أعلن الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" في الثامن عشر من أبريل الماضي عن إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة في البلاد يوم ٢٤ يونيو المقبل في وقتٍ لم تكن تعاني فيه أنقرة من أزمة حكومية أو سياسية أو دستورية يمكن حلها من خلال اللجوء إلى مثل هذه الانتخابات. وقد حمل توقيت الدعوة إلى الانتخابات المبكرة دلالات مختلفة، لعل أهمها إدراك "أردوغان" لأهمية التوقيت في تحقيق الفوز الذي يريده على حساب المعارضة المنقسمة على نفسها.
وتشكل قضية الانتقال الكامل إلى النظام الرئاسي جوهر دعوة الرئيس التركي لانتخابات رئاسية مبكرة، في وقت تسيطر فيه حكومة حزب العدالة والتنمية على إمكانات الدولة التركية (سياسيًّا، واقتصاديًّا، وإعلاميًّا،..)، وهو ما يعزز من فرص فوز أردوغان في ظل عدم اتفاق تحالف أحزاب المعارضة على مرشح واحد لمواجهته، ولهذا فإن السياق الذي ستُجرَى فيه الاستحقاقات الانتخابية القادمة يتسم باللا تنافسية.
دوافع متعددة:
تعددت أسباب وأهداف الدعوة إلى انتخابات مبكرة في معركة سياسية جديدة يريد "أردوغان" من خلالها قيادة المرحلة المقبلة، ومن أهم تلك الأسباب ما يلي:
أولًا- يعتقد "أردوغان" أن شعبيته في الداخل التركي في الوقت الراهن في أعلى مستوياتها بعد العملية العسكرية التي انتهت باحتلال منطقة عفرين السورية، إذ إن العملية وجهت أنظار القوميين الأتراك إليه بوصفه بطلًا قوميًّا يحمي الحدود، ويحقق طموحاتهم التاريخية، حيث يرغب القوميون الأتراك في السيطرة على حلب والموصل، ولو من عباءة العثمانية الجديدة التي بشّر بها رئيس الوزراء التركي السابق "أحمد داود أوغلو". ولهذا يسعى الرئيس "أردوغان" إلى تحويل هذا الإنجاز العسكري إلى انتصار سياسي يصب في الداخل لمصلحة سلطته وحزبه ورؤيته لمستقبل تركيا.
ثانيًا- يقابل هذا الإحساس بالانتصار مخاوف من تطورات سلبية كثيرة قد تعصف بشعبيته في المرحلة المقبلة. فعلى الصعيد الاقتصادي، ثمة مخاوف تتعاظم يومًا بعد آخر من دخول البلاد في أزمة اقتصادية خانقة مع الانهيارات المتتالية في سعر الليرة التركية مقابل الدولار، وازدياد حجم الديون الخارجية والداخلية، وهروب الاستثمارات من البلاد، وانهيار القدرة الشرائية للمواطن التركي رغم زيادة حجم الدخل القومي للفرد والحديث عن نهضة اقتصادية، وهو ما يُشكل قلقًا كبيرًا لحكومة حزب العدالة والتنمية التي تتخوف من أن يؤدي كل ما سبق إلى تداعيات كارثية على الحاضنة الشعبية للحزب.
ثالثًا- إحساس "أردوغان" وحليفه "دولت باهجلي" زعيم حزب الحركة القومية بأن التوقيت مهم لاستغلال انقسام المعارضة وسط خشية من صعود نجم الحزب القومي الجديد (ايي - أي الجيد أو الخير) بزعامة "ميرال أكشنار" التي انشقت عن حزب الحركة القومية والتي استطاعت خلال فترة قصيرة أن تخطف أنظار القوميين والمحافظين، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى أن حزبها سيتجاوز حاجز ١٠٪ للدخول إلى البرلمان، وهو ما يعني أن حزب الحركة القومية -حليف "أردوغان"- قد يصبح خارج البرلمان، وكذلك الخوف من التحالف بين أحزاب المعارضة لإسقاط حكومة حزب العدالة والتنمية.
