وافق وزراء خارجية وداخلية دول الاتحاد الأوروبي (41 وزيراً)، في 18 مايو الماضي، رسمياً على قيام عملية بحرية لمحاربة الهجرة غير الشرعية في البحر المتوسط، تحت اسم "يونافور"، التي سيكون مقرها في روما، وسيكون الأميرال إنريكو كريدندينو (إيطالي الجنسية) قائد العملية. وتقدّر التكاليف العامة للعملية بـ 11.82 مليون يورو سيتم تشغيلها في مرحلة تجريبية تدوم شهرين، بالإضافة إلى ولاية أولية مدتها 12 شهراً، وستطبق الخطة على ثلاث مراحل.
وتتضمن الخطة عدة محاور، أبرزها:
- القيام بجهد منهجي لإمساك وتدمير السفن المستخدمة من قبل المهربين بمضاعفة التمويل والأدوات التي تستخدمها وكالة مراقبة الحدود الأوروبية "فرونتكس" عبر استخدام السفن الحربية والطائرات، وكل الأسلحة اللازمة لقتال المهربين وتدمير البنية التحتية التي يستخدمونها.
- توسيع نطاق عمل "فرونتكس"، الذي يقتصر على المياه الإقليمية الأوروبية، إلى المياه الدولية حتى شواطئ ليبيا، ووضع حزمة الأهداف وخرائط العملية العسكرية، بالتنسيق بين الأجهزة الأوروبية، و"فرونتكس" ووكالة الشرطة الأوروبية "يوروبول"، عبر اجتماعات منتظمة ومكثفة لجمع المعلومات عن طرق عمل المهربين.
- تعزيز موارد عملية المراقبة الحدودية "ترايتون" بما يسمح لها بمزيد من التدخل، ونشر "ضباط اتصال"، ضمن بعثات الدول الأوروبية في دول الطرف الثالث المعنية بأزمة اللجوء، وتحديداً الدول العربية، بهدف "جمع معلومات استخباراتية حول تدفقات الهجرة".
- ضرورة تسريع إنشاء مخيمات اللجوء في الخارج (جنوب المتوسط)، خاصة المشروع التجريبي في النيجر، في تبنٍ واضحٍ لاقتراح وزير الداخلية الألماني الأسبق أوتو شيلي، قبل عشرة أعوام، والذي وُصف حينها بأنه "انتهاك للمبادئ الإنسانية"، لتنظيم احتياجات الاتحاد الأوروبي للاجئين، على أن تشارك البلديات في إدارة هذه العملية عبر تقويم وضع اللاجئين المحتملين.
- محاولة إقناع اللاجئين بأنه من الأفضل عدم ركوب البحر، والانتظار للحصول على لجوء "شرعي"، بعد فحص ملفاتهم وهم في تلك التجمعات، وإلا سيكونون مهددين بالترحيل حال وصولهم، أو من البحر مباشرة كما توحي الخطة، التي من المقرر إعطاء أمر التنفيذ لها من رؤساء الحكومات في قمة الاتحاد الأوروبي المقررة في 25 يونيو الجاري.
الدوافع والمحددات
منذ الانتفاضات العربية في عام 2011، أدت الاضطرابات والقلاقل التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط إلى موجات كبيرة من المهاجرين إلى أوروبا، بحثاً عن حياة أفضل، وهرباً من الحروب الأهلية والمجاعات والفقر، لكن هذه الرحلة غالباً ما تكون محفوفة بالمخاطر.
وبحسب المركز الفرنسي للإحصاءات العلمية، فقد قُتل 29 ألفاً و917 مهاجراً خلال رحلات الهجرة إلى أوروبا خلال السنوات الـ 21 الأخيرة. وبحسب المنظمة العالمية للهجرة يُقدر عدد الذين ماتوا غرقاً في البحر المتوسط بـ 22 ألف منذ سنة 2000، وعدد الذين ماتوا غرقاً في المتوسط بألفي مهاجر منذ بداية سنة 2015، أي نحو 6 أضعاف العدد الغارق سنة 2014، وهو 3500 شخص.
