يكشف مشروع القرار الذي أعدته بريطانيا، بالتشاور مع الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، وتستعد لعرضه على مجلس الأمن بكامل أعضائه، ويدين إيران لتقاعسها عن منع وصول صواريخها الباليستية إلى الميليشيات الحوثية في اليمن، عن أن مساحة الخلافات تنحصر تدريجيًا في المواقف الأوروبية والأمريكية تجاه التعامل مع الملفات العالقة مع إيران، خاصة الاتفاق النووي وبرنامج الصواريخ الباليستية والدور الذي تمارسه إيران على الساحة الإقليمية.
لكن ذلك لا ينفي في الوقت ذاته أن الدول الأوروبية ما زالت حريصة على دعم استمرار العمل بالاتفاق النووي، باعتبار أن الخيارات الأخرى البديلة لا تتوافق مع مصالحها ورؤيتها لمسارات الأزمات العديدة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يعني أن الهدف الأساسي لهذه الخطوة ربما لا يتمثل في فرض عقوبات جديدة على إيران، بقدر ما يرتبط بتوجيه تحذيرات قوية لها بأن إصرارها على الإمعان في التدخل في الشئون الداخلية لدول المنطقة وتهريب الأسلحة إلى الميليشيات الإرهابية والمسلحة، على نحو يمثل انتهاكًا لقرارات مجلس الأمن، من شأنه تعزيز احتمالات انهيار الصفقة النووية، خاصة في ظل السياسة الجديدة التي تتبناها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في هذا السياق.
خطوة مؤثرة:
حاولت الدول الأوروبية المعنية بالاتفاق النووي تبني موقف وسط بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، وذلك من أجل دعم مواصلة العمل بالاتفاق النووي والحفاظ على الفرص الاستثمارية التي حصلت عليها في إيران بعد الوصول إليه. ومن هنا تبنت مقاربة جديدة سعت عبرها إلى الوصول لحلول وسط بين المطالب الأمريكية الخاصة بتعديل بعض النقاط الخلافية التي تضمنها الاتفاق النووي، وبين الإصرار الإيراني على الاستمرار في تطبيق الاتفاق كما هو.
وبذلت الدول الأوروبية جهودًا من أجل إقناع إيران بالدخول في جولات جديدة من المفاوضات حول تلك النقاط، وخاصة ما يتعلق بالصواريخ الباليستية، إلا أن الأخيرة أصرت على تبني موقف متشدد في هذا السياق، رافضة أية محاولات لإجراء مباحثات حول الصواريخ الباليستية.
وتوازى ذلك مع بعض التطورات التي طرأت على الساحة الإقليمية ولم تكن بعيدة عن الخلاف مع إيران حول تلك الملفات. فقد أطلقت الميليشيات الحوثية العديد من الصواريخ الباليستية، التي أثبتت تقارير عديدة أنها إيرانية الصنع، على المملكة العربية السعودية، في انتهاك صارخ لقرارى مجلس الأمن رقمى 2216 الخاص باليمن و2231 الخاص بالاتفاق النووي.
فضلاً عن ذلك، وجه أكثر من مسئول عسكري إيراني تهديدات بإمكانية تطوير مدى الصواريخ الباليستية الإيرانية لتصل إلى أراضي الدول الأوروبية. ففي هذا السياق، قال حسين سلامي نائب قائد الحرس الثوري، في 25 نوفمبر 2017، أنه "إذا هددت أوروبا إيران فإن الحرس الثوري سيزيد مدى الصواريخ لأكثر من ألفى كيلو"، مضيفًا: "حتى الآن لم نشعر أن أوروبا تمثل تهديدًا لذلك لم نزد مدى صواريخنا، لكن إذا كانت أوروبا تريد أن تتحول إلى تهديد فسنزيد مدى الصواريخ".
وقبل ذلك هدد محمد علي جعفري قائد الحرس الثوري، في 8 أكتوبر 2017، الولايات المتحدة الأمريكية بأنه "إذا صنفت الحرس الثوري كمنظمة إرهابية فعليها نقل قواعدها العسكرية لمسافة تزيد على ألفى كيلو"، في إشارة إلى المدى الحالي الذي تصل إليه الصواريخ الباليستية الإيرانية.
هذه التطورات في مجملها دفعت الدول الأوروبية إلى تبني رؤية جديدة اقتربت فيها من السياسة الأمريكية تجاه إيران، حيث اعتبرت أن استمرار التعويل على الاتفاق النووي مع التغاضي عن الأنشطة التخريبية التي تقوم بها إيران في المنطقة، يوجه رسائل خاطئة إلى الأخيرة، بشكل يدفعها إلى الإصرار على مواصلتها، ورفع سقف انخراطها في الأزمات الإقليمية، على نحو أدى إلى تفاقمها وعرقلة الجهود التي تبذل للوصول إلى تسويات سياسية لها.
