تشهد هذه الأيام احتفالات ضخمة بذكرى استقلال لبنان، أي خروج الجيوش الفرنسية منه منتصف أربعينيات القرن الماضي. وفيما وراء السخرية التي قابل بها الجمهور هذه الاحتفالات، يتجلّى إحساسٌ عميقٌ بالفقدان. وهو فقدانٌ يظهر بوضوح لدى الجزء المسيحي من اللبنانيين. فهم يعزّون أنفسهم خفيةً بأنّ الصراع الآن هو بين الشيعة والسنة فحسب، لكنهم يحتارون في تشخيص «الكسْب» الذي حصلوا عليه؛ فالعهد القوي مع مجيء الجنرال عون للرئاسة ما حقّق غير انتزاع بعض المناصب والوظائف من السنة أساساً. أما هدف «المناصفة» فلا يمكن تحقيقه، بل هناك مُضيٌّ باتجاه «المثالثة» بين المسيحيين والشيعة والسنة. وصلاحيات الرئيس، والتي يعتبرون أنّ اتفاق الطائف انتزعها منهم؛ الشيعة هم مَن حصل عليها وليس السنة. في عام 2006، وعندما كان نهوض «14 آذار» في ذروته، وقد غادر الجيش السوري لبنان، انفصل الجنرال عون عن حركة النهوض الوطني العام ومضى باتجاه «حزب الله» فأنجز تفاهماً معه على كل شيء بما في ذلك استعادة العلاقات مع النظام السوري مقابل ترشيحه (عون) للرئاسة. ولأنّ الهدف كان صغيراً وقد تحقق بوصول عون للرئاسة عام 2016 من دون أن يتغير شيء كبير، تبدو الخيبة والحيرة في الوقت نفسه. فجبران باسيل، صهر الرئيس الذي يريد أن يخلُفه في المنصب، يقفز بكل اتجاه وبخاصة نحو «حزب الله» وسوريا، أراد بمناسبة احتفالات الاستقلال وضع لوحة على صخور نهر الكلب (التي تُسجَّلُ عليها تواريخ خروج الجيوش الأجنبية من لبنان الخالد) تذكر تاريخ خروج جيش «الاحتلال السوري» من لبنان! وقد أزعج ذلك أكثر ما أزعج سوريي الأسد وأنصارهم في لبنان، الذين يعلنون يومياً عن الانتصار في «الحرب الكونية» على نظام الأسد، وذكّروا باسيل أنهم هم أيضاً أسهموا في مجيء عون للرئاسة، وتساءلوا: بمن سيستعين باسيل في مساعيه للرئاسة!
وراء ذلك كلّه تظهر حقيقة أنه كان هناك دائماً، ومن قبل قيام لبنان، دولةٌ أو أكثر يعتبرها المسيحيون اللبنانيون حاميةً لهم. وقد صار الهمُّ بعد إقامة فرنسا للبنان مزدوجاً: حماية المسيحيين، وحماية النظام الذي تسيّدوا فيه. وهما ليسا شيئاً واحداً دائماً. بعد فرنسا جاءت الولايات المتحدة، ثم جاءت مصر عبد الناصر، ثم سوريا الأسد. ولأنّ النظام يتمايز عن الفئة المسيحية؛ فإنّ الحماة الإقليميين والدوليين، بحثوا دائماً عن التوازُن الداخلي إلى جانب الرعاية الخاصة للمسيحيين. وكانت مصلحة مصر في التوازن المسيحي السني، ومصلحة سوريا في عهد آل الأسد التوازن الشيعي المسيحي. ووحدها لحظة 14 آذار حاولت للمرة الأُولى استحداث اكتفاء ذاتي داخلي، وتوازنات داخلية بدون حُماةٍ خارجيين، وهو ما لم يقبله الجنرال عون لأنه أراد التفرد، وما قبل ببروز مسيحيين آخرين من خلال «ثورة الأرز»، وظهور زعامات مسيحية أُخرى. ونجح عون ليس في الوصول للرئاسة فقط؛ بل وفي تنمية وعي الخصوصية في أوساط المسيحيين اللبنانيين والسوريين من خلال «تحالف الأقليات». وقد تسللتْ هذه القناعة إلى وعي فئاتٍ مسيحيةٍ واسعة بعد تصاعد الحرب في سوريا وانضمام أكثرية بين المسيحيين الأرثوذكس في سوريا ولبنان إلى هذه القناعة بعد الموارنة. هذا «التحالف» ليس بين أكفاء متعاونين، بل يعني عودة المسيحيين لحضن الحماية والتبعية التي نفروا منها دائماً أشدَّ النفور.
كل هذه الشكوك والاعتبارات تشابكت وتضاربت في وعي المسيحيين اللبنانيين وواقعهم عشية الاستقلال. وقد تبين لهم ذلك عندما شنّ زعيم «حزب الله» قبل أسبوعين حملةً على الجميع بداعي اقتناص «حصة» وزارية لأنصاره من النواب السنة. فهو لم ينذر الحريري طالباً إطاعة أوامره وحسب، بل هجم على الرئيس والبطريرك والمفتي الذين رأوا في هذا المطلب مزيداً من التعطيل لعملية تشكيل الحكومة. لقد أدرك المسيحيون أخيراً أنّ هناك راعياً وحاكماً لهم وللبنانيين الآخرين، لا يختلف عن الراعي السوري. والمشكلة هذه المرة أنه وإن يكن ممثلاً لولاية الفقيه الإيرانية؛ هو من فريق داخلي لبناني يمثل ثلث الشعب اللبناني، وهو إلى ذلك مسلَّح، ويبسط سيطرته على الجميع.
الرئيس الأسبق أمين الجميل، قال بمناسبة الذكرى الثانية عشرة لاستشهاد ابنه النائب والوزير بيار الجميل، إنه كان خطأً كبيراً التخلّي عن 14 آذار. والباحث والكاتب السياسي سامي نادر قال إنه من الخطأ اعتبار السنة مستهدفين وحدهم. وجنبلاط أسِف قبل أيام لأنه لم يبق في 14 آذار غير الدكتور فارس سعيد!
*نقى عن صحيفة الاتحاد