تزامنت حادثة تعرض موكب لسائحين مكسيكيين بالخطأ في شهر سبتمبر 2015 لضربات من قوات الأمن المصرية قرب الواحات في الصحراء الغربية، مع تواصل عمليات الجيش في سيناء ضد تنظيم أنصار بيت المقدس (يطلق على نفسه ولاية سيناء بعد مبايعته لداعش) بهدف استئصال التنظيم (العملية العسكرية المسماة "حق الشهيد")، وهو ما يطرح سؤالاً مهماً حول العلاقة بين تحركات التنظيم الإرهابي في المنطقتين.
كما يطرح هذا الأمر أسئلة أخرى من قبيل: هل كان يخطط التنظيم لتخفيف الضغط على أعضائه المحاصرين بسبب عملية حق الشهيد عبر القيام بضربة قوية في المنطقة الغربية تربك الجيش المصري وتتسبب في تشتيت جهوده جنباً إلى جنب مع توجيه رسالة إحباط للشعب المصري بإثبات أن جيشه عاجز عن مواجهة مجرد عصابات إرهابية؟ أم أن التنظيم بدأ في الاقتناع بأن فرص نجاحه في إقامة إمارة له في مصر ستكون أكبر في جهة الحدود الغربية والجنوبية وليس جهة الحدود الشرقية؟ أو أن هناك احتمال ثالث بأن تحركات التنظيم في الصحراء الغربية ليست لها علاقة بما يدور في سيناء بقدر ما لها علاقة بأيديولوجية التنظيم التي بلورها أبوبكر ناجي - مُنظر تنظيم "داعش" - في كتابه المعروف "إدارة التوحش"، والتي ينصح من خلالها ألا يكرر التنظيم محاولة الاستيلاء على منطقة تعرض للفشل فيها من قبل، وأن عليه أن يبدأ محاولة جديدة في منطقة أخرى تحقق له في الحد الأدنى دعاية تصوره على أنه تنظيم كبير ومنتشر في أنحاء البلد الذي يستهدفه، وفي الحد الأقصى إمكانية النجاح فعلاً في الاستيلاء على المنطقة التي تتم مهاجمتها.
لماذا نشأ التنظيم في سيناء؟
من الناحية الأمنية المباشرة قد يبدو مفهوماً لماذا يتمركز تنظيم بيت المقدس في سيناء كونها مكاناً مناسباً من عدة وجوه، أبرزها:
أولاً: لا توجد في شمال سيناء قوات أمن مصرية كبيرة بسبب القيود المفروضة على تحركات ومستوى تسليح وعدد جنود الجيش المصري وفق معاهدة السلام الموقعة بين مصر وإسرائيل منذ عام ١٩٧٩، بمعنى أن درجة قدرة الأمن المصري على تتبع أفراد التنظيم ستكون قليلة مقارنة بأماكن أخرى يمكن أن يتمركزون فيها.
ثانياً: تعتبر المنطقة التي ينشط فيها التنظيم في شمال سيناء والمجاورة لحدود مصر مع قطاع غزة منطقة مثالية من حيث كونها عمقاً استراتيجياً لجماعة أنصار بيت المقدس، حيث يوفر حكم حركة حماس التعاطف السياسي مع الجماعات الإرهابية التي تستهدف مصر كونهم (أي هذه الجماعات) يقومون بعمليات انتقامية من النظام الذي أسقط حكم جماعة الإخوان هناك، كما أن لجماعة بيت المقدس امتدادات داخل القطاع، الأمر الذي يسهل عملية نقل الذخائر والمساعدات والمؤن اللازمة لإعاشة أفراد التنظيم في مخابئهم، سواء في جبال سيناء أو في القرى الحدودية، كما يعتبر القطاع بمنزلة مأوى خلفي لنشطاء الجماعة عندما تشتد حملات البحث عنهم داخل سيناء.
