ما زالت إيران حريصة على تأكيد عدم تراجعها عن سياستها، لا سيما فيما يتعلق ببرنامج الصواريخ الباليستية، رغم الضغوط الدولية التي تتعرض لها في هذا السياق، بسبب اتساع نطاق الاهتمام الدولي بالتهديدات التي يفرضها استمرارها في تطوير تلك الصواريخ، على الصعيدين النووي والإقليمي، وهو ما لا يمكن فصله عن مجمل التطورات التي شهدتها الساحتان الإقليمية والدولية في الفترة الأخيرة، وكانت محل متابعة خاصة من جانب طهران، سواء على مستوى التوتر المتصاعد حول الاتفاق النووي، أو على صعيد الانتقادات الإقليمية والدولية الموجهة للأدوار التي تقوم بها إيران في المنطقة، ومساعيها لتكريس وجودها العسكري داخل سوريا خلال المرحلة القادمة.
دلالات مختلفة
تطرح التصريحات التي أدلى بها قائد القوة الجوفضائية التابعة للحرس الثوري امير علي حاجي زاده، في 6 مارس الجاري، وقال فيها أن "إيران تعتبر ضمن الدول الخمس الرائدة في مجال الصواريخ والدفاع العسكري والرادارات والقنابل والطائرات المُسيَّرة على مستوى العالم"، دلالات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- رفض المساعي الفرنسية: ربما يمكن القول إن تلك التصريحات كانت الخطوة الأخيرة التي اتخذتها طهران لتأكيد رفضها للجهود التي بذلتها فرنسا في الفترة الماضية من أجل تقليص حدة الخلاف حول برنامج الصواريخ الباليستية، بشكل قد يساعد، في رؤيتها، على تعزيز فرص استمرار الاتفاق النووي خلال الأعوام القادمة.
فقد كان لافتًا أن طهران تعمدت توجيه رسائل إلى باريس، قبل وبعد زيارة وزير الخارجية جان ايف لودريان إلى طهران، في 5 مارس الجاري، تفيد إصرارها على عدم إجراء أى تغيير في موقفها من هذا الملف تحديدًا.
إذ وجهت وسائل الإعلام الرئيسية التابعة للنظام انتقادات قوية لفرنسا ووزير الخارجية، وتعمدت الإشارة من جديد إلى ما اعتبرته دعمًا من جانب باريس لمنظمة "مجاهدين خلق"، التي عقدت في الأعوام الأخيرة مؤتمرات عديدة ضمت شخصيات دولية للتنديد بممارسات النظام الإيراني، خاصة بعد الوصول للاتفاق النووي مع مجموعة "5+1" في منتصف يوليو 2015.
كما نظم الطلاب الجامعيون، بضوء أحضر على ما يبدو من جانب السلطات الإيرانية، مظاهرات أمام مبنى وزارة الخارجية ومطار مهراباد الدولي، احتجاجًا على زيارة لودريان، خاصة أنها أعقبت صدور بيان من وزارة الخارجية الفرنسية أكدت فيه على أن "برنامج الصواريخ الباليستية أصبح مبعث قلق كبير"، مشيرة إلى أنها "تريد أن تساهم إيران بإيجابية في حل الأزمات في الشرق الأوسط"، وهو ما يوجه رسالة غير مباشرة بأن تدخلات إيران في تلك الأزمات كان أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تفاقمها وعرقلة الجهود التي بذلت من أجل تسويتها.
وهنا، فإن إيران لم تسع فقط إلى رفض فتح الملف الصاروخي خلال زيارة لودريان، وإنما أيضًا إلى وضع عقبات أمام أية محاولات فرنسية لإقناعها بتغيير موقفها في الأزمات الإقليمية المختلفة، على غرار الأزمتين اليمنية والسورية.
2- استثمار الدعم الروسي: والذي بدا جليًا في الفيتو الذي استخدمته موسكو، في 26 مارس 2018، لمنع صدور قرار من مجلس الأمن يدين إيران بسبب انتهاكها للحظر المفروض على السلاح إلى حركة "أنصار الله" الحوثية. إذ يبدو واضحًا أن إيران قرأت الموقف الروسي على أنه يمثل رسالة دعم واضحة لدورها في المنطقة، خاصة أن الفيتو الذي استخدمته موسكو عرقل الإجراءات التي كانت تسعى الدول التي أعدت مشروع القرار وأيدته، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، إلى اتخاذها في حالة ما إذا كان قد تم تمريره داخل المجلس.