وقد أعلنت الوكالة الأوروبية لحماية الحدود (فرونتكس) في 10 مارس الماضي، أن أعداد اللاجئين ارتفعت من نحو 100 ألف لاجئ في عام 2013 إلى قرابة 275 ألف عام 2014. لكن الرقم الذي أحدث دوياً، أكثر من غيره، هو إعلان رئيس "فرونتكس" الفرنسي فابريس لياندري أن ما بين 500 ألف ومليون مهاجر مستعدون للمغادرة انطلاقاً من السواحل الليبية.
وتعي أوروبا التحول في ظاهرة الجريمة المنظمة في منطقة المتوسط، حيث أصبح الاتجار بالبشر أكثر ربحاً وأمناً من تهريب المخدرات، لأن نجاح العملية الأخيرة مرهون بوصول البضاعة إلى أوروبا. أما عملية تهريب المهاجرين، فلا يضمن أصحابها إلا المغادرة ولا يهمهم الوصول أو حتى الغرق في البحر على الإطلاق.
وهنا، تكمن معضلة أوروبا: فإن لم تتدخل، فإن مهاجرين يلقون حتفهم قرب سواحلها، وإن تدخلت، فهي تدعم عملياً شبكات تهريب المهاجرين على الضفة الجنوبية الذين سيرسلون مزيداً من قوارب الموت.
من ناحية ثالثة، شكل تمدد تنظيم "داعش" في ليبيا واقترابه من الحدود الأوروبية، عامل خوف إضافياً من أن يُسهل ذلك سيطرة التنظيم المتطرف على البحر، ويُمهد بذلك لتسلله إلى أوروبا أو التعرض لسفنها في البحر المتوسط، وهو ما أشار إليه رئيس الحكومة الفرنسية مانويل فالس أواخر فبراير الماضي في مؤتمر عُقد في مدريد، حين قال "إن الإرهاب أصبح على أبواب أوروبا، والتهديد أصبح خطيراً وجدياً"، لاسيما بعد ذبح "داعش" 11 قبطياً مصرياً في ليبيا منتصف فبراير الماضي.
وجددت الحكومة الليبية المعترف بها دولياً، في 1 يونيو الجاري، مطالبتها بالمساعدة لمواجهة تقدم تنظيم "داعش"، الذي سيطر على مطار سرت (450 كلم شرق طرابلس)، ويهدد بالاستيلاء على المنشآت النفطية في هذه المنطقة الساحلية.
وفي مقابلة نشرتها صحيفة "إل باييس" اليوم (6 يونيو الجاري)، اعتبر وزير الدفاع الإسباني بيدرو مورينيس أنه "ربما تكون هناك حاجة إلى تدخل عسكري دولي لإنهاء الاضطرابات في ليبيا، حيث يسعى تنظيم "داعش" المتطرف إلى تعزيز وجوده"، مضيفاً أن "ثمة تحالف ليس مكلفاً فقط للتصدي لداعش في العراق وسوريا، وثمة تحالف للتصدي لداعش في كل مكان إذا تمددت الخلافة إلى ليبيا، فعلى التحالف أن يتحرك"، لاسيما أن المسافة التي تفصل بين ليبيا وجنوب السواحل الإيطالية لا تتجاوز 350 كليلو متر.
الإشكاليات والمخاطر
من المؤكد أن الخطة الأوروبية الجديدة لمواجهة الهجرة غير الشرعية في المتوسط ستطرح إشكاليات ومخاطر عديدة:
1 ـ سياسياً ودبلوماسياً:
يشير البعض إلى أن تدمير الجنود الأوروبيين للسفن المشبوهة في ليبيا عملية بالغة الصعوبة، ولا يكاد يمكن تطبيقها، وأن الأفضل التعامل بالطرق الأمنية والاستخباراتية مع عصابات التهريب، إلى جانب بذل جهود أكبر لتأمين الأوضاع السياسية والاقتصادية في مواطن الهجرة واللجوء.
