أعلنت الجزائر، في الآونة الأخيرة، عن استعدادها لإجراء إصلاحات جوهرية في نظام الاستثمار بقطاع النفط والغاز الطبيعي، بهدف جذب استثمارات الشركات الأجنبية التي تبدو في حاجة ملحة إليها لتطوير حقول النفط والغاز الطبيعي وزيادة الإنتاج ودعم صادراتها من الخامين وسط تنافس شديد بين المنتجين لتعزيز حصصهم في أسواق الاستهلاك العالمية.
وتتجه الحكومة نحو إجراء تغييرات على قانون المحروقات (1986) بنهاية عام 2018، بحيث يشمل تقديم تسهيلات ضريبية وإدارية، وهى تغييرات تبدو مماثلة لتعديلات تم إجرائها على القانون نفسه في عام 2013، لكنها لم تلب، في تلك الفترة، تطلعات المستثمرين الطامحين بالأساسس لتغيير نظام قاعدة التملك في نظام الاستثمار بقطاع الطاقة. ورغم ذلك تمثل التعديلات المقترحة خطوة من ضمن سلسلة إجراءات ينبغي على الجزائر اتخاذها خلال الفترة المقبلة وسط سياق عالمي، وأوروبي على الأخص، يبحث عن موردين موثوقوين بعد تصاعد الخلافات مع روسيا.
دوافع مختلفة:
تبحث الجزائر عن تعزيز ثقة الشركاء الأجانب بقطاع الطاقة، من خلال إجراء إصلاحات جوهرية بالقطاع، قد تشمل توفير مزايا ضريبية وتسهيل النظام الضريبي، وذلك وسط مشكلات إنتاجية يعاني منها قطاع النفط والغاز الطبيعي، نظرًا لتقادم التكنولوجيا المستخدمة وتباطؤ عمليات الاستكشاف الجديدة وتطوير الحقول الناضجة القائمة.
وعلى ضوء الظروف السابقة، انكمش إنتاج النفط ليبلغ 1.5 مليون برميل يوميًا في عام 2016، وهو أقل بنحو 400 ألف برميل من مستويات عام 2006، فيما شهد الغاز الطبيعي زيادة في الإنتاج من 84.5 مليار متر مكعب إلى 91.5 مليار متر مكعب خلال الفترة نفسها. ورغم ذلك، ظلت هذه الزيادة دون المستويات المتوقعة قياسًا بالإمكانيات الواسعة التي تحظى بها البلاد في إنتاج الغاز، حيث تمتلك احتياطيات تقدر بـ 4.5 تريليون متر مكعب، أى ما يعادل 2.4% من الاحتياطيات العالمية.
وفي ظل تباطؤ نمو إنتاج الغاز على الأخص، تزايدت شكوك المستوردين للغاز الجزائري، ومعظمهم من القارة الأوروبية، إزاء التزام الجزائر بالوفاء باحتياجاتهم المتزايدة من الغاز، وذلك بالتزامن مع النمو السريع للطلب المحلي على الغاز في الأخيرة، حيث وصل في عام 2016 إلى نحو 40 مليار متر مكعب مقابل 23.7 مليار متر مكعب في عام 2006، وهى أرقام مرشحة للزيادة باستمرار مع ارتفاع معدلات النمو السكاني.
ويبدو أن خيارات الجزائر للتعامل مع إشكالية ضعف كفاءة قطاع النفط والغاز كانت محدودة في السابق، حيث اعتمدت بالأساس على الشركات المحلية وعلى رأسها "سوناطراك" لتعزيز الإنتاجية ودعم مستويات الاستثمار، وهو ما لم يخدم أهداف البلاد بتحقيق النمو المرغوب في زيادة إنتاج النفط والغاز الطبيعي، في حين كانت الأخيرة غير مستعدة للانفتاح بشكل كبير أمام دور أكبر للشركات الأجنبية داخل القطاع.
وتوازى ذلك مع عدم قدرة نظام الاستثمار بالقطاع النفطي على جذب كثير من المستثمرين، إذ أنه طبقًا لقانون النفط عام 1986 وتعديلاته المختلفة لابد من امتلاك شركة "سوناطراك" 51% من أى امتياز نفطي أو غازي مقابل 49% للشريك الأجنبي. ونتيجة لذلك، لم تمنح الجزائر سوى 4 امتيازات من 31 رقعة لحقول النفط والغاز عرضتها على اتحادات لشركات أجنبية في عام 2014، ولم تتلق قبلها، وتحديدًا في عام 2011، سوى عرضين لحقلى نفط من أصل عشرة.
لكن ذلك لا ينفي أن الجزائر سعت في الآونة الأخيرة إلى تعزيز تعاونها وشراكاتها مع عدد من الشركات النفطية الأجنبية، لا سيما الأوروبية، وهو ما يمكن تفسيره في ضوء حاجتها إلى جذب الاستثمارات الأجنبية، حيث تعتزم استثمار 56 مليار دولار بقطاع النفط خلال خمس سنوات بحسب تصريح عبد المؤمن ولد قدور الرئيس التنفيذي لشركة "سوناطراك" في فبراير الماضي، في الوقت الذي تحتاج فيه إلى التكنولوجيا الأجنبية لاستغلال موارد الغاز الصخري بها والمقدرة بنحو 22 تريليون متر مكعب، وهى ثالث أكبر موارد من نوعها في العالم.