ثالثاً: إن إسرائيل وحماس على الرغم من امتلاكهما معلومات تفصيلية عن حجم مقاتلي التنظيمات الإرهابية في سيناء عامة، وتنظيم أنصار بيت المقدس خاصة، وأنماط التسليح وطرق تهريب الذخائر ومواد الإعاشة والمواقع الآمنة له من هجمات القوات المصرية.. على الرغم من ذلك فإن لكل من إسرائيل وحماس أسبابهما في عدم التعاون الاستخباري مع مصر في هذا الجانب، فإسرائيل لا تنظر إلى مصر إلا على أنها منافس إقليمي لو تمكن من تهدئة الاوضاع الأمنية على حدوده وتفرغ لإقالة الاقتصاد من عثرته، فسوف يكتسب قوة تساعده على الضغط على إسرائيل، سواء في ملف التسوية الفلسطينية أو في ملف إخلاء المنطقة من الأسلحة النووية، فضلاً عن التنافس الاقتصادي بينهما، وفي القلب منه مسألة تصدير الغاز الذي تمتلك مصر وإسرائيل منه إمكانيات كبيرة بعد الكشوفات الأخيرة.
أما حركة حماس، فإنها ترهن مدها لمصر بمعلومات عن التنظيمات الإرهابية في سيناء بفتح مصر معابرها بشكل دائم مع القطاع، أو أن تتخلى عن سياسة هدم أنفاق التهريب، وهي اشتراطات لا يمكن لمصر قبولها لدواع أمنية وسياسية أيضاً.
رابعاً: إن بعض القوى الإقليمية التي لا تريد لمصر استقراراً يقودها إلى توسيع دورها الإقليمي يمكن أن تدعم التنظيم الذي تشكل عملياته ضغطاً أمنياً واقتصادياً وسياسياً على مصر، وهو ما يجعل تركيا مرشحة بقوة لأن تكون إحدى الجهات المحتملة التي تدعم التنظيم، ومعها قطر بشكل نسبي، خاصة في ظل علاقة الدولتين بتيارات الإسلام السياسي المختلفة.
وبالنظر لكافة الأسباب السابقة كان تنظيم بيت المقدس يرى في شمال سيناء مكاناً ملائماً لأنشطته الموجهة ضد مصر، ولكن في الوقت نفسه، فإن التنظيم الذي يعتمد استراتيجية إعلان مناطق يتم الاستيلاء عليها كجزء مما يسميه "دولة الخلافة"، يدرك بوضوح أن احتمالات نجاحه في سيناء شبه معدومة كون أن من يقدمون له العون من القوى الإقليمية سيتحولون في حالة نجاحه في تحقيق هدفه المرحلي الافتراضي (إقامة ولاية له في شمال سيناء) إلى قوى مناوئة، فإسرائيل ستتعامل معه في هذه اللحظة على أنه خطر أمني عليها، خاصة أن ذلك سيعني لها تزايد احتمالات قيام مجموعات منفلتة من التنظيم بإطلاق صواريخ من المناطق التي يسيطرون عليها تجاهها.
كما أن حماس ستعتبر إقامة هذه الولاية بمنزلة دعم للجماعات التكفيرية الموجودة في قطاع غزة، والتي تسعى بدورها لإسقاط حكم حماس وإقامة ولاية غزة.
ويصعب منذ البداية تصور أن نجاح التنظيم في تحقيق هدفه المرحلي سيقابله تراجع للجيش المصري عن مواصلة الحرب ضده، بل إن العكس هو الأقرب للاحتمال، حيث سيحرر ذلك الجيش المصري من التعامل بحذر مع القرى التي تؤوي مقاتلي التنظيم الإرهابي، والتي لاتزال تحد نسبياً من قدرة الجيش على إنهاء وجود التنظيم هناك.
بكلمات أخرى، تقدم بعض القوى الإقليمية دعماً لتنظيم "داعش" في سيناء ليكون أداة استنزاف عسكري واقتصادي لمصر، ولكن هذه القوى نفسها ليست مستعدة للسماح للتنظيم بإقامة ولاية له في سيناء.
هل تشكل صحراء مصر الغربية بديلاً ملائماً لداعش؟
على عكس الظروف الملائمة التي تجعل من أنصار بيت المقدس يركزون على سيناء، كان من غير المفهوم سعي التنظيم لخلق ارتكاز له في صحراء مصر الغربية التي لا تحتوي على جبال منيعة يمكن لنشطاء التنظيم الاختباء فيها من مطاردات الجيش المصري، كما أن الطبيعة المنبسطة للصحراء وندرة التجمعات السكانية لا تمنح مقاتلي التنظيم حاضناً شعبياً مثل الموجود في سيناء يمكن الاختباء داخله أو إقامة علاقات مصلحية قوية معه.
