عرض: مريم عبد السلام، مدرس مساعد العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة
تمر العلاقة بين السعادة والاستقرار السياسي، عبر جسر التنمية الاقتصادية، فكلما كانت عوائد تلك الأخيرة تتساقط على نطاق مجتمعي واسع، فذلك ما يحفز الرضا العام للمواطنين. وبالعكس، فإن بروز نماذج تنموية غير سعيدة في الدول قد يكون مدخلا محفزا لنشوء اضطرابات سياسية، ولعل المنطقة العربية شكلت في العام 2011 نطاقا كاشفا عن معضلة فقدان الرضا العام، والذي تجلى في موجة الاحتجاجات، حيث رفعت شعارات تطالب بالعدالة الاجتماعية، والحصول على معيشة كريمة عبر التصدي للفقر والبطالة. لذا، سعت دراسة صادرة في العام 2018 عن البنك الدولي - حول "تفجر الغضب الشعبي: اقتصاديات الربيع العربي وتداعياتها - إلى تقديم رؤية تؤكد أن هنالك ارتباطا وثيقا بين السعادة والتنمية الاقتصادية.
جدل التعريف:
يعد تعريف الطبقة الوسطي في دول الاحتجاجات العربية من الصعوبة بمكان، حيث لجأت بعض الدراسات إلى تتبع البيانات المتاحة عن ملاك المنازل وخريطة عقاراتهم السكنية لتعريف هذه الطبقة، فيما لجأت دراسات أخرى إلى تحديد حجمها في هذه الدول بالاعتماد على القوة الشرائية للمواطنين، بحيث تتخطى قدرة الفرد الشرائية مستوى خط الفقر، ولا تزيد عن 13 دولارًا في اليوم.
فيما تلجأ بعض الدراسات إلى طرح استبيان يحدد فيه الشخص الطبقة التي ينتمي إليها، مع توضيح بعض عاداته الشرائية ومستوى دخله، مع عمل مراجعة نهائية لكافة هذه الإجابات، واستخلاص استنتاجات من خلالها عن تعريف الطبقة المتوسطة. غير أن هذه الدراسة اعتمدت على تعريفات البنك الدولي للطبقة المتوسطة، بالإضافة إلى النهج الذي يتبعه كل من "هاي دانج" و"بيتر لانجوو" الخبيرين في البنك الدولي لتحديد هذه الطبقة، حيث يتم الاعتماد على خط الفقر الدولي أو الوطني لتحديد الفئة الفقيرة، ثم تتبقى فئة غير فقيرة يتم تقسيمها إلى مجموعة غير فقيرة حاليًّا، ولكنها تواجه احتمالية الهبوط إلى الطبقة الفقيرة خلال الفترة القادمة (الطبقة المتوسطة الدنيا)، والباقي ينتمون إلى الطبقة المتوسطة العليا والأغنياء.
وبالاعتماد على هذا التعريف، تابع التقرير تطور الطبقة الوسطى في دول الاحتجاجات في الفترة من أواخر التسعينيات إلى أواخر الألفية، حيث زاد حجمها من ٣٦٪ لتصل إلى ٤٢٪ من إجمالي السكان في دول الاحتجاجات، بيد أن دخل أفراد هذه الطبقة ظل ثابتًا في بعض الدول، كما ازداد بمعدل ضئيل أقل من الزيادة في دخل الطبقة الفقيرة كما هو الحال في تونس، أو كانت الزيادة بطيئة مقارنة بالسرعة التي ينمو بها دخل الأغنياء مثلما حدث في سوريا.
"التنمية غير السعيدة":
شهدت مرحلة ما قبل الاحتجاجات العربية تحسنًا في معدلات الفقر، وتحسنت أوضاع الطبقة الوسطى في بعض البلدان، وارتفع مستوى الخدمات، وهو ما كان يعطي علماء الاقتصاد انطباعًا زائفًا بأن الأوضاع مستقرة، وافترضت الدراسة أن عدم قدرتهم على التوقع ترجع لتجاهلهم لما يعرف بـ"مفارقة إيسترلين" (Easterlin Paradox)، حيث قام عالم الاقتصاد الشهير "ريتشارد إيسترلين" بكتابة مقال في عام 1974 يوضح فيه أنه مع ارتفاع مستوى ثراء دولة ما وتحسن خدماتها يصبح الأغنياء سعداء، لكن المجتمع في المتوسط لا يصبح أكثر رضاء وسعادة، وقد توصل "إيسترلين" لهذه النتيجة بعد مراجعته لبيانات الأمم المتحدة لبعض دول الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة في الفترة من 1946 إلى 1970، حيث ازداد مستوى الدخل العام بشكل كبير في مقابل انخفاض مستوى الرضاء العام. وهو ما وصفه تقرير البنك الدولي "بمتلازمة التنمية غير السعيدة" (unhappy development syndrome)، حيث يؤدي ارتفاع عدم الرضاء العام إلى قيام الأفراد بمحاولة تغيير العقد الاجتماعي القائم. وفي هذا الإطار، يُعرّف التقرير السعادة بأنها "الدرجة التي يحكم بها الفرد على حياته الخاصة بشكل إيجابي"، وغالبًا ما يتم التعبير عنها بمفاهيم أخرى، مثل: "درجة الرفاهية" و"الرضا عن الحياة" و"نوعية الحياة"، والتي عادة ما تقيسهم استطلاعات "جالوب" العالمية.
