تواجه إيران خلال الفترة الحالية خيارات صعبة في ظل تصاعد حدة الخلاف مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي لم تنسحب من الاتفاق النووي وتفرض عقوبات جديدة عليها فحسب، بل اتجهت إلى مطالبة الدول المستوردة للنفط الإيراني بالعمل على إيقاف وارداتها النفطية والبحث عن مصدرين آخرين، وهددت في الوقت نفسه إيران باتخاذ إجراءات أكثر قوة لمنعها من إعادة تطوير برنامجها النووي مرة أخرى في حالة انسحابها هى الأخرى من الاتفاق النووي.
ومن دون شك، فإن ما يزيد من حدة الضغوط التي تتعرض لها إيران، هو أن تعويلها على إمكانية استمرار العمل بالاتفاق النووي بمشاركة الدول الأوروبية وروسيا والصين لم يثبت أنه يمكن أن يفرض نتائج إيجابية على مصالحها، في ظل فشل الدول الأوروبية في اتخاذ الإجراءات الكفيلة بدفع شركاتها إلى الاستمرار في السوق الإيرانية، حيث سارعت العديد من تلك الشركات إلى الانسحاب بعد التهديدات الأمريكية بفرض عقوبات عليها في حالة استمرارها في العمل داخل السوق الإيرانية.
من هنا، يمكن أن يصبح التفاوض مع واشنطن أحد الخيارات التي قد تفكر فيها طهران، باعتبار أنه قد يجنبها التداعيات التي يمكن أن تفرضها الخيارات الأخرى المتاحة، وهى قليلة في الأساس. لكن ذلك لا ينفي أن هذا الخيار قد تكون تكلفته مرتفعة وربما لا يستطيع النظام الإيراني تحملها لاعتبارات أيديولوجية وسياسية عديدة.
تجنب الصدام
تشهد الساحة الداخلية الإيرانية حالة من الجدل حول دعوة أحد الاتجاهات إلى التفاوض مع واشنطن، باعتبار أن هذا الخيار ربما يكون أكثر توافقًا مع مصالح إيران مقارنة بالخيارات الأخرى التي يمكن أن تتجه إليها الأخيرة. وفي هذا السياق، يمكن القول إن الاتجاه الداعي لتبني هذا الخيار، يستند إلى أنه قد يساعد إيران في تجنب الصدام، الذي قد يسفر عنه استمرار التوتر الحالي.
ووفقًا لذلك، فإن نشوب مواجهة مباشرة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية لم يعد مستبعدًا في ظل التوتر الحالي، وهو ما سوف تكون عواقبه وخيمة على الأولى، ليس فقط بسبب الخلل الكبير في توازنات القوى بين الطرفين، والذي يميل لصالح الأخيرة، وإنما أيضًا لأن مثل هذا النمط من المواجهات لم تعتد عليه إيران، التي تتجنبه دائمًا وتستعيض عنه بسياسة "الحرب بالوكالة" عبر تكليف الميليشيات الإرهابية التي قامت بتكوينها وتدريبها بالدفاع عن مصالحها في مناطق بعيدة عن حدودها.
ولا ينفصل ذلك بالطبع عن الارتباك الذي اتسمت به مواقف المسئولين الإيرانيين بعد التهديدات الضمنية التي وجهها الرئيس حسن روحاني خلال لقاءه مع رئيس الاتحاد السويسري آلان بيرسي، في 2 يوليو 2018، بمنع تصدير النفط من المنطقة في حالة مواصلة الضغط لوقف شراء النفط الإيراني.
إذ قال رئيس لجنة السياسة الخارجية والأمن القومي في مجلس الشورى الإسلامي حشمت الله فلاحت بيشه أن "إيران لا تستطيع إغلاق مضيق هرمز الذي يعد أهم الممرات المائية في العالم".
لكن هذه التصريحات لم تقلص من حدة التوتر التي أثارتها تهديدات روحاني، خاصة بعد أن سارع قادة من الحرس الثوري إلى إطلاق تهديدات مماثلة، مشيرين إلى استعدادهم لتنفيذها، على غرار قاسم سليماني قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري، والقيادي في الحرس نائب قائد قاعدة "ثار الله" في طهران اسماعيل كوثري.
وهنا، لم تغفل اتجاهات عديدة رمزية الزيارة التي قام بها الرئيس حسن روحاني إلى سويسرا تحديدًا، في هذا التوقيت، في ظل الدور الذي تقوم به الأخيرة، برعاية المصالح الأمريكية في طهران بعد قطع العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، وهو ما توازى مع اللقاءات الأخيرة التي جمعت مسئولين من طهران وسلطنة عمان، التي قامت بدور الوساطة بين الطرفين أكثر من مرة كان آخرها قبيل الإعلان عن الوصول إلى الاتفاق النووي في 14 يوليو 2015.