وبعبارة أخرى، فإن الدول الأوروبية ترغب من خلال تلك الخطوة في توجيه تحذير أولي إلى طهران بأنها لن تستطيع، بداية من الفترة الحالية، استغلال التباين الذي كان قائمًا في المواقف مع الإدارة الأمريكية من أجل توسيع هامش الخيارات وحرية الحركة المتاحة أمامها، بعد أن تسببت سياستها في تقليص مساحة هذا التباين وتحقيق مزيد من التقارب، وهو ما انعكس في مشروع القرار الأخير الذي تم إعداده بتنسيق بين لندن وباريس وواشنطن.
وهنا، يمكن القول إن تلك الدول تحاول إقناع إيران بضرورة إبداء مرونة أكبر تجاه التحفظات الأمريكية، والغربية بشكل عام، إزاء الملفات الخلافية العالقة معها، بدلاً من المغامرة بالتعرض لضغوط أقوى خلال المرحلة القادمة، بعد التقارب الملحوظ في السياستين الأمريكية والأوروبية.
اختبار صعب:
ومع ذلك، فإن هذه الخطوة لا تشير إلى تبلور إجماع دولي ضد إيران، خاصة في ظل استمرار تعويلها على روسيا التي تمثل ظهيرًا دوليًا يمكن أن يمارس دورًا في مجلس الأمن يحول دون فرض عقوبات أو صدور قرار إدانة ضدها خلال الفترة القادمة، وهو الدور نفسه الذي قامت به روسيا مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد، حيث استخدمت حق الفيتو مرات عديدة لمنع صدور قرارات دولية ضده.
وقد كان لافتًا أن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف قام بزيارة موسكو عقب مشاركته في مؤتمر ميونيخ للأمن في 18 فبراير الجاري. ورغم أن عنوان الزيارة كان حضور مؤتمر "فاليداى 2018" بعد ذلك بيوم واحد، إلا أنها قد تمثل فرصة لإجراء مباحثات مع المسئولين الروس حول القضايا التي تحظى باهتمام مشترك، وفي مقدمتها التصعيد الأوروبي- الأمريكي ضد إيران، وتطورات الصراع في سوريا بعد المواجهة المحدودة التي وقعت مع إسرائيل.
ويبدو أن إيران سوف تحاول في هذا الصدد استغلال الاستراتيجية النووية الجديدة التي أعلنتها الإدارة الأمريكية من أجل تحقيق مزيد من التقارب في علاقاتها مع روسيا، بشكل يمكن، في رؤيتها، أن يمنع تكوين إجماع دولي ضد سياساتها.
فضلاً عن ذلك، فإن فرض عقوبات أو صدور قرار إدانة من الممكن أن ينتج تأثيرات مباشرة على الاتفاق النووي، باعتبار أنه قد يوفر فرصة للولايات المتحدة الأمريكية، أو أية دولة مشاركة فيما يسمى بـ"خطة العمل" (إشارة إلى الاتفاق) من أجل تأكيد أن إيران لا تلتزم بالاتفاق النووي أو بالقرار الدولي رقم 2231، وهو ما يحق معه تقديم شكوى ضد إيران في هذا الإطار باعتبار أنها قامت بأنشطة تمثل إخلالاً بالالتزامات المنصوص عليها في الاتفاق، بكل ما يعنيه ذلك من دعم احتمال إعادة فرض العقوبات الدولية السابقة عليها من جديد، وهو احتمال لا يبدو أن القوى الدولية المعنية بالاتفاق، خاصة الدول الأوروبية، مستعدة للتعامل مع تداعياته على الأقل في المرحلة الحالية.
من هنا، ربما يمكن القول في النهاية إن الخطوة الجديدة التي اتخذتها بريطانيا، بالتشاور مع الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، من شأنها تصعيد حدة الضغوط الدولية التي تتعرض لها إيران، بسبب أدوارها السلبية التي تقوم بها في المنطقة، وهو ما يمكن أن يساهم في إرباك حساباتها من جديد، خاصة أن ذلك يتوازى مع ما يواجهه النظام الإيراني من أزمة داخلية ما زالت أسبابها قائمة، في ظل إصراره على مواصلة تلك الأدوار في الخارج والتغاضي عن ما يعانيه الداخل من مشكلات مزمنة.