التخلف ليس قدراً. يمكن لشعب عانى طويلاً أن يقلب مسار الأحداث إذا توافرت الإرادة والرؤية والقيادة. كان يمكن لإثيوبيا أن تبقى عالقة في حروب الماضي. وأن تتلوى على نار النزاعات العرقية والحدودية وتزداد جوعاً وفقراً. لكنها اختارت السير في الطريق المعاكسة. اختارت الانتماء إلى العصر والصعود إلى القطار المتجه نحو المستقبل.
هذا ما شعر به من توافدوا إلى إحدى قاعات المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس للاستماع إلى رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد. يعرف هذا الأربعيني قصة بلاده. لمس الآثار الكارثية لعقدين من الحرب مع إريتريا. وقبلها الأثمان الباهظة لحرب أوغادين مع الصومال. عاين الفشل المريع لتجربة «الرفيق» منغستو هايلي مريام وهو حمل السلاح شاباً ضد ديكتاتورية الحزب الواحد. وعاين أيضاً مخيمات الجوع وارتفاع وفيات الأطفال داخلها، وتوق الإثيوبيين إلى الفرار من بلادهم كأنها فخ. وراقب التخبطات الدموية بين المجموعات العرقية التي تزيد على الثمانين.
قرأ آبي أحمد تجارب الماضي واستخلص العبر. العدو الأول ليس إريتريا. إنه الفقر. وما جدوى أن تنتصر على دولة مجاورة وتهزم في عقر دارك أمام الفقر والتخلف. أدرك أيضاً أن لا معنى لانتصار مجموعة عرقية على أخرى ما دام انتصارها لا يحمل غير المقابر وسوء التغذية والبطالة. تعلم أن الحل هو مغادرة حروب الماضي إلى شراكات المستقبل وعبر التوزيع العادل للفرص وفتح أبواب الأمل.
أدرك آبي أحمد أن إثيوبيا تقف عند منعطف وعليها أن تتخذ قراراً كبيراً. الإقامة الكارثية في مستنقعات الماضي والتحول عبئاً إضافياً على القارة والعالم أو الانخراط في معركة التنمية واتخاذ قرار حاسم بالتغيير ودفع الثمن المطلوب الذي لا يقل عن تغيير كامل في القاموس. هكذا تقدم التعايش على التنابذ. والشراكة على الاستئثار. والانفتاح على حدود الهويات المسوّرة بالدم. هاجرت إثيوبيا إلى قاموس التنمية والتقدم والاستثمار مصابة بهاجس اللحاق بالثورات التكنولوجية المتلاحقة. شعاره بالغ الدلالات «إنزال الجدار وبناء الجسر». لا حروب مع الجوار بل شراكات. وفي الداخل دولة القانون والمؤسسات واحترام الحقوق وتداول السلطة وبيئة صالحة لاجتذاب المستثمرين.
عرف آبي أحمد أن الوقت اليوم أسرع منه في أي يوم. وأن الدول لا تملك رفاهية المراوحة إلى الأبد. وأن الاستمرار قد يتحول وصفة للانهيار. لهذا أقدم في عشرة أشهر على إطلاق سلسلة من الإصلاحات. لكن الأهم كان إعادة إطلاق الأمل لدى شعبه المثخن. إثيوبيون استقالوا من بلادهم وفروا بدأوا رحلة العودة. يكفي أن يحمل رئيس وزرائهم إلى «دافوس» أرقاماً تؤكد أن بلاده هي الأسرع نمواً في أفريقيا. وأن أديس أبابا طوت صفحة الرقابة واعتقال المعارضين السياسيين والصحافيين. وأن الحرب على الفساد لن توفر أياً من أوكاره.