ويبدو أن هذا الاتجاه يستند أيضًا إلى المفاوضات الحالية التي تجري بين الولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الشمالية، حيث اعتبر أن التوتر والصراع بين الطرفين لم يحل دون التفكير في خيارات أخرى قد تساعد في تسوية الخلافات والوصول إلى صفقة رغم العقبات التي يمكن أن تحول دون حدوث ذلك، ورغم التهديدات المتبادلة التي وجهها كل طرف إلى الآخر في الفترة الماضية.
صعوبات متعددة
مع ذلك، فإن هذه المبررات لا تحظى بزخم خاص من جانب اتجاهات عديدة في إيران، ما زالت تستند إلى أن الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي يطرح دلالة مهمة بأنه لا يمكن الوثوق في مدى إمكانية الوصول إلى صفقة "دائمة" مع الولايات المتحدة الأمريكية التي انسحبت من أكثر من اتفاقية دولية، بشكل يجعلها، طبقًا لتلك الرؤية، طرفًا لا يمكنه الانخراط في التزامات دولية صارمة.
وترى هذه الاتجاهات أن هناك خلافات واضحة في الحالتين الإيرانية والكورية الشمالية تقلص من أهمية الاستناد إليها في تبرير الدعوة للتفاوض. إذ أن بيونج يانج وصلت إلى مرحلة امتلكت فيها قدرات نووية واستراتيجية تعزز من موقعها التفاوضي مع واشنطن، فضلاً عن أنها سوف تستفيد أيضًا من تجربة الاتفاق النووي الذي توصلت إليه إيران ومجموعة "5+1" في محاولة الحصول على ضمانات وتعزيز فرص استمرار أى صفقة محتملة قد تبرمها مع واشنطن.
لكن الأهم من ذلك، هو أن أى صفقة محتملة مع الولايات المتحدة الأمريكية في حالة التفاوض مجددًا لن تنحصر في البرنامج النووي، وإنما سوف تشمل ملفات أخرى عديدة وقد ترتب استحقاقات جديدة ربما لا يستطيع النظام الإيراني تحملها.
ففضلاً عن الملفات الإقليمية التي تحاول إيران التلويح بها عندما تتعرض لضغوط دولية وإقليمية عديدة، على غرار الملفات السورية واللبنانية واليمنية، فإن برنامج الصواريخ الباليستية سوف يكون في مقدمة الملفات التي ستطالب واشنطن بوضعها على مائدة المفاوضات.
وتبدي واشنطن اهتمامًا خاصًا بهذا البرنامج، ليس فقط بسبب التهديدات الإيرانية المستمرة باستخدامه في حالة تعرضها لضربة عسكرية، وإنما أيضًا لحرص الأولى على الربط بينه وبين اتهاماتها لإيران بمحاولة الوصول إلى مرحلة امتلاك القدرة على إنتاج القنبلة النووية، باعتبار أن هذه الصواريخ سوف تكون الأداة التي ستنقل بها القنبلة إلى مواقعها المستهدفة.
كما أن إسرائيل، في رؤية تلك الاتجاهات، لن تكون بعيدة عن مثل تلك المفاوضات، حيث تتوقع أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بوضع قضية التطبيع مع إسرائيل وما يرتبط به من وقف الدعم المقدم لتنظيمات مثل حزب الله وحركتى حماس والجهاد الإسلامي كشرط لإنجاح أية مفاوضات محتملة مع إيران.
ومن دون شك، فإن الخوض في مثل تلك الملفات لا يبدو خيارًا سهلاً بالنسبة للنظام، رغم أنه سبق أن وصل إلى تفاهمات وصفقات مع واشنطن وتل أبيب، في مراحل تاريخية سابقة، خاصة خلال فترة الحرب مع العراق (1980-1988).
إذ أن ملفات مثل البرنامج الصاروخي والموقف من إسرائيل والتنظيمات الإرهابية والمسلحة الموجودة في بعض دول المنطقة ترتبط مباشرة بالبنية الأيديولوجية التي قام عليها النظام من البداية، والتي أسس من أجلها الحرس الثوري، الذي سيسارع بالطبع إلى وضع عراقيل أمام أى اتجاه قد يدعو إلى اتخاذ خطوات من أجل إجراء مثل تلك المفاوضات.
كما أن النظام لن يستطيع تمرير ذلك بسهولة على الساحة الداخلية، باعتبار أنه يتناقض مع الأسس التي حاول تكريسها منذ وصوله إلى السلطة، بشكل قد يزيد من حدة أزمته وربما "عزلته" في الداخل.
خيارات صعبة واتجاهات متناقضة كلها تعني أن إيران تبدو مقبلة على استحقاقات استراتيجية غير مسبوقة سوف يكون لها تأثير واضح على مستقبل نظامها الحاكم، الذي يواجه في الفترة الحالية ضغوطًا داخلية وإقليمية ودولية ربما لا تقارن بما تعرض له من أزمات في العقود الأربعة الماضية.