عرض: رغدة البهي، مدرس العلوم السياسية المساعد - جامعة القاهرة
استغل تنظيم "داعش" إحدى الثغرات الأمنية، على نحوٍ مكنّه من امتلاك برنامج للطائرات بدون طيار (الدرونز)، وتحدي التفوق الجوي الأمريكي تكتيكيًّا، وذلك من خلال وسائل رخيصة ومبتكرة، في وقتٍ تنفق فيه الولايات المتحدة وغيرها ملايين الدولارات لتطوير ونشر تقنياتٍ مضادة لها، للحد من آثارها ومواجهتها.
وفي هذا الإطار، تبرز أهمية تقرير "دون راسلر" (مدير المبادرات الاستراتيجية بمركز مكافحة الإرهاب، والأستاذ المساعد بالأكاديمية العسكرية الأمريكية)، المُعنون "الدولة الإسلامية والدرونز: الإمداد، والنطاق، والتهديدات المستقبلية"، والذي نشر في يوليو ٢٠١٨ بمركز مكافحة الإرهاب. وفيه جادل الكاتب بأنه على الرغم من تراجع تهديد التنظيم الإرهابي، وتزايد التحديات التي تواجهه؛ إلا أن من الخطأ التقليل من شأنه، بعد أن بات مصدرًا مُلهِمًا لعددٍ من الدول والتنظيمات الإرهابية على حدٍّ سواء، بالنظر إلى قدراته على تطوير استراتيجياته، وما يمتلكه من درونز. ولتقييم قدرات التنظيم وتداعياته، تساءل الكاتب عن الكيفية التي طور بها التنظيم برنامجًا للدرونز، وأسباب تفرد ذلك البرنامج.
امتلاك الدرونز:
رأى الكاتب أنه على الرغم من الضغوط الدولية، وتفوق القدرات الفنية والموارد المالية الأمريكية، شيّد تنظيم "داعش" منصاتٍ للدرونز، وحاز بعضها بتكلفةٍ منخفضة، واستخدمها لأغراضٍ مختلفة، بما في ذلك: مهام المراقبة والاستطلاع، وتحسين دقة قذائف المورتر، وتوجيه الانتحاريين، وقصف ومهاجمة الخصوم، وإسقاط الذخائر المتفجرة. وذلك من خلال جمع بعض الأجهزة البسيطة وتفكيك أخرى، بالاعتماد على بعض المواد البسيطة المتاحة من: البلاستيك، والمعدن، والخشب، وغيرها.
استخدم التنظيم الدرونز والانتحاريين أثناء دفاعه عن الموصل، رغم فرض التحالف الدولي حظر طيرانٍ على الدرونز التجارية، وهو الأمر الذي تجاوزه التنظيم عن طريق إدخال تعديلاتٍ على التطبيقات الذكية، ووضع رقاقاتٍ معدنية على أنظمة تحديد المواقع في الدرونز. أو بعبارةٍ أخرى، تأسس نهج "داعش" على تدابير مضادةٍ فعالة، مما ساهم في نجاحاته. ولذا، من المحتمل أن يتّبع الآخرون نهج التنظيم البسيط والسريع منخفض التكلفة لامتلاك الدرونز.
بدأ التنظيم في توظيف الدرونز في أعقاب مقتل اثنين من جنود البشمركة الكردية بقنبلةٍ مخبأةٍ في إحداها في أكتوبر 2016، حين شن التنظيم أكثر من (100) هجوم بقذائف الدرونز الجوية في العراق وسوريا. وأظهرت مقاطع فيديو تابعة للتنظيم إسقاط الذخائر من الجو على عددٍ من الدبابات، والمركبات، والأشخاص.