رابعًا- رغبة "أردوغان" في الانتقال الكامل إلى النظام الرئاسي دون انتظار الموعد الذي كان مقررًا في انتخابات نوفمبر من العام المقبل، إذ رأى "أردوغان" أن هذا الموعد يحمل معه مخاطر وتحديات قد تنعكس على شعبيته وفرصه في الفوز، وعليه استبق موعد الانتخابات المبكرة إلى درجة أنه فاجأ حتى حزب العدالة والتنمية بهذا الموعد.
خامسًا- بات حجم الاحتقان في الشارع التركي كبيرًا تجاه ممارسات حكم حزب العدالة والتنمية من اعتقالات وإجراءات قسرية ضد الحريات والصحافة والأحزاب والنواب والناشطين بعد الانقلاب العسكري الفاشل صيف عام ٢٠١٦، حيث لم تعد حجة مكافحة الإرهاب في اتباع هذه الممارسات مقنعة لأحد، لا في الداخل ولا في الخارج.
وعليه يمكن القول، إن خطوة الدعوة إلى انتخابات مبكرة تبدو في نظر "أردوغان" مخرجًا دستوريًّا وقانونيًّا لتجديد حكمه، والانتقال سريعًا إلى النظام الرئاسي، الذي يضع نهاية لتركيا الكمالية (نسبةً إلى مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك) وتأسيس تركيا (العثمانية الجديدة).
سياق تحت السيطرة:
ثمة نقاط مهمة تجعل السياق الانتخابي التركي يتسم باللا تنافسية، الأمر الذي سيؤثر على سير العملية والحملات الانتخابية التي انطلقت مبكرًا، والتي تتمثل في:
أولًا- ستُجرَى الانتخابات في ظل حكم الطوارئ الساري في البلاد منذ نحو سنتين، وتحديدًا بعد الانقلاب العسكري الفاشل صيف عام ٢٠١٦.
ثانيًا- تعقُّد هذه الانتخابات في ظل سيطرة حكومة حزب العدالة والتنمية على معظم -إن لم يكن جميع- إمكانات الدولة التركية، ويكفي هنا أن نذكر أن هذه الحكومة باتت تسيطر على قرابة نحو تسعين بالمائة من معظم وسائل الإعلام في البلاد، حيث تخصص هذه الوسائل معظم تغطيتها الانتخابية لقادة حزب العدالة والتنمية، وهو ما دفع المعارضة إلى الدعوة للتظاهر أمام مقار هذه الوسائل ما لم تُخصص حيزًا مناسبًا من التغطية لها.
ثالثا- ستُجرَى تلك الانتخابات في ظل أغلبية برلمانية لتحالف حزب العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية، مقابل أقلية برلمانية لحزب الشعب الجمهوري المعارض، فيما يقبع عدد كبير من نواب حزب الشعوب الديمقراطية الموالي للأكراد في السجن بحجة علاقتهم مع حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه أنقرة حزبًا إرهابيًّا.
رابعًا- ستُعقد هذه الانتخابات في ظل قوانين جديدة للمرة الأولى، وهي قوانين وضعها حزب العدالة والتنمية، وتُثير الكثير من الشكوك، خاصة لجهة احتساب الأوراق الانتخابية غير الممهورة (غير المختومة)، وحق تعيين الحكومة لأعضاء اللجان الانتخابية، وإمكانية نقل صناديق الاقتراع من دائرة إلى أخرى، حيث تقول المعارضة إن هذه القوانين تفتح الباب واسعًا أمام تزوير النتائج.
وبغضّ النظر عن هذه النقاط التي تثير مخاوف المعارضة، فإن المشهد الانتخابي التركي بات أمام تحالفَيْن متصارعَيْن في السباق الانتخابي.
