فرضت التطورات السياسية والأمنية التي تشهدها أفغانستان خلال الفترة الأخيرة ضغوطًا عديدة على حركة "طالبان" دفعتها إلى اتخاذ خطوات متناقضة. ففي الوقت الذي صعَّدت فيه الحركة من هجماتها الإرهابية ضد العديد من الأهداف العسكرية والمدنية، أعلنت، في 8 يونيو 2018، قبول وقف إطلاق النار خلال أيام عيد الفطر، بعد يومين من قيام الرئيس الأفغاني أشرف غنى بطرح مبادرة لوقف إطلاق النار مع الحركة من جانب واحد، وهو ما دفع اتجاهات عديدة إلى ترجيح وجود انقسام داخل الحركة بين اتجاهين: أولهما، يدعو إلى مواصلة العمليات الإرهابية، فيما يؤكد ثانيهما على أهمية الدخول في مفاوضات جديدة مع الحكومة، خاصة في ظل الجهود التي تبذلها قوى إقليمية ودولية عديدة لتعزيز هذا المسار.
تقسيم أدوار:
مع ذلك، لا يمكن استبعاد أن تكون الحركة قد تعمدت اتخاذ تلك الخطوات المتناقضة لإرباك القوى المناوئة لها، وفي الوقت نفسه توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامها للتعامل مع التطورات الطارئة على الساحتين السياسية والأمنية.
فرغم إعلان الحركة قبولها وقف إطلاق النار خلال أيام عيد الفطر، إلا أنها سرعان ما عادت إلى شن هجماتها الإرهابية، على غرار ما حدث في 9 يونيو الجاري، عندما تبنت الهجوم على نقاط تفتيش أمنية في منطقة قلعة زال في مقاطعة قندوز شمالى أفغانستان، مما أسفر عن مصرع 20 من رجال الأمن وإصابة 6 آخرين. وقبل ذلك، حرصت الحركة على استهداف مفوضية الشرطة في كبرى مدن ولاية لوجار جنوب شرق كابول بسيارة مفخخة، في 30 مايو الفائت، على نحو أدى إلى مقتل 6 من رجال الشرطة.
وبالتوازي مع ذلك، وسعت الحركة من نطاق استهدافها للمصالح الأجنبية، حيث نفذت هجومًا على فندق إنتركونتيننتال في العاصمة كابول، في 20 يناير 2018، نتج عنه مقتل 18 شخصًا من بينهم 14 أجنبيًا، بعد اشتباكات استمرت ما يقرب من 12 ساعة مع قوات الأمن.
تواصل مع الخارج:
ويبدو أن تصاعد استهداف الحركة لبعض الجهات الأجنبية دفع قوى دولية وإقليمية عديدة إلى تأسيس قنوات تواصل معها، بهدف تقليص احتمالات اتجاهها إلى تنفيذ هجمات إرهابية ضد مصالحها. وكانت روسيا من أبرز القوى التي تبنت هذه السياسة، حيث سعت إلى التدخل من أجل تعزيز فرص إجراء مفاوضات جديدة بين الحكومة والحركة، معتبرة أن ذلك يمثل الآلية الرئيسية التي يمكن من خلالها دعم الاستقرار في أفغانستان. وعبر وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف عن تلك الرؤية بتأكيده، في 27 مارس 2018، على أنه لا يمكن تسوية النزاع في أفغانستان دون التحاور مع "طالبان".
ووجهت موسكو إشارات عديدة تفيد أنها تنخرط بالفعل في تفاهمات مع الحركة، على نحو بدا جليًا في تأكيد لافروف، خلال جلسة وزراء خارجية منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي عقدت بكازاخستان في 11 يونيو الجاري، على أن روسيا ستواصل العمل على دفع "طالبان" إلى الدخول في مفاوضات مباشرة مع الحكومة.