إن استيلاء التنظيم وسيطرته على مساحاتٍ شاسعة من الأراضي، فضلًا عن المدن الرئيسة والمرافق العسكرية لفترةٍ طويلة من الزمن في سوريا والعراق، كان عاملًا حاسمًا في تمكين التنظيم من المصانع، ومعدات التصنيع، والمتفجرات، وغيرها من الأسلحة. هذا إلى جانب الاعتماد على نهجٍ هندسيٍّ بسيطٍ ومبتكر، عماده كافة المواد المتاحة، وشراء عددٍ من الدرونز ومكوناتها، وتطوير صناعة الأسلحة. إذ تظهر وثائق التنظيم التي عثرت عليها القوات العراقية في الموصل كيف حاول التنظيم إضفاء الطابع المؤسسي على البيانات المتعلقة ببرنامج الدرونز، لتشمل قوائم بكافة فحوصاتها قبل وبعد رحلاتها، وسجلاتٍ بالمهام التي قامت بها. وقام التنظيم بتشغيل مرافق تصنيعٍ للدرونز بأحجامٍ مختلفة ومستوياتٍ متفاوتة بجودةٍ عالية. كما حصل على عددٍ لا بأس به من طائرات الدرونز التجارية، وطور منصاتٍ ثابتة لها، وصنّع بعض مكوناتها محليًّا، من الخشب، وهياكل الطائرات.
واستشهد الكاتب بدراسة عن مكونات العبوات الناسفة يدوية الصنع التي تم اكتشافها في العراق وسوريا، وقد تمثلت أبرز نتائجها في تورط (50) كيانًا تجاريًّا و(20) دولةً في إمداد "داعش" بالمكونات اللازمة لبناء تلك العبوات بشكلٍ قانوني. وبفحص المواد التي تم الكشف عنها بدراسة نشاط التنظيم في بلدانٍ عدة بين عامي 2014 و2017، يمكن الدفع بوجود شبكةٍ متكاملةٍ من الأفراد والشركات تتولى مَهمة شراء وتوزيع معدات الدرونز وإن حاول التنظيم إخفاء أنشطتها.
انتكاسات عدة:
أشار الكاتب إلى انتكاس تنظيم "داعش" عقب الهجوم الإرهابي الذي نفذه في نوفمبر 2015 في باريس على نحوٍ أثّر سلبًا على قدرة التنظيم على استخدام الطائرات التجارية، ومكونات الدرونز، وتوجيه الأموال إلى التنظيم في العراق وسوريا، وإرسال الأموال التشغيلية لمؤيدي التنظيم خارج بلاد الشام.
ويتصل ذلك بمقتل "سيف الحق سوجان" الذي أدار هو وشقيقه الأكبر -قبل انضمامه إلى التنظيم- عددًا من شركات تكنولوجيا المعلومات والإلكترونيات. وهو عضو في التنظيم البنغالي، وله دورٌ بارز في التجنيد الإلكتروني، والتطوير العسكري للتنظيم. وابتداءً من يوليو 2015، أجرى سوجان عدة عمليات شراء للتنظيم؛ إلا أنه قُتل في سوريا في 10 ديسمبر 2015 في غارةٍ جوية بالقرب من مقر قيادة التنظيم في الرقة.
كما يتصل ذلك أيضًا بالقبض على أشخاصٍ زعمت السلطات في بنجلادش استخدامهم مختلف مكاتب شركات IBACS في المملكة المتحدة لتحريك الأموال نيابة عن التنظيم من وإلى بلاد الشام. فقد كانت تلك المكاتب منبرًا لتمويل الإرهاب في (10) دول على الأقل. وتمت عمليات شراء الدرونز عن طريق غطاءٍ من خمس شركات مختلفة، تقع في ثلاثة بلدان على مرحلتين. شملت أُولاهما الحصول على مكونات الدرونز من خلال شراء "سوجان" وشقيقه، باستخدام شركات IBACS عدة مكونات وأجهزة من تسع شركات مختلفة على الأقل في الولايات المتحدة وكندا، باستخدام أسماء مزوّرة، وتطبيقات المراسلة المشفرة. وقد تم شحن عديد من المواد المشتراة مباشرةً إلى سانليورفا بتركيا، وهي بلدة تقع على بعد ساعة من بلدة تل أبيض (تقع في شمال سورية) الحدودية التي سيطر عليها التنظيم.