ويعترض العديد من أعضاء المجلس النيابي الأوروبي على استهداف الزوارق والسفن في المياه الإقليمية وعلى السواحل الليبية من حيث الأساس، لعدم إمكانية التمييز المطلوب عسكرياً بين ما يستخدم من القوارب للتهريب وما يستخدم للصيد، ناهيك عن تعريض اللاجئين أنفسهم للخطر.
ومن ناحية أخرى، رفض الكاردينال الإيطالي المكلف بشؤون الهجرة في الفاتيكان، أنطونيو ماريا فيغلي، الخطة الأوروبية الجديدة، معبراً عن خشيته "من أن تؤدي هذه الخطوة إلى إزهاق أرواح، وليس فقط تدمير قوارب"، وقال إن "الحروب والديكتاتوريات هي ما يدفع الأشخاص إلى الفرار إلى مكان آمن، يستطيعون الوصول إليه".
كما أن تطبيق المرحلتين الثانية والثالثة من الخطة اللتين تنصان على تفتيش القوارب ومصادرتها أو إرغامها على العودة، إضافة إلى التدخل العسكري على الأراضي الليبية، تتطلبان تفويضاً من مجلس الأمن تحت الفصل السابع، قبل إطلاقها.
لكن هذا التفوض الدولي لا يبدو أمراً سهلاً، فمن ناحية أولى ثمة "تحفظ" من جانب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، الذي حث، في 26 أبريل الماضي، الدول الأوروبية على التخلي عن التعامل العسكري مع أزمة المهاجرين غير الشرعيين في مياه البحر المتوسط، مؤكداً أنه "لا يوجد حل عسكري للكارثة في المتوسط".
ومن ناحية ثانية، ثمة "اعتراض" روسي على الخطة الأوروبية، وهو ما أعلنه المندوب الروسي الدائم لدى الأمم المتحدة فيتالي تشوركين، الذي أشار إلى أن موسكو لا تدعم اقتراح الاتحاد الأوروبي إجراء عملية ضد سفن مهربي البشر في المتوسط، وأكد لمنسقة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي بنيويورك، في 10 مايو الماضي، عدم تأييد موسكو لاتخاذ خطوات راديكالية على غرار تدمير سفن مهربي البشر، لافتاً انتباه المسؤولة الأوروبية إلى الجوانب القانونية لمثل هذه العملية، ومنها آلية مساءلة المتورطين في إرسال سفن التهريب وأفراد طواقمها، ومصير ركاب السفن بعد تدميرها.
وشدد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، خلال مؤتمر صحفي في موسكو في 1 يونيو الماضي مع نظيره الإيطالي باولو جينتيلوني: "لا نريد (أن يكون القرار الجديد) قابلاً لأكثر من تأويل، علماً بأن ذلك أدى إلى تجاوزات فظة في سياق تطبيق القرار القرار الدولي رقم 1973 بشأن ليبيا الصادر في مارس 2011"، ومنذ ذلك الحين، أكدت موسكو مراراً أنها لن تسمح بصدور قرار آخر يمكن تفسيره على أكثر من وجه.
وعلى الرغم من أن فيدريكا موغيريني زارت الصين أوائل مايو الماضي، لمحاولة إقناعها بعدم معارضة الخطة الأوروبية في مجلس الأمن، لكن يُعتقد أن بكين تساورها أيضاً بعض الهواجس المشتركة مع روسيا.
أما الأمر المفاجئ فهو "التحفظ" الأمريكي، الذي ينطلق من احتمال إشراك مصر في الجهود الأوروبية وإضفاء الشرعية الدولية على إمكانية تدخل قوات عربية في ليبيا.
ومن ناحية أخرى، لابُد من الحصول على الموافقة الرسمية الليبية باعتبار العمليات العسكرية ستشمل مياهها وأجواءها وأراضيها، وقد سارع حاتم العريبي مندوب الحكومة اللبيية المعترف بها دوليا في نيويورك إلى إعلان الرفض القاطع لانتهاك السيادة الليبية عبر العملية العسكرية الأوروبية المزمعة.
