دخلت الصومال بعد فشل تجربة وحدة أقاليمها غداة استقلالها في ستينيات القرن الماضي حربًا ضروسًا انتهت بانفراط عقد الدولة في عام 1991، لتعلن الحركة الوطنية الصومالية عودة إقليم أرض الصومال شمال البلاد لوضعه الأول، إقليمًا مستقلًّا عاصمته هرجيسا، وتعلن جبهة المؤتمر الصومالي الموحد تشكيل حكومة في العاصمة مقديشو، ورثت تركة الدولة الاتحادية، بما فيها من اعتراف دولي، وصراعات داخلية لا تهدأ، بينما حقق الشمال استقرارًا سياسيًّا وأمنيًّا ومستويات تنموية متقدمة نسبيًّا.
وعلى الرغم من أن حكومات مقديشو الضعيفة المتعاقبة لا تملك أي سلطة فعلية على إقليم أرض الصومال؛ فإن بعض الساسة هناك لا يزالون يفكرون بعقلية ما قبل عام 1991، الأمر الذي تجلى مؤخرًا في الكوابح السياسية التي وضعوها أمام اتفاقية تطوير ميناء "بربرة" الاستراتيجي، رغم أنها ذات طابع اقتصادي تنموي في المقام الأول.
جذور الخلاف:
يمكن القول أن الخلاف بين حكومة أرض الصومال والحكومة الصومالية، حول اتفاقية تطوير ميناء "بربرة" مع شركة "موانئ دبي العالمية"، له جذور عميقة، بعضها نفسي، وبعضها الآخر مرتبط بتحالفات إقليمية، لكن الطابع العام للتعاطي مع القضية هو التركيز على الجوانب السياسية، وإغفال البعد الاقتصادي الذي ينبغي أن يكون جوهر النقاش.
وفي تعاطيهم مع الاتفاقية، أظهر حكام مقديشو مخاوفهم من تقسيم الدولة. والحقيقة أن تلك التصورات لم تؤتِ أي مردود إيجابي، لا على وحدة الدولة ولا فيما يتعلق بتحسين الظروف الأمنية والمعيشية لما بقي منها متماسكًا، إذ أصبحت كلمة "الصومال" في الإعلام العالمي مرادفة لفشل الدولة، ومنها اشتق مصطلح "الصوملة"، الذي يُحيل إلى الحروب الأهلية والمجاعات.
دفعت طريقة التفكير هذه بحكومة مقديشو إلى إصدار قرارٍ بإلغاء الاتفاقية التي ستُدر على أرض الصومال عوائد اقتصادية كبيرة، وتُفعّل آلة البلاد الاقتصادية المعطلة بفعل ضعف إمكانيات الإقليم الاستثمارية، والاضطرابات في الدولة الأم، ما يشي بغياب التفكير الاستراتيجي الذي يتعاطى بعقلانية وواقعية مع ملف معقد لا يمكن حله بقرار لا تدعمه معطيات واقعية تساعد على تنفيذه.
صحيح أن أرض الصومال كانت جزءًا من الدولة الاتحادية قرابة ثلاثين عامًا، وأنها لا تحظى باعتراف دولي؛ إلا أنه لا يمكن إغفال خصوصية الإقليم، حيث كان يخضع للاستعمار البريطاني خلافًا لبقية الأقاليم، ونال استقلاله بشكل منفصل، ليندمج في التجربة الاتحادية طواعية. كما لا يمكن تجاهل المعاناة والدمار الذي لحق به جراء ممارسات الأنظمة التي حكمت في مقديشو، قبل مقتل "سياد بري" الذي أعدم جنرالات شماليين في مدينة "هرجيسا" إثر الخسارة في حربه مع إثيوبيا 1977-1978، لتنطلق شرارة حرب أهلية طاحنة قصف النظام خلالها مدن الشمال بالطائرات، وسمم الآبار، قبل أن يتم إسقاطه عام 1991.
هذا الإرث الثقيل، إضافة إلى تردي الأوضاع السياسية والأمنية في الجنوب، يجعل من قرارات حكومة مقديشو غير واقعية. إضافة إلى أنها تجافي روح القوانين الدولية التي تتمترس خلفها. فلا يمكن لأرض الصومال أن تجعل تدبير مواردها الاقتصادية، رهن إشارة حكومة ضعيفة غير مستقرة لم تستطع بعد فرض سيطرتها على كافة أرجاء المناطق التي لا ينازعها فيها أحد، رغم الدعم الدولي والإقليمي الذي تتلقاه.
فقد وقّعت حكومة أرض الصومال في إطار مساعيها لتحسين الأداء الاقتصادي في الإقليم اتفاقية لإنشاء منطقة اقتصادية حرة تتكامل مع مشروع تطوير ميناء "بربرة"، ليصبح ميناءً إقليميًّا محوريًّا ومعبرًا رئيسيًّا لمختلف البضائع المستوردة من الأسواق الإقليمية والعالمية يجذب المستثمرين ويسهم في تنويع الاقتصاد وخلق المئات من فرص العمل.