التحالف الأول- (تحالف الشعب)، ويضم أحزاب: العدالة والتنمية (الحاكم)، والحركة القومية (متطرف)، والوحدة الكبرى (يميني)، حيث من الواضح أن القاعدة الشعبية لهذا التحالف ترتكز على البعدين القومي المتطرف والإسلام السياسي، وقد اتفقت هذه الأحزاب على ترشيح "أردوغان" لخوض الانتخابات الرئاسية وسط قناعة بأنه سيحقق الفوز من الجولة الأولى.
التحالف الثاني- (تحالف الأمة)، ويضم كلًّا من: حزب الشعب الجمهوري بزعامة "كمال كليجدار أوغلو" الذي يمثل إرث أتاتورك، وحزب الخير أو الجيد بزعامة "ميرال أكشنار" التي انشقت عن حزب الحركة القومية وتمثل حالة من الاعتدال القومي، وحزب السعادة بزعامة "تيمل كرم أوغلو" الذي يمثل إرث مؤسس الإسلام السياسي التركي الراحل "نجم الدين أربكان"، والحزب الديمقراطي (يمين وسط).
واللافت أن أحزاب هذا التحالف لم تتفق على مرشح واحد لمواجهة "أردوغان"، وإنما رشح كل حزب مرشحه الخاص، ومع أن هناك من يرى أن عدم اتفاق المعارضة على مرشح واحد سوف يتيح لـ"أردوغان" الفوز من الجولة الأولى؛ إلا أن ثمة من يرى أن استراتيجية المعارضة تقوم على تشتيت الأصوات في الجولة الأولى لحرمان "أردوغان" من الفوز، على أن تتفق على المرشح الذي سيحلّ ثانيًا لمنافسة "أردوغان" في الجولة الثانية، فالثابت أن هذه الأحزاب -رغم خلافاتها- تتفق على إسقاط حكومة "أردوغان".
الصوت الكردي:
مع أن حزب الشعوب الديمقرطية رشح رئيسه السابق المعتقل "صلاح الدين ديمرداش" لخوض الانتخابات الرئاسية التركية، إلا أنه لا فرصة حقيقية لفوزه في هذه الانتخابات بعد التحالفات التي تشكلت من دون حزب الشعوب، لكن المهم والجوهري هنا أن الصوت الكردي قد يكون عاملًا مهمًّا وحاسمًا لتحديد هوية الرئيس القادم، خاصة في حال عدم حسم النتيجة من الجولة الأولى، إذ تقدر الكتلة الانتخابية الكردية بنحو 18٪ من إجمالي الأصوات، وهو ما سيجعل منها محط صراع بين المتنافسين في الجولة الثانية.
وقد بدأ "أردوغان" يحاول التقرب من هذه الكتلة، إذ بدأت أوساطه تُروِّج لأن "أردوغان" يحضر لخطة شاملة لحل القضية الكردية بعد الانتخابات، وذلك بهدف كسب الصوت الكردي، إلا أن الثابت أن "أردوغان" يخشى من ذهاب الصوت الكردي لمنافسه، خاصة بعد احتلاله مدينة عفرين، وموقفه السلبي من الاستفتاء الذي جرى في إقليم كردستان العراق، وانقلابه على عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني، وشنه خلال الفترة الماضية حربًا دموية ضد الأكراد في عموم المنطقة، وهو ما خلق قناعة راسخة لدى مختلف الأوساط الكردية في تركيا بأن "أردوغان" ليس لديه مشروع سياسي لحل قضيتهم رغم وعوده الكثيرة بهذا الخصوص. وقد يفتح هذا المجال أمام ضم حزب الشعوب الديمقراطي إلى تحالف الأمة على قاعدة إسقاط حكم "أردوغان"، وطرح مبادرة لحل القضية الكردية، على اعتبار أن غير ذلك يؤسس لحكم الرجل الواحد تحت بند الانتقال إلى الحكم الرئاسي.