وأعلن سفير ليبيا في الأمم المتحدة، إبراهيم دباشي، في 2 يونيو الجاري، أن حكومة بلاده ترفض الموافقة على الخطة العسكرية الأوروبية، طالما أن الحكومات الأوروبية تناقش الخطة مع الميليشيات الليبية التي تسيطر على الأراضي الساحلية، لا يتعاملون مع الحكومة الشرعية بوصفها الممثل الوحيد للشعب الليبي، لن تمنح الحكومة الضوء الأخضر لإصدار قرار من الأمم المتحدة.
2 ـ أمنياً وعسكرياً:
ثمة خلافات حول حيثية وضع قوات على الأرض، لأن طبيعة العملية ربما ستتطلب إرسال قوات إلى الأراضي الليبية المتاخمة للبحر. وفي حين يدعم الإيطاليون هذه الخطوة، ويتحدث مسؤولوهم عن ضرورة "تحرك محتمل" في ليبيا، فإن دولاً أخرى ترى أن المخاطر ستكون عالية جداً.
ويرى عدد من الخبراء أن العملية وإن تمت، لا يمكن أن تُستكمل وتؤدي الغرض المطلوب منها والمتمثل في القضاء على المهربين، إنما ستجر الويلات على أوروبا وستُعرض خفر السواحل الأوروبيين إلى عمليات اعتداء من قبل هذه الجماعات.
ولا يخفى على أحد أن المهربين هم جماعات منظّمة تملك السلاح، وهناك سوابق في هذا الموضوع، وفي أكثر من مرة قاموا بإطلاق النار على خفر السواحل الإيطالية، وذلك من أجل استرداد مراكبهم التي تمت مصادرتها من قِبل الجنود الإيطاليين.
واستهداف ليبيا لا يحل المشكلة أصلاً، إذ لا يمكن استهداف جميع المواقع المعنية في المياه التركية واليونانية واللبنانية وغيرها، وبالتالي يمكن للمهربين التحول للتركيز عليها مجدداً، هذا علاوة على أن غرق العديد من السفن والقوارب لم يوقف عمليات التهريب، ولا يبدو أن إغراقها بقوة السلاح بدلاً من غرقها بقوة أمواج البحر سيغير المعادلة.
وتثير الخطة الأوروبية عدداً من التساؤلات والشكوك، أولها يتعلق بمصير المهاجرين غير الشرعيين الذين سيقعون في أيدي السفن الأوروبية، وهل سيعودون إلى الشواطئ الليبية؟ هل ثمة من سيقبل استقبالهم من بين البلدان الأوروبية؟ علماً بأن رئيسي حكومتي فرنسا مانويل فالس وبريطانيا ديفيد كاميرون رفضا خطة رئيس الاتحاد الأوروبي القاضية بتوزيع المهاجرين وفق حصص تحتسب بالنسبة إلى عدد السكان وحالة الاقتصاد. وثانيها يتناول مصير المهربين الملقى القبض عليهم: ماذا سيكون مصيرهم؟ من سيحاكمهم؟ ووفق أية قوانين؟.
أخيراً قد يكون من الأجدى لبلدان الاتحاد الأوروبي أن تتبنى مخططاً أكثر شمولية للتعاطي مع ظاهرة الهجرة غير الشرعية، فطالما أن الفوضى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مستمرة، فإن الضغط على مزيد من الناس من أجل الهجرة إلى أوروبا سيزداد، ولذا فإن الحل هو مساعدة تلك البلدان في تحقيق الاستقرار السياسي والأمني والخروج من خانة الفقر المدقع وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
لكن عملاً من هذا النوع لا يتحقق إلا عبر جهود كبيرة وآماد طويلة، لاسيما أنه يفترض استثمارات ومساعدات، والواضح أن أوروبا المأزومة اقتصادياً لا تريد الآن الاقتطاع من ميزانياتها وتفضل حلولاً عسكرية وأمنية، تراها الآن أقل كلفة وأسرع "إنتاجية" وأكثر تلبية لما يريده الرأي العام في هذه البلدان، لاسيما في ظل تزايد ظاهرة العداء للأجانب والإسلاموفوبيا، وتهافت النخب الحاكمة في التماهي مع غلاة اليمين الأوروبي والمزايدة على أطروحاته.