كما سعت الحركة إلى تعزيز علاقاتها مع الصين، وهو ما انعكس في الزيارة التي قام بها أحد وفودها إلى بكين، في الفترة من 18 إلى 22 يوليو 2016، لمناقشة تطورات الوضع في أفغانستان. لكن العلاقات الأهم أسستها الحركة مع إيران، التي سعت إلى استغلال ذلك في دعم نفوذها داخل أفغانستان، رغم الخلاف التقليدي الذي اندلع بين الطرفين وكاد يتطور إلى مواجهة عسكرية مباشرة خلال فترة سيطرة "طالبان" على الحكم في تسعينيات القرن الماضي.
أهداف متعددة:
يمكن القول إن الحركة تسعى من خلال ذلك إلى تحقيق أهداف متعددة يتمثل أبرزها في:
1- تعزيز احتمالات التفاوض: لا تستبعد الحركة أن تدخل بالفعل في مفاوضات مع الحكومة من أجل وقف إطلاق النار، لكنها تسعى إلى تعزيز موقعها التفاوضي، خاصة أن الحكومة والقوى الدولية تمنح الأولوية في الوقت الحالي لتوجيه ضربات عسكرية أكبر ضد مواقع وقادة تنظيم "ولاية خراسان" التابع لتنظيم "داعش"، من أجل عرقلة مساعي الأخيرة لتكريس نفوذه داخل أفغانستان. وقد عبر الجنرال جون نيكلسون قائد القوات الأمريكية وبعثة "الدعم الحازم" التي يقودها حلف شمال الأطلنطي في أفغانستان عن هذا التوجه بقوله، في 7 يونيو الجاري، أن "القوات الأمريكية ستحترم قرار الحكومة الأفغانية بوقف إطلاق النار مع طالبان"، وأن "الولايات المتحدة ستوجه جهودها في مكافحة الإرهاب نحو تنظيم ولاية خراسان وتنظيم القاعدة".
2- تأسيس قنوات خلفية: خاصة مع بعض القوى الدولية والإقليمية المعنية بالتطورات الأمنية والسياسية في أفغانستان، حيث ترى "'طالبان" أنها يمكن أن تستغل ذلك في توسيع حرية الحركة وهامش المناورة المتاح أمامها ودفع تلك القوى إلى ممارسة ضغوط على الحكومة من أجل الاستجابة لبعض شروطها، فضلاً عن الحصول على دعم من جانب بعضها، مثل إيران، في ظل محاولات الأخيرة الربط بين الصراع في أفغانستان والتوتر المتصاعد مع الولايات المتحدة حول البرنامج النووي والدور الإقليمي.
3- تقليص الضغوط: تحاول الحركة عبر قبول دعوة الرئيس أشرف غني بوقف إطلاق النار خلال أيام عيد الفطر تقليص حدة الضغوط التي تتعرض لها والتي فرضتها الضربات العسكرية المتتالية التي شنتها الولايات المتحدة ضد قادتها ومواقعها. فضلاً عن أنها تريد توجيه رسائل بأنها قد تجري تغييرات في سياستها، على غرار ما أقدم عليه زعيم "الحزب الإسلامي" قلب الدين حكمتيار، الذي عاد إلى العاصمة كابول في إبريل 2017، وأعلن التخلي عن العنف والانخراط في العملية السياسية.
وفي النهاية، يمكن القول إن "طالبان" تسعى إلى عدم استبعاد أى خيار في تعاملها مع التطورات السياسية والأمنية التي تشهدها أفغانستان، خاصة أنها حريصة في المرحلة الحالية على عدم التخلي عن ثوابتها وتوجهاتها، وهو ما بدا جليًا في إصرارها على عدم إيقاف العمليات الإرهابية رغم قبولها المبادرة التي طرحها الرئيس غني، بكل ما يمكن أن يفرضه ذلك من تداعيات مباشرة على المسارات المحتملة للأزمة السياسية والأمنية التي تواجهها أفغانستان خلال المرحلة القادمة.