ويمتلك الجيش المصري وقوات الأمن في هذه المناطق حريات كاملة في حجم التسليح وإعداد القوات والمواقع التي يشغلها أو يتحرك فيها، كما أن الجوار المصري، سواء جهة الحدود الليبية أو السودانية، تختل فيه موازين القوى العسكرية والسياسية بقوة لصالح مصر.
وأخيراً فإن التواجد الكبير للحركات السلفية في مدن الصحراء الغربية لم يشكل رافعة للتنظيمات الإرهابية، لعدة اعتبارات منها أن الجيش المصري على مدى عقود طويلة كان المصدر الأساسي لمد سكان مدن وواحات المنطقة بكل وسائل الإعاشة من طعام وماء ووقود، ومنها أيضاً أن تنمية الساحل الشمالي منذ بدايات تسعينيات القرن الماضي وطدت مصالح سكان الصحراء الغربية مع رجال الأعمال الذين يستثمرون بكثافة في هذه المناطق، ومن ثم لا يمكن لهذه المناطق أن تشكل حاضناً شعبياً ملائماً لمقاتلي أنصار بيت المقدس أو "داعش".
وعلى الرغم من كل هذه العوامل تحرك التنظيم على فترات متقطعة في مناطق الصحراء الغربية، ففي يوليو 2014 تعرضت نقطة تفتيش تابعة لقوات حرس الحدود في واحة الفرافرة لهجوم إرهابي أسفر عن مقتل 22 جندياً، ونشرت آنذاك جماعة "أنصار بيت المقدس" بياناً أعلنت فيه تبني الهجوم باسم "الدولة الإسلامية في العراق والشام ومصر".
وفي يوليو الماضي تبنى التنظيم عملية خطف وإعدام مهندس كرواتي يعمل في إحدى شركات البترول العاملة بالصحراء الغربية، مدعياً أن ذلك كان رداً على عدم استجابة الحكومة المصرية لمطالب التنظيم بالإفراج عمن سماهم بـ "النساء المعتقلات في سجون مصر". كما أشاع التنظيم أنه أسقط طائرة حربية مصرية في أغسطس الماضي، بينما نفى المتحدث العسكري سقوط الطائرة بفعل عمل إرهابي، وقال إنها تعرضت لعطل فني أدى إلى سقوطها أثناء مطاردتها لعناصر إرهابية.
وتبدو هذه العمليات ذات صيغة دعائية أكثر من كونها جزءاً من استراتيجية متكاملة لإقامة إمارة لتنظيم "داعش" في صحراء مصر الغربية؛ الأمر الذي يحيلنا للتفسير الثالث الذي ذكرناه سابقاً، خاصة بعد حادث السائحين المكسيكيين في شهر سبتمبر الجاري، وهو أن تنظيم "داعش" ينفذ الجزء الخاص باستراتيجيته التي تمنع تكرار محاولة الاستيلاء على منطقة فشل في العمل فيها حتى وقت قريب، ونقل المواجهة إلى منطقة أخرى للإيحاء بتمدده والتغطية على فشله في الجبهة الأخرى في سيناء.
بين نظرية ابن لادن ونظرية أبي بكر ناجي
لم يبتكر أبوبكر ناجي المعروف بمنظر تنظيم "داعش" (في كتابه إدارة التوحش المنشور على شبكة الإنترنت) نظرية إنهاك الأنظمة التي تحاربها الجماعات الإرهابية من شاكلة القاعدة و"داعش"، فقد اتبع أسامة بن لادن منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي نظرية عرفت باسم (الفيل والبرغوث)، وهي نظرية بسيطة تقيم تشابهاً بين قوة الدول وقوة الفيل من ناحية وبين قوة التنظيمات التي تدعي نفسها بالتنظيمات "الجهادية" وبين قوة البرغوث من جهة أخرى.