وتأسست ثانيهما على اقتناء الدرونز، وتحويل الأنظمة الجوية الموجهة عن بعد إلى أسلحة حرب. وفي عددٍ من الحالات التي درسها الكاتب، تم شراء الدرونز في دولةٍ واحدة، وتم تنشيطها في دولةٍ ثانية، وتم استخدامها في دولةٍ ثالثة. وقد تم شراء الدرونز التجارية من خلال أطرافٍ ثالثة من قِبل وحدةٍ تابعة للتنظيم من المواقع التجارية وغيرها من المصادر في: الصين، والهند، وتركيا. وهو ما يعكس وجود سلسلة توريدٍ عالميةٍ متعددة، شملت عمليات شراء من (16) شركة مختلفة على الأقل، تم تأسيسها في (7) بلدان مختلفة.
جهود المكافحة:
لقد أدركت الولايات المتحدة وأطرافٌ أخرى أن استخدام تنظيم "داعش" للدرونز كان تهديدًا بالغًا، وهو ما دفعها وشركاءها لتمويل وتطوير مجموعةٍ واسعة من الأجهزة المضادة لها، وإيجاد استراتيجية متعددة المستويات لاستهداف مهندسيها، ومورديها، ومرافق تصنيعها.
وخلال صيف عام 2017، دمرت الطائرات الحربية الأمريكية عدة مستودعات للدرونز، وورش العمل الآلية، والمدارس التجريبية، وقتلت ثمانية من القادة المسئولين عن الحصول على الطائرات وتسليحها وتوزيعها في سوريا والعراق. كما طورت واشنطن مجموعة من الإجراءات المضادة للطائرات التي تهدف إلى الاستيلاء على أجهزة الدرونز عندما تحلق جوًّا. وتشمل تلك الحلول: المدافع دون طيار، والليزر، والشباك، ونسور الصيد. وتهدف تلك الجهود -وفقًا للولايات المتحدة- إلى تقويض القدرة التكتيكية للتنظيم.
ووفقًا للكاتب، وللحد من إساءة استخدام الدرونز، فُرض حظر طيران في أجزاء كبيرة من العراق وسوريا، حيث ربط مقاتلو "داعش" القنابل بدائية الصنع بدرونز تجارية. واستخدمت الشركات المصنعة للطائرات تقنياتٍ لمنع الطيران بها عبر مواقع حساسة، مثل: المطارات، والمرافق العسكرية، والملاعب، وغيرها.
وفي أواخر مايو 2017، طلبت شركة DJI من جميع مالكي الدرونز من طرازها تسجيل الدخول إلى موقعها على الإنترنت لبدء عملية تنشيطٍ لتطبيقٍ جديد، يسمح لها بتحديث البرامج الثابتة ومزامنة كل جهاز. ودون الالتزام بذلك، سوف تقوم الشركة بتخريب الطائرات وتقليص ارتفاعها. ولا شك في تضاؤل فعالية ذلك في ظل قدرة التنظيم على قرصنة الموقع الإلكتروني للشركة.
ولا تحظى الجهود المبذولة للحد من توريد الدرونز ومكوناتها باهتمامٍ بالغ، ففي الوقت الذي أعلنت فيه الولايات المتحدة عن حجم استثماراتها في تلك الطائرات، لا تتوافر معلومات دقيقة بشأن استثماراتها في المعلومات الاستخبارية، وإنفاذ القانون، والجهود الدبلوماسية، لتقويض موردي التنظيم. وبالتالي، من المُرجَّح تزايد اعتماد التنظيمات الإرهابية على الدرونز مستقبلًا. ونظرًا لميل تنظيم "داعش" إلى الابتكار، يتوقع من التنظيمات الإرهابية الأخرى تحقيق ما تمكن التنظيم من تحقيقه في المجال الجوي، استنادًا إلى حالات نشر التكنولوجيا بين الجماعات الإرهابية.
