تُعوِّل السودان، فيما يبدو، على روسيا وشركاء آخرين، لمواجهة أزمة الطاقة المتفاقمة لديها منذ أشهر، نتيجة نقص النقد الأجنبي، والذي تراجعت قدرتها بسببه على استيراد احتياجاتها من المشتقات النفطية. وربما لا تضع الخرطوم في حسبانها حاليًا أن تقوم روسيا بتزويدها بالمنتجات النفطية عبر تسهيلات ائتمانية على غرار اتفاقات وقعتها الخرطوم مع شركاء آخرين في العام الماضي، إلا أن لديها طموحات في إمكانية قيام الشركات الروسية بتعزيز عمليات التنقيب عن النفظ والغاز في أراضيها وبناء مصفاة نفط جديدة في بورتسودان، بما قد يخفف من حدة أزمة الطاقة على المدى الطويل.
معضلات هيكلية:
شهدت الأسواق السودانية شحًا في الوقود لفترات طويلة على مدار الأشهر الماضية، وذلك تزامنًا مع أزمة نقص النقد الأجنبي في البلاد، والتي جعلتها غير قادرة على استيراد احتياجاتها من المشتقات النفطية، على نحو تسبب في حدوث ارتفاعات متوالية في أسعار الوقود بالسوق السوداء.
وقد تضاعف سعر لتر البنزين بها، لا سيما في منتصف عام 2018، إلى نحو 80 جنيهًا، بما يمثل 16 ضعف سعره الرسمي البالغ 6.1 جنيهات، وهو ما أدى، من بين أسباب أخرى، إلى اندلاع الاحتجاجات الشعبية منذ 19 ديسمبر من العام الماضي.
وبالأساس، تعود مشكلة نقص الوقود إلى عوامل هيكلية تتعلق بأن البلاد خسرت قسمًا كبيرًا من حقول النفط مع انفصال جنوب السودان، وهو ما تسبب في تراجع إنتاجها من النفط الخام بشدة إلى نحو 86 ألف برميل يوميًا في عام 2017، أى بنسبة تقل بـ81% عن مستوياته البالغة 462 ألف برميل يوميًا قبل الانفصال بعام واحد.
وبناءً على هذه المعطيات، تضطر الحكومة إلى تغطية جزء ليس بضئيل من احتياجاتها من النفط الخام والمنتجات النفطية المكررة عبر الاستيراد من الخارج. ووفقًا لتقديرات وزارة النفط والغاز والمعادن، تستورد البلاد ما يتراوح ما بين 1.5 إلى 2.5 مليون طن من المشتقات النفطية سنويًا، أى حوالي ثُلث استهلاكها السنوي الذي يقدر بما بين 5 إلى 6 مليون طن.
ومما يتسبب في تفاقم الأزمة أيضًا أن المصافي النفطية متقادمة وغير حديثة، ما جعل طاقتها لتكرير النفط محدودة ولا تتجاوز حاليًا نحو 105 ألف برميل يوميًا عبر مصفاتين هما مصفاة الأبيض بطاقة 15 ألف برميل يوميًا، ومصفاة الخرطوم بطاقة 90 ألف برميل يوميًا، واللتين تعانيان بين الحين والآخر من انقطاعات متكررة في الإنتاج نتيجة مشكلات التعطل المفاجئ.
مصالح مشتركة:
تكشف العديد من المؤشرات عن تحسن العلاقات السودانية- الروسية على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية في الفترة الماضية، ولعل أبرزها يتمثل في زيارة الرئيس عمر البشير إلى مدينة سوتشي للقاء الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين في نوفمبر 2017، والتي تبعتها زيارة أخرى للعاصمة موسكو في يوليو 2018.
وبشكل عام، يرجع التقارب بين الدولتين إلى أن السودان ترى أن روسيا شريك موثوق فيه عمل على الدفاع عن مصالحها السياسية في المحافل الدولية المختلفة خلال الأعوام الماضية، وهو ما تبين في مساندة روسيا للخرطوم في قضية الصراع في دارفور، وتأييدها لرفع العقوبات الدولية عنها في أكثر من مناسبة وكان آخرها خلال جلسة مجلس الأمن التي عقدت في 17 يناير الجاري.
وفي المقابل، تحاول روسيا، عبر توثيق علاقاتها مع السودان وغيرها من دول المنطقة، تقديم نفسها كبديل للولايات المتحدة، وتسعى لتوظيف ذلك، بلا شك، في تعزيز نفوذها الجيوسياسي بالمنطقة، كما قد تستثمر ذلك في دعم استثمارات شركاتها بأسواق المنطقة.
وفي هذا السياق، تصاعد حضور تلك الشركات في السوق السودانية في القطاعات المختلفة، لا سيما في قطاع التعدين، حيث توجد 5 شركات روسية وأبرزها شركة "كوش" التي تصل استثماراتها إلى 300 مليون دولار، وذلك وفق تصريحات نادر يوسف الطيب سفير السودان لدى روسيا في ديسمبر 2017.
فضلاً عن ذلك، شهد التبادل التجاري نموًا كبيرًا في الأعوام الخمسة الماضية، حيث وصل إلى حوالي 349 مليون دولار في عام 2017، أى ثلاثة أضعاف مستوياته تقريبًا، والبالغة 128 مليون دولار في عام 2013، مع العلم بأن الميزان التجاري يميل لصالح روسيا بفائض قدره 342.7 مليون دولار في عام 2017.
ويأتي هذا التقدم بعد أن وقع الطرفان العديد من الاتفاقات ومذكرات التفاهم لتعزيز التعاون الاقتصادي في الأعوام الماضية، ومنها 14 اتفاقية تعاون في عام 2015، في مجالات عديدة، بما في ذلك النفط والبنوك والزراعة، كما أنه على هامش أعمال اللجنة الوزارية السودانية- الروسية المشتركة للتعاون الاقتصادي والتبادل التجاري في عام 2017، اتفقت الدولتان على عدة مشروعات مشتركة أخرى منها تحديث 12 مطارًا سودانيًا.
مجال الطاقة:
وفي تحول لافت أيضًا، بات قطاع الطاقة، وفق مؤشرات عديدة، أحد مجالات التعاون ذات الأهمية المشتركة بين الجانبين السوداني والروسي في الآونة الأخيرة، ويتمثل أول هذه المؤشرات في انفتاح الشركات الروسية على الاستثمار في عمليات التنقيب عن النفط والغاز الطبيعي بالأراضي السودانية مؤخرًا.
وفي يوليو 2018، أبرمت وزارة النفط السودانية اتفاقية مع شركة "روس جيولوجيا" للتنقيب عن النفط والغاز والاستثمار في "مربع 15" على الجرف القاري في البحر الأحمر، وهو ما قد يلبي، نسبيًا، تطلعات السودان لزيادة إنتاجها من النفط والغاز الطبيعي.
أما ثانيها، فينصرف إلى إجراء وزارة النفط السودانية مباحثات فنية مع شركة "روس جيولوجيا"، في يناير الجاري، لبناء مصفاة جديدة في مدينة بورتسودان بطاقة 222 ألف برميل يوميًا، في خطوة تعد على درجة كبيرة من الأهمية لتلبية احتياجات السوق المحلية من المشتقات النفطية.
فيما يتصل ثالثها، باتفاق الدولتين، في غضون مارس 2018، على خارطة طريق للشروع في الخطوات التنفيذية لبناء محطة نووية للأغراض السلمية منتصف العام الجاري، والتي تأتي بناءً على توقيع اتفاق تعاون حول الطاقة النووية السلمية في عام 2017.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إن تصاعد اهتمام الطرفين بتطوير مستوى العلاقات في مجال الطاقة، يكتسب أهمية خاصة من جانبهما، حيث تسعى روسيا إلى تعزيز وتوسيع نطاق أعمال شركاتها في أسواق منطقة الشرق الأوسط لتحقيق مكاسب اقتصادية ودعم نفوذها السياسي، فيما تبحث السودان عن شريك دولي موثوق به على المدى الطويل لكى تتمكن من تطوير قطاع الطاقة وتجاوز أزمة الوقود.
ورغم ذلك، يبدو أن تنفيذ مشاريع الطاقة السابقة المتفق عليها مع الجانب الروسي سوف يستغرق وقتًا طويلاً، نظرًا لطبيعتها الفنية والسياسية المعقدة، فضلاً عن أنها قد تواجه عقبات عديدة يتعلق أههما باضطراب الأوضاع الاقتصادية والمالية والسياسية في السودان خلال المرحلة الراهنة، بما قد يدفع الشركات الروسية إلى تأجيل تنفيذها حتى عودة الاستقرار في الداخل.