جاء إعلان الحرس الثوري الإيراني، في 22 ديسمبر 2018، عن تغير عقيدته العسكرية خلال المناورات التي أجراها مؤخرًا في منطقة الخليج مواكبًا لتطورات عديدة طرأت على الساحتين الداخلية والخارجية تعكس تصاعد مستوى التهديدات التي تواجهها إيران والتي فرضتها سياستها المتشددة على الأصعدة المختلفة. لكن هذا التوجه الجديد قد لا يعبر بالضرورة عن تحول شامل في العقيدة بقدر ما يعكس اتجاهًا نحو تبني تكتيكات جديدة في الاستراتيجية العسكرية تتوافق مع هذه التهديدات، خاصة وأنه لا يشمل تطورًا في مرتكزات العقيدة العسكرية التقليدية التي تستند إلى شق مذهبي حاكم وغير قابل للتغير في ظل استمرار النظام الحالي. فضلاً عن أن الحرس دائمًا ما يتبع سياسات هجومية تبدو جلية في الأدوار التي يقوم بها في مناطق الصراعات، والتي إلى أدت تفاقمها وعرقلة جهود تسويتها.
اتجاهات متباينة:
قبل ثمانية أعوام، وتحديدًا في عام 2010، اعتبرت قيادات في "الباسدران" أن المهام التقليدية التي قام بها خلال فترة الحرب مع العراق (1980-1988) لم تعد تتوافق مع المعطيات الموجودة على الأرض في المرحلة الحالية، على نحو دفعها إلى الدعوة لإجراء عملية إعادة هيكلة للوحدات المختلفة داخل الحرس، بهدف توسيع نشاطه وتعزيز قدرته على تنفيذ سياسات النظام الإيراني في الداخل والخارج.
وتوازى ذلك مع محاولات عديدة لتحجيم دور الجيش النظامي، في ظل رؤية اعتمدت على أنه لا يمتلك القدرة على تحقيق أهداف غير تقليدية يمكن أن يتبناها النظام، وهى رؤية قائمة منذ الإطاحة بنظام الشاه عام 1979.
لكن الإجراءات التي اتخذت حينها جاءت لتعبر عن تطوير أكثر منه تغيير في العقيدة العسكرية للحرس، حيث تضمنت عملية توسيع هيكلي للانسجام مع السياسات العسكرية القائمة آنذاك، في ظل ما كان يعتبر تهديدًا للجبهة الداخلية مع تزايد تأثير التيار الإصلاحي وتوسع نفوذه داخل مؤسسات النظام.
لكن في المرحلة اللاحقة، بدأت الأمور تتجه إلى التغير بشكل أوضح، في ظل الأدوار التى مارسها الحرس على الساحة الخارجية، من خلال الانخراط المباشر فى الصراعات وليس إدارتها عن بعد عبر الميليشيات التي قام بتكوينها وتدريبها في كل من العراق وسوريا واليمن، في إطار الاعتماد على نمط المواجهات غير المتماثلة.
ومن هنا يأتي الإعلان الأخير في سياق التعبير عن تداعيات هذا الانخراط مع عودة التهديدات التي يدعيها النظام مرة أخرى إلى الساحة الداخلية، وتزايد الحاجة إلى تعزيز قدرات الحرس في تلك الجبهة، خاصة مع تنفيذ بعض العمليات التي استهدفت المؤسستين العسكرية والأمنية خلال الفترة الأخيرة.
واللافت في هذا السياق، هو أن المناورات التي أعلن فيها عن تغير العقيدة العسكرية، والتي أجريت في 22 ديسمبر الجاري، تضمنت دورًا أوسع للقوات البرية التابعة للحرس، وليس للجيش النظامي، وهو ما يمثل مؤشرًا على الاستمرار فى سياسة التصعيد من جانب "الباسدران" في مواجهة الضغوط التي تعرضت لها إيران خلال الفترة الماضية، والتي عبر عنها أيضًا في إجراء تجربة جديدة لإطلاق صاروخ باليستي متوسط المدى في بداية الشهر نفسه، أشار قائد القوة الجوفضائية التابعة للحرس امير علي حاجي زاده، بعد ذلك بنحو أسبوع، إلى أنها تأتي في سياق التجارب التي يقوم بها الأخير على مدار العام والتي تتراوح بين 40 و50 تجربة.
دلالات متعددة:
عكست التصريحات التي أدلى بها قادة الحرس الثوري خلال المناورات التي أجريت مؤخرًا في الخليج العربي، والتي أشاروا فيها إلى تغيير عقيدته العسكرية، مستوى القلق الذي ينتاب إيران من إمكانية تراجع المكتسبات التي حققتها في مناطق الصراعات، لا سيما في ظل ما تفرضه من توفير قدرات إضافية خاصة في ضوء الانسحاب الأمريكي من سوريا وتزايد الحاجة إلى الدفع بمزيد من القوات لملء الفراغ، وفق التصور الإيراني، وهو ما يستتبع زيادة الإنفاق العسكري على الجبهة السورية، على نحو يمثل تحديًا في ظل الأزمة الاقتصادية الداخلية والتصعيد الدولي خاصة الأمريكي مع توالى استئناف العقوبات، وهى العوامل التي كان لها دور، حسب تقارير إيرانية عديدة، في تخفيض المخصصات المالية للقوات المسلحة في الموازنة الأولية التي قدمها الرئيس حسن روحاني إلى مجلس الشورى في 25 ديسمبر الجاري.
وربما لا ينفصل ذلك عن وجود اتجاه داخل إيران بات يرى أن "النمط الدفاعي"، وفقًا لرؤيته، بشكله التقليدي لم يعد يلاءم استمرار سياسة التمدد في الخارج، خاصة وأنه ينعكس سلبًا على قدرات الحرس في تأمين الجبهة الداخلية، في ظل ما تشهده من توترات سياسية واضطرابات أمنية، تتوازى مع التصعيد مع الولايات المتحدة الأمريكية، والذي انعكس في وصول حاملة الطائرات "يو أس أس جون ستينيس" إلى الخليج، في 22 ديسمبر الجاري، وهى الأولى منذ إعلان إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انسحابها من الاتفاق النووي في 8 مايو الماضي.
فضلاً عن ذلك، تزيد تلك التصريحات من احتمال اتجاه طهران إلى شن هجمات على أهداف تعتبرها معادية لها في المنطقة، على نحو سوف يؤدي إلى تغيير قواعد الاشتباك التقليدي مع بعض القوى، وهو ما ينطوي على مخاطرة كبيرة من جانبها، خاصة مع إصرار الأخيرة على مواجهة مساعيها لتكريس نفوذها في مناطق قريبة منها، وهو ما بدا جليًا في الضربات المتتالية التي وجهتها إسرائيل لمواقع تابعة لإيران وحزب الله والنظام السوري في دمشق وغيرها من المناطق السورية، وكان آخرها الضربات التي شنتها على مواقع قريبة من دمشق بينها مطارها الدولي في 26 ديسمبر الحالي، والتي أعقبها تأكيد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على أنه "لن يقبل التعايش مع نفوذ إيران في سوريا بعد القرار الأمريكي بالانسحاب منها".
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إن هناك تغيرًا نسبيًا يتعلق بطبيعة الدور الوظيفي فقط، دون أن يمتد إلى تغير في السياق العام للعقيدة العسكرية للحرس، خاصة في ظل وجود متغيرات عديدة يمكن أن يكون لها دور رئيسي في ضبط حدود هذا التغيير، لا تتعلق فقط بالتطورات الداخلية، وإنما ترتبط أيضًا بتوازنات القوى القائم على الساحة الإقليمية.