ولاختبار صحة هذه الفرضية، قام التقرير بمراجعة استطلاعات "جالوب" والتي يتضمن معظمها دول الاحتجاجات العربية، وقد أوضحت أن درجة الرفاهية كانت أقل من تلك المتوقعة عند مستوى دخل معين، كما تراجعت درجة الرفاهية في الريف مقارنة بالمدن بشكل كبير. فعلى سبيل المثال، ازدادت نسبة "مستاء" و"مستاء جدًّا" بشكل واضح في ريف سوريا في مقابل ارتفاع مستوى الرضا في المدن الحضرية.
وفيما يتعلق بالوظائف كان موظفو القطاع العام أكثر رضاء من موظفي القطاع الخاص في هذه الدول، وهو ما قد يرجع إلى التصورات بأن الوظائف الحكومية أكثر أمانًا واستقرارًا من نظيرتها الخاصة.
تأثيرات "النفق المزدحم":
حاول التقرير أن يقدم تفسيرات لمفارقة التنمية غير السعيدة ، فقد أشار إلى أن التنمية في هذه الدول كان منصبة على الكم وليس الكيف، فقد يكون معدل الوصول إلى الخدمات العامة قد ارتفع، في مقابل تراجع جودة هذه الخدمات، كما أن ارتفاع مستوى إنفاق الفرد قد يرجع إلى استبداله الخدمات الحكومية بخدمات خاصة أكثر ارتفاعًا من ناحية السعر، أو قيامه بالاستدانة لسد حاجاته، كما قد يضطر إلى استنفاد مدخراته في سبيل تحقيق حاجاته، أو يضطر إلى العمل لساعات طويلة.
يُضاف إلى هذا أن معدلات النمو التي لم يتم مشاركة عوائدها على المجتمع تؤدي إلى حدوث ما أطلق عليه المفكر الاقتصادي الشهير "ألبرت هيرشمان" تأثير النفق (Tunnel Effect)، حيث إن الوضع في هذه الحالة يشبه نفقًا مزدحمًا يشعر الموجودون في بدايته بقدر من الأمل نظرًا لأنهم يرون المخرج، بيد أنه إذا طال انتظارهم فسيشعرون بالغضب والتذمر، وهو ما ينطبق على وضع الطبقة الوسطى العليا في مرحلة ما قبل الاحتجاجات العربية.
ختامًا، أدى ذلك إلى سعي الأفراد إلى تغيير العقد الاجتماعي القائم بين المواطنين وحكومات ما قبل الاحتجاجات العربية، والذي كان يقوم على تقديم بعض المزايا بشكل خاص للطبقة الوسطى، في مقابل حدوث نوع من الاستقرار السياسي، فمثلًا يتم دعم المواد الغذائية، وتوفير وظائف حكومية تتيح للفرد الاستقرار بها حتى سن المعاش، بيد أنه منذ مطلع الألفية تزايد العجز المالي نتيجة لهذه الإعانات غير المدروسة، كما تضاءلت فرص التوظيف الحكومي، ولم يتمكن القطاع الخاص من خلق وظائف كافية في ظل ضعف هذا القطاع بشكل كبير نظرًا لأنه كان محتكرًا من قبل بعض الشركات والتي كانت تعرقل نمو الشركات الناشئة. فعلى سبيل المثال، كانت عائلة الرئيس التونسي الأسبق "زين العابدين بن علي" تمتلك العديد من الشركات في قطاعات الخدمات المصرفية، والنقل، والاتصالات، وكان يتم عرقلة أي منافسين لهم.
المصدر:
Elena Lanchovichina ," Eruptions of Popular Anger : The Economics of the Arab Spring and its Aftermath", World Bank Group, 2018.