اتجاه جديد:
على مدار الأشهر الماضية، أبرمت الجزائر عددًا من الصفقات مع شركات أوروبية وصينية لتطوير حقول إنتاج النفط والغاز الطبيعي بجانب تكرير المشتقات النفطية.
وفي إشارة رئيسية حول تحولات وشيكة في السياسة النفطية، وقعت شركة "سوناطراك" مذكرة تفاهم، في فبراير الماضي، مع شركتى "ستات أويل" النرويجية و"بي.بي" البريطانية، لتعزيز التعاون خاصة في قطاع أنشطة المنبع في مجال الاستكشاف والتنقيب.
وسبق ذلك اتجاه "سوناطراك" إلى تعزيز تعاونها مع شركة "توتال" في مشروعات مختلفة تشمل الاستكشاف والتنقيب عن النفط والغاز بجانب مشاريع للطاقة الشمسية، بحسب تصريح عبد المؤمن قدور في ديسمبر الماضي، وذلك بعد تسوية نزاع بين الشركتين كان في طريقه للتحكيم الدولي في عام 2016.
فيما امتدت مجالات التعاون مع الشركات الأجنبية لتشمل تكرير النفط أيضًا، ففي نوفمبر 2017، وقعت "سوناطراك" عقدًا مع الشركة الصينية للهندسة والبناء والنفط بقيمة تقدر بـ414 مليون دولار لتحديث مصفاة نفط في العاصمة الجزائر.
كما أبرمت اتفاقًا آخر مع شركة تجارة النفط "فيتول" لتكرير النفط الخام الجزائري في الخارج، وهو ما قد يجعل الجزائر تتحمل فقط كلفة عمليات التكرير، بما يحقق لها وفورات اقتصادية كبيرة خاصة في ظل ارتفاع كبير لفاتورة واردات المشتقات النفطية لتصل إلى 2.5 مليار دولار في عام 2017 مقابل 800 مليون دولار في عام 2016.
ومن دون شك، فإن اتفاقات التعاون السابقة تمثل بادرة إيجابية في تحول علاقات الجزائر مع الشركات الأجنبية، لكن الحكومة الجزائرية تدرك جيدًا أنها بحاجة لوضع نظام تشريعي مختلف في التعامل مع الشركاء الأجانب، على نحو دفعها، منذ أواخر عام 2017، إلى اقتراح تعديل قانون النفط عام 1986.
وبحسب وزير الطاقة مصطفى قيطوني، فعلى الأرجح سوف يشمل القانون، المتوقع استكماله في نهاية عام 2018، تسهيلات ضريبية وإدارية، وذلك دون الإشارة إلى إمكانية تغيير القاعدة الخاصة بملكية "سوناطراك" لـ51% مقابل 49% للشريك الأجنبي. وسبق ذلك أن بدأت الجزائر في إجراء مفاوضات ثنائية مع الشركات الأجنبية بدلاً من نظام المزايدات الذي يستغرق وقتًا طويلاً، وهو ما قد يوفر لها مجالاً أكبر لتجديد العقود.
وبالتوازي مع ذلك أيضًا، اقترحت الحكومة إمكانية التحول إلى استخدام العقود قصيرة الأجل لتوريد الغاز للعملاء، على نحو سيجنبهم تحمل أسعار مرتفعة للخام كما هو الحال في العقود طويلة الأجل، والتي لم تحظ بقبول لدى المشترين خاصة في ظل ربط أسعار الغاز بسعر النفط الخام بالعقود الجزائرية.
حدود التحول:
ومع ذلك، فإن التغييرات السابقة قد لا تستقطب اهتمام المستثمرين الطامحين لتغيير جذري في نظام الاستثمار، حيث لم تنجح التعديلات السابقة في دعم جاذبية مناخ الاستثمار بهذا القطاع، رغم تعديل فرض الضريبة وقتها على أرباح الشركات الأجنبية بدلاً من إجمالي الإيرادات من المشروع، إلى جانب تمديد عمليات الاستكشاف والتطوير لفترات أطول.
ويعني ذلك أن الجزائر تحتاج لإجراء تغييرات أكثر شمولاً في شروط الاستثمار كى تستطيع جذب الاستثمارات الأجنبية في الوقت الذي تبدو فيه كثير من الشركات النفطية في العالم أكثر انتقائية في ضخ الاستثمارات وسط تقلبات الأسعار العالمية للنفط والغاز الطبيعي. فضلاً عن ذلك، فإن الحكومة بحاجة لتقديم الضمانات الكافية للمستثمرين لحماية حقوقهم في الامتيازات النفطية والغازية.
ويمكن القول في النهاية إن التطورات الطارئة على الساحة الدولية قد توفر للجزائر فرصة تاريخية لإجراء تغييرات على نظام الاستثمار بما يعزز من موقعها كمورد موثوق فيه للغاز الطبيعي والنفط في العالم، في الوقت الذي تبحث فيه أوروبا عن موردين آخرين للغاز الطبيعي إليها بدلاً من روسيا التي شهدت العلاقات معها توترًا شديدًا خلال الأعوام الأخيرة.