وتعطي الاتفاقية "موانئ دبي العالمية" 51% من المشروع، وهيئة الموانئ في أرض الصومال 30%، في حين تستثمر إثيوبيا في الحصة المتبقية. ولعل إدخال أديس أبابا في الملف، وهي القوة الإقليمية النافذة بالمنطقة؛ يحمل إشارة لحكام مقديشو إلى أن أي عمل على إفشالها سيكون مكلفًا على كافة الأصعدة.
ارتباطات إقليمية:
يرتبط الخلاف حول ملف تطوير ميناء "بربرة" في أرض الصومال -في جانب منه- بصراع النفوذ الدائر في منطقة القرن الإفريقي ذات الموقع الاستراتيجي، المطل على ممرات مائية حيوية للقوى الدولية والإقليمية، بدوافع متباينة؛ ولهذا فإنها تستخدم آليات تتراوح بين القوة الناعمة من خلال المساعدات الإنسانية والدعم الاقتصادي والتأثير غير المباشر، وبين الحضور العسكري بأنواع وأحجام مختلفة.
وارتباطًا بالبعد الإقليمي، تشير بعض التحليلات إلى تأثير تركي محتمل في موقف مقديشو التي وجدت فيها أنقرة موطئ قدم ضمن مساعيها لخلق عمق استراتيجي في القارة السمراء، بعد أن بدأ الحلم الأوروبي يتلاشى أمام الرئيس "رجب طيب أردوغان"، وفي ظل علاقاته غير المستقرة بالدول العربية المحورية.
وقد استخدمت تركيا في علاقتها بالصومال آليات عدة. فبالإضافة إلى الاستثمارات الاقتصادية، تمكنت من تأسيس قاعدة عسكرية دائمة في مقديشو، من ضمن مهامها تدريب قوات صومالية، ما يجعل الحكومة تحسب لها حسابًا خاصًّا في أي ملف له ارتباط بصراع النفوذ، لتحسس أنقرة على الدوام من أي دور عربي قد يكون منافسًا.
ولا يمكن استبعاد دور لدولة قطر في هذا الملف، خاصة إذا استحضرنا العلاقات والمصالح القطرية التركية المتشابكة، والأزمة القطرية التي جعلت الدوحة تحاول مضايقة الدول المقاطعة لها، أو التشويش على أنشطتها مستخدمة كل الوسائل المتاحة.
ورغم العلاقة القوية لنظام الصومال مع تركيا، فإن المحور العربي بقيادة المملكة العربية السعودية، بدأ خلال الأعوام الأخيرة بتقوية حضوره في دول القرن الإفريقي بما فيها الصومال التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع إيران إثر الاعتداء على السفارة السعودية بطهران في يناير 2016، في انعكاس واضح لتفعيل الدور الخليجي هناك.
ثلاثة سيناريوهات:
في ظل المحدِّدات الداخلية لسياسات السلطات الصومالية الحاكمة في مقديشو، وارتباطاتها مع القوى الإقليمية، يُمكن القول إن هناك ثلاثة سيناريوهات رئيسية لموقفها من اتفاقية أرض الصومال وموانئ دبي العالمية، وهي على النحو التالي:
1- السيناريو الأول: اكتفاء حكومة مقديشو بالموقف الذي سجلته ضد الاتفاقية، دون اتخاذ خطوات تصعيدية أخرى لمحاولة تجسيده على أرض الواقع، وبهذا تلعب على وتر وحدة البلاد فتكسب تعاطفًا شعبيًّا بمناطق سيطرتها، وتُرضي -في الوقت نفسه- حلفاءها في أنقرة، دون أن تخسر المحور الآخر. ولعل هذا ما دفع رئيس جمهورية أرض الصومال "موسى بيهي عبدي"، إلى التعليق على حديث مقديشو عن ضرورة الأخذ برأيها ومشورتها بخصوص اتفاقية ميناء بربرة بأنه أشبه بـ"مزحة". وهذا السيناريو هو الأكثر ترجيحًا.
2- السيناريو الثاني: بحث دولة الصومال عن وساطة إقليمية لإخراج الاتفاقية بصيغة جديدة توافق عليها، حتى ولو بتعديل شكلي لا يمس الجوهر من أجل حفظ ماء الوجه. وفي هذا الصدد قد تلجأ مقديشو إلى المملكة العربية السعودية التي تتمتع بعلاقات جيدة مع جميع الأطراف المتدخلة بشكل مباشر في الملف، وهو أمر وارد.
3- السيناريو الثالث: أن تحاول مقديشو تدويل الملف، وهي محاولة غير مضمونة النتائج، فرغم الاعتراف بسلطاتها، فإن القوى والمؤسسات الدولية الفاعلة، على دراية بهشاشة الوضع الأمني في الدولة التي لم تقف حكومتها على قدميها بعد، بل ما زالت تعتمد بشكل كبير على الدعم الخارجي لضبط الأمن، بينما تعيش أرض الصومال استقرارًا صلبًا، وتداولًا سلميًّا للسلطة، ووضعًا اقتصاديًّا أفضل، ما يجعل إقناع المجتمع الدولي بربط تسيير مواردها بالجنوب أمرًا صعبًا.