أفريقي آخر استوقف المشاركين حين بدا كمن يدق جرس الإنذار. للمرة الأولى يلتقي محمد حسن محمود (28 عاماً) الثلج وذلك بمناسبة مشاركته في «دافوس». قصته موجعة. ولد إبان الحرب الأهلية في الصومال وهرب مع أمه وإخوته إلى كينيا بعد مقتل والده. تنقل بين المخيمات إلى أن صار مخيم كاكوما بلاده الجديدة. لم يستطع الالتحاق بالجامعة لافتقاره إلى الأوراق الثبوتية اللازمة. في المخيم، تحول حلقة وصل مع ممثلي مفوضية اللاجئين والحكومة الكينية.
خاطب محمد الحاضرين قائلاً: «هناك 60 مليون لاجئ ونازح في العالم اليوم. أريد أن أكون آخر جيل من اللاجئين العالقين في مخيمات لمدة 20 عاماً». ودعا الدول إلى تغيير نظرتها في هذا الملف، وقال: «حان الوقت لأن يعامَل اللاجئون كشركاء في جهود التنمية، بدل اعتبارهم ثقلاً على كاهل الحكومات. هناك أشخاص يتمتعون بكفاءات ومواهب، ويستطيعون المشاركة في الإنتاج إذا منحوا فرصاً».
لم يكن كلام آبي أحمد واللاجئ الصومالي أبرز ما شغل منتدى دافوس، لكنني تحدثت عنهما لأن عدداً غير قليل من بلداننا لا يزال عالقاً في حروب الماضي وأوهامه. لا تزال «الحروب الصغيرة» تستنزف الميزانيات وتلتهم الاستقرار. ولا يزال الفساد وحشاً تتضاعف شراسته كلما حاولت حكومة المساس بمواقعه في حياة الدولة والمؤسسات. تحدثت أيضاً عن شهادة اللاجئ الصومالي لأن بعض بلداننا تنجب النازحين ويتولى البعض الآخر استضافتهم في المخيمات وسط مشاعر الخوف منهم أو عليهم.
انشغل «دافوس 2019» بظلال كثيرة وهموم كثيرة. منذ الافتتاح وحتى الختام كان القلق حاضراً من احتمال اندلاع حرب تجارية مفتوحة بين أميركا والصين. حذر الحاضرون من أن ثمن هذه الحرب لن يقتصر على الاقتصادين الأول والثاني في العالم، بل إن الخسائر ستصيب آخرين أيضاً. كلمة نائب الرئيس الصيني كانت واضحة ومفادها أن الحرب التجارية لا تنتج رابحين وأن «أي مواجهة ستلحق ضرراً بمصالح الجانبين». وسعى إلى تبديد المخاوف المتزايدة من مؤشرات التباطؤ في الاقتصاد الصيني، مؤكداً أن اقتصاد الصين سيواصل تحقيق نمو مستدام.
ملفات أخرى شغلت المشاركين. الثورة الصناعية الرابعة وآفاقها والتحولات التي ستحدثها خصوصاً في مجال الذكاء الصناعي وتأثير ذلك في فرص العمل ومعدلات البطالة. الملف الآخر كان الوضع البريطاني الغامض فيما يتعلق بالخروج من الاتحاد الأوروبي وكيفية هذا الخروج. وكان هناك التفات إلى المهمشين الذين نسيتهم العولمة واستمرار المعدلات العالية للفقر في العالم، ما ينذر باضطرابات سياسية وأمنية وعمليات هجرة واسعة بدأت تتسبب في بروز تيارات شعبوية وأزمات هوية حادة. وكان التغير المناخي حاضراً أكثر من ذي قبل، وسط تحذيرات من أن العالم لا يستطيع ممارسة سياسة الانتظار والتردد، خصوصاً أن معظم الحكومات تقوم بأقل من المفترض لمواجهة هذا الاستحقاق الخطر.
تكشف خطابات المسؤولين في «دافوس» أولويات حكوماتهم وبلدانهم. وتكشف النقاشات استمرار القلق حول اتجاه العالم إلى الانشطار معسكرين؛ الأول يملك التكنولوجيا والمفاتيح، والثاني لا يزال عالقاً في شباك الماضي يرفض تناول الأدوية المرة التي لا بد منها للصعود إلى القطار.
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط