العقوبات تجميد أصول مملوكة لشركة النفط الفنزويلية في الولايات المتحدة، والتي تقدر قيمتها بنحو 7 مليارات دولار، الأمر الذي سيؤدي إلى تكبد الشركة خسائر تزيد عن 11 مليار دولار خلال عام 2019. ومن ناحية أخرى، تلوح الولايات المتحدة بالتصعيد العسكري، حيث تؤكد أن كل الخيارات متاحة أمامها. ويمكن القول إن هذا التهديد يهدف إلى الضغط على قيادة القوات المسلحة الفنزويلية للتخلي عن "مادورو" والانحياز للتيار الآخر.
2- الضغط الأوروبي المفتعل: اتخذ الاتحاد الأوروبي موقفًا حاول خلاله أن يبدو فيه مدافعًا عن الشرعية الدستورية، حيث منح مهلة ثمانية أيام أمام الرئيس "مادورو" لعقد انتخابات رئاسية مبكرة، تنتهي يوم 3 فبراير. وفي حال امتناعه فسوف يعترف الاتحاد الأوروبي بشرعية "جوايدو" رئيسًا لفنزويلا، وذلك خلال المرحلة الانتقالية، ولحين إجراء انتخابات جديدة.
وتسببت المهلة التي حددها الاتحاد الأوروبي في تصعيد الأزمة، حيث يدعو "جوايدو" المعارضة والجماهير إلى القيام بمسيرات مكثفة للتأثير على القوات المسلحة والشرطة الوطنية للتخلي عن "مادورو" والانحياز "للشعب". وقد أعلنت فرنسا صراحة رفضها لـ"مادورو" وتأييد "جوايدو"، بينما رفضت بريطانيا، بعد تدخل أمريكي، طلب "مادورو" إعادة سبائك الذهب المُودَعة لديها والمُقدّرة بـ1.2 مليار دولار، وذلك لتصعيد الضغط على الرئيس الفنزويلي للاستقالة.
3- الدعم الصيني-الروسي: في مقابل الضغط الأمريكي الأوروبي، تدعم روسيا والصين بقاء الرئيس "مادورو"، وأعلنت كلا الدولتين عدم الاعتراف بشرعية "جوايدو"، وقدمت كلا الدولتين مساعدات لحكومة "مادورو" لمواجهة الأزمة الاقتصادية التي تمر بها فنزويلا. فقد أعلنت روسيا العام السابق ضخ 6 مليارات دولار كاستثمارات بفنزويلا، فضلًا عن إبرام اتفاقيات لتصدير القمح الروسي لفنزويلا، حيث إن فنزويلا من الدول المستوردة للسلاح الروسي.
من جانبها، أعلنت الصين عن توقيع مذكرات تفاهم بشأن صفقات متعلقة بالطاقة والتعدين تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، كما أرسلت مساعدات طبية في سبتمبر الماضي من خلال سفينة السلام لتعويض النقص الشديد في الأدوية، والذي وصل إلى 85%. ومن جانبها، تصدر فنزويلا 300 ألف برميل من النفط يوميًّا إلى الصين، في سداد جزئي للديون البالغة 20 مليار دولار. كما أنها مدينة لروسيا بمبلغ 10,5 مليارات دولار، بحسب العديد من الشركات الاقتصادية الاستشارية، وهو ما يجعل الدولتين تدعمان "مادورو" أو أي مرشح يطرحه الجيش خلفًا له، وذلك لضمان مصالحهما هناك.
العامل الحاسم:
يُعد موقف القوات المسلحة هو العامل الحاسم في سير الأزمة الحالية، وهو الكارت الرابح الذي يحاول "مادورو" التمسك به ويحاول الطرف الآخر استمالته بشتى الطرق. ولا يزال الجيش الفنزويلي داعمًا لـ"مادورو" ويُناوئ المرشح المفروض أمريكيًّا، إذ أعلن وزير الدفاع الفنزويلي أن الجيش يرفض إعلان رئيس البرلمان نفسه "رئيسًا بالوكالة" لفنزويلا. مؤكدًا أن الجيش يدافع عن الدستور.
وعلى جانب آخر، يحاول "جوايدو"، من جانبه، استمالة الجيش للتخلي عن "مادورو" من خلال عرض العفو العام عن قياداته، فضلًا عن القيام بمسيرات سلمية أمام مراكز قيادات الجيش والشرطة، وهو ما لم يتجاوب معه الجيش، ومن المتوقع أن تتصاعد هذه المسيرات، وتحاول استمالته للتدخل قبل انتهاء مهلة الاتحاد الأوروبي.
وتشير بعض التقديرات إلى صعوبة تخلي الجيش عن "مادورو". ويرجع ذلك إلى الإشارات المتناقضة التي يرسلها "جوايدو" نفسه أثناء محاولاته استمالة الجيش، فبينما يعطي وعودًا بالعفو، فإنه في مواقف أخرى يشير إلى مطالبته باتخاذ إجراءات دولية لمعاقبة هؤلاء الذين تسببوا في قتل عشرات الأفراد أثناء التظاهرات.
وعلى جانب آخر، تحاول مؤسسات الدولة الداعمة لـ"مادورو" اتخاذ خطوات مضادة لتحركات "جوايدو" غير القانونية، فقد أعلن رئيس المحكمة العليا "مايكل مورينو"، أن رئيس الجمعية الوطنية الفنزويلية "ممنوع من مغادرة البلاد حتى انتهاء التحقيق"، فضلًا عن تجميد المحكمة أيضًا حساباته المصرفية. وتأتي هذه الخطوة بعد أن أعلنت الولايات المتحدة، في وقت سابق، أنها سلمت "جوايدو" السيطرة على حساباتها المصرفية في فنزويلا لمنع الرئيس "نيكولاس مادورو" من الاستيلاء عليها في حال خروجه من السلطة.
ختاماً تدور احتمالات تطور الأزمة بين أربعة سيناريوهات، هي: انحياز الجيش لصالح المعارضة، وهو السيناريو الأبعد. أو أن يقوم بالسيطرة على زمام الأمور وتنحية الطرفين، ولكن البديل ليس واضحًا في هذه الحالة. أو نجاح محاولات التفاوض التي تحاول المكسيك التوسط فيها في الأزمة الحالية، والوصول لتسوية بين الطرفين. بينما يبقى الاحتمال الرابع، وهو الأضعف، في بقاء الوضع الحالي على ما هو عليه، ونجاح "مادورو" في التشبث بالسلطة.