مسارح مختلفة:
وفقًا للكاتب، يُظهر عددٌ كبير من الصور، ومقاطع الفيديو عبر الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، كيف يبدو تنظيم "داعش"، وكيف يعمل، وهو الأمر الذي يُمهد الطريق للمنظمات الإرهابية الأخرى التي تستخدم بالفعل الدرونز للسير على نفس النهج. وقد سعت بالفعل بعض التنظيمات الإرهابية لامتلاك تلك الطائرات؛ منها على سبيل المثال: أوم شينريكيو (تنظيم متطرف ياباني)، والقاعدة، وطالبان، وشبكة حقاني الأفغانية، والقوات المسلحة الثورية الكولومبية، وغيرها.
وقد تمكن تنظيم "داعش" من تحقيق نجاحاتٍ باستخدام الدرونز لأنه تمكن من استخدام طائراتٍ متاحة تجاريًّا بطرقٍ مبتكرة. ومن المرجح أن يستمر في استخدام الدرونز أينما وجدت الفرص وتزايد الضعف. ومن المتوقع مستقبلًا استهداف أهدافٍ مدنية أو مختلطة في الغرب وفي أماكن أخرى، بعد أن نشر التنظيم بالفعل مواد دعائية، تتضمن استخدامها ضد أهدافٍ رمزية في الولايات المتحدة.
ففي ربيع عام 2016، أعرب "ديفيد كاميرون" (رئيس الوزراء البريطاني السابق) وغيره من قادة العالم -آنذاك- عن قلقهم من اتجاه "داعش" لاستخدام الدرونز لنشر المواد السامة في المدن الغربية. كما أشار هؤلاء القادة بشكلٍ محدد إلى اهتمام التنظيم باستخدام طائرة من دون طيار لتنفيذ هجومٍ كيميائي. ولكن لا يسهل بطبيعة الحال شن مثل هذا الهجوم، على الرغم من سجل التنظيم الحافل في استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا والعراق لما يزيد عن (50) مرة.
وفي صيف عام 2017، ألقت السلطات الأسترالية القبض على شقيقين، وتصدت لمؤامرة "داعش" لبناء جهاز تشتيتٍ كيميائي، يضم كبريتيد الهيدروجين وغازًا سامًّا لاستخدامه في المناطق الحضرية. ووفقًا للشرطة الأسترالية، فإن التعليمات الخاصة بكيفية بناء الجهاز جاءت من سوريا، وهو ما يعني أن تنظيم "داعش" لا يملك القدرة على نقل المعرفة لإنتاج المواد الكيميائية السامة عبر اتصالاتٍ آمنة عبر الإنترنت إلى نشطاء يعيشون بالفعل في البلدان المستهدفة فحسب، ولكن أيضًا لشحن المواد بما في ذلك المتفجرات دون أن يتم اكتشافها أيضًا.
وختامًا، توصل الكاتب إلى صعود "الحرب الهجينة" التي ترتكن على معداتٍ منخفضة التكلفة، مما يتطلب تطوير مناهج جديدة، وشراكةٍ بين القطاعين العام والخاص، لإدارة التهديدات الهجينة المستقبلية، وذلك من خلال: امتناع الشركات عن شحن معداتها التقنية لمناطق متاخمة للصراعات والحروب، ووضع نظامٍ متطور لتقييم عمليات شراء المعدات والأجهزة، وتطوير تقنيات تتبع الدرونز وإعادة تجميعها، والتحقيق في شبكات التوريد ورسم خرائطها، وإغلاق قنوات الشراء الحالية.
المصدر:
.Don Rassler, "The Islamic State and Drones: Supply, Scale, and Future Threats", Combating Terrorism Center, West Point United States Military Academy, July 2018, pp. 1-24