ويصبح السؤال هو كيف يتمكن البرغوث من قتل الفيل؟ وفقاً لـ "ابن لادن"، فإن البرغوث عليه أن يلدغ الفيل في أماكن متفرقة من جسده، وعلى حين أن لدغة أو عدة لدغات لن تقضي على الفيل في الحال، إلا أن إرهاقه واستنزاف قوته على مدى زمني طويل سيصيبانه بالارتباك أولاً، ثم الإعياء، تمهيداً لأن يتحول الكم إلى كيفية القضاء على الفيل في النهاية.
وفيما يتعلق بالنظرية نفسها بعد تعديلها على يد أبي بكر ناجي، فإن اللدغات يحب أن تكون محددة ولا تطال جسد الفيل كله، بل يجب أن تتركز لدغات البرغوث على مناطق محددة ومؤثرة في الجسد الضخم، فبدلاً من إرهاق الدولة بمؤسساتها والمجتمع بقواه البشرية، يتم التركيز على مؤسسات الأمن وحدها في هذه الدولة، بحيث يتم نزع هيبة هذه المؤسسات أمام سكان الدولة المراد إسقاطها، كمرحلة تمهيدية، تتلوها مرحلة إنهاء وجود هذه المؤسسات في بعض المناطق وقيام التنظيم بالسيطرة عليها وحكمها، كجزء من عملية الانتشار التدريجي لمناطق بلا قوات أمنية حكومية يطلق عليها مسمى " إدارة التوحش".
ومن مجموع هذه الإدارات (الإمارات) ينتهي الأمر بإقامة "دولة الخلافة" على أنقاض الدولة القومية (سقوط الفيل)، وقد حققت هذه النظرية المطورة لتنظيم "داعش" أهدافها في عدة بلدان أهمها سوريا والعراق وليبيا، ولكن المواجهة مع مصر بدت صعبة لاختلاف الأوضاع السياسية والأمنية هنا وهناك من جانب، وخوف المصريين من المصير نفسه من جانب آخر، الأمر الذي وفر دعماً شعبياً قوياً للجيش المصري في مواجهته مع التنظيم الإرهابي، على عكس ما حدث في البلدان الثلاثة التي تعرضت جيوشها للحل أو الاستنزاف الطويل.
وبالتالي يبدو أن هدف التنظيم من عملياته في الصحراء الغربية المصرية هو نوع من الدمج بين نظرية ابن لادن الأقدم وبين التطوير الذي أحدثه أبوبكر ناجي مؤخراً في النظرية نفسها، ليكون الهدف من عمليات التنظيم في هذه المنطقة مجرد حرب نفسية ضد الجيش والشعب المصريين ومحاولته أيضاً التغطية علي هزائمه في سيناء ليس إلا، وربما يظهر ذلك بوضوح من تصريح قديم نشرته جريدة تسمي الصباح العربي لها موقع على شبكة الإنترنت في ٢٥ ديسمبر ٢٠١٣، يقول "كشف الناشط السياسي زيدان القنائي، القيادي بالمجلس السياسي للمعارضة المصرية الوطنية، ومدير منظمة العدل والتنمية بقنا في بحث أجراه عن التنظيمات الجهادية، أن القاعدة في شمال أفريقيا وليبيا التي انتقلت غالبية عناصرها إلى الصحراء الغربية المصرية ومحافظة مطروح، تعتزم إعلان إمارة الواحات الإسلامية قريباً، بعد السيطرة على كافة المناطق الجبلية بالصحراء الغربية والوادي الجديد، وعدد كبير من المحافظات الحدودية ومناطق الواحات وسيوة لإعلان إمارة إسلامية هناك".
وفضلاً عن الجهة المجهولة التي نشرت التصريح، والشخص والجهة المجهولة بدورها التي قالت بنفس التصريح، فإن ما جاء فيه مقارنة بما هو واقع على أرض الواقع يشير بشكل أكبر إلى أن ما يحدث مجرد حرب نفسية أكثر من كونها استراتيجية حقيقية يتبناها "داعش" لإقامة إمارة له في صحراء مصر الغربية، من دون أن يعني ذلك تهويناً من الخطر الذي يمثله هذا التنظيم على الأمن والاستقرار، ليس في مصر وحدها بل في المنطقة العربية بأكملها.