وبعبارة أخرى، ربما يمكن القول إن هذه الخطوة الروسية سوف تدفع طهران إلى الإمعان في تدخلاتها الإقليمية وتهديداتها المستمرة لأمن ومصالح دول المنطقة ومواصلتها تقديم الدعم العسكري للميليشيات الإرهابية والمسلحة في الإقليم، مستندة في هذا السياق إلى وجود قوة دولية داعمة لها داخل مجلس الأمن.
ويبدو أن إيران تحاول الرد على الفيتو الروسي من خلال إجراءات جديدة لتعزيز التعاون الاقتصادي بين الطرفين، حيث كشفت وسائل الإعلام الإيرانية، في 7 مارس الجاري، عن اتفاق طهران وموسكو على صفقة لبيع الأولى طائرات مدنية من طراز "سوخوى سوبرجيت 100"، في إشارة، على ما يبدو، إلى تعثر الصفقات التي عقدتها إيران مع بعض الشركات الدولية في هذا الصدد، على خلفية المخاوف المرتبطة باحتمال توقف العمل بالاتفاق النووي خلال المرحلة القادمة.
كما أشارت تقارير عديدة إلى استعداد كل من إيران وروسيا إلى إعداد إطار قانوني لمشروع يهدف إلى مد الهند بالغاز الروسي، على أن يبدأ اتخاذ خطوات تنفيذية لتفعيل المشروع خلال العام الجاري.
3- مواصلة الحرب النفسية مع إسرائيل: والتي تصاعدت حدتها مع المواجهة التي وقعت في سوريا في 10 فبراير الفائت، قبل وبعد إسقاط مقاتلة "إف 16" الإسرائيلية، حيث كان لافتًا أن تأكيد طهران على مواصلة تطوير برنامجها الصاروخي بما يشمل توسيع المدى الذي يمكن أن تصل إليه، تزامن مع الزيارة التي يقوم بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث شارك في المؤتمر السنوي للجنة الشئون العامة الأمريكية-الإسرائيلية "إيباك"، في 6 مارس 2018، الذي كان الخطر النووي والإقليمي الإيراني أحد محاوره الرئيسية، حيث تعهد كل من نتنياهو ونائب الرئيس الأمريكي مايك بنس بمنع إيران من الحصول على السلاح النووي.
4- تحييد دور الحكومة: توازت تصريحات حاجي زاده مع ظهور تقارير عديدة داخل إيران تشير إلى أن ملف البرنامج الصاروخي يمثل أحد الملفات التي لا تدخل ضمن صميم صلاحيات حكومة الرئيس روحاني، وهو ما يعد امتدادًا للجدل الذي تشهده إيران حول مدى قدرة الحكومة على توسيع نطاق نفوذها داخل دوائر صنع القرار الخاص بمثل تلك النوعية من القضايا، خاصة أن هذه القضايا باتت تمارس أدوارًا مهمة سوف تساهم من خلالها في تحديد المسارات المتوقعة للاتفاق النووي خلال الفترة المقبلة.
ويبدو أن ذلك كان محاولة من جانب المؤسسات النافذة في النظام من أجل الرد على تقارير تشير إلى أن الحكومة قد تقدم على إجراء حوار مع بعض القوى الدولية المعنية بالمنطقة حول ملفاتها الرئيسية، في مسعى من جانبها لتعزيز فرص استمرار العمل بالاتفاق النووي وتقليص حدة التوتر في العلاقات مع تلك القوى بسبب الإصرار على مواصلة تطوير البرنامج الصاروخي وعدم إجراء مفاوضات جديدة حول الاتفاق.
من هنا، ربما يمكن القول في النهاية إن التوتر سوف يبقى سمة رئيسية في التفاعلات التي تجري بين إيران والدول الغربية، خاصة بعد أن وجهت الأخيرة تهديدات بإمكانية اتخاذ خطوات إجرائية لمواجهة أنشطة إيران على المستويات المختلفة، الصاروخية والنووية والإقليمية، من خارج مجلس الأمن، في إشارة إلى أن الفيتو الروسي لن يمنعها من تبني خيارات أخرى عقابية للتعامل مع التهديدات المتعددة التي باتت تفرضها تلك الأنشطة.