تتحفنا الدبلوماسية الأميركية تباعاً بالجديد في مبادئ تسوية النزاعات الدولية، فقبل مدة وجيزة أجاب مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط عندما سُئل عما سوف يكون عليه الموقف لو رفض الفلسطينيون «صفقة القرن»، بأن موافقتهم ليست مهمة لأن التسوية إقليمية! تذكرت أستاذي الجليل سمعان بطرس فرج الله عندما كنا نسأله في أواخر ستينيات القرن الماضي عن فرص نجاح جولة ما من مفاوضات تسوية الصراع في فيتنام، فيجيب من فوره بأنها «صفر» لأن أطراف الصراع كافة ليست ممثلة فيها، وكان يقصد تحديداً «الفيتكونج» الذين كانوا يحاربون النظام المدعوم أميركياً. فبدون تمثيل كافة الأطراف لا تُمثل كافة المصالح، وبذلك تفقد التسوية مقومات النجاح وكأنها قنبلة موقوتة يؤدي انفجارها إلى العودة بالصراع إلى المربع صفر. والآن تتعرض الدبلوماسية الأميركية لاختبار جديد في تصديها للنزاع الإسرائيلي اللبناني حول الحدود البحرية، متمثلاً في ادعاء إسرائيل ملكية 860 كيلومتراً مربعاً من المنطقة الاقتصادية اللبنانية الخالصة، والسبب هو الأطماع غير المشروعة في الاكتشافات المحتملة من الغاز والنفط في هذه المنطقة، وهو سلوك مشابه للسلوك التركي تجاه اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين مصر وقبرص.
ويثير الاقتراح الأميركي لتسوية النزاع العجب وهو أن تقتسم الدولتان المنطقة المتنازع عليها بنسبة 60% للبنان و40% لإسرائيل، وتعلم الدبلوماسية الأميركية تمام العلم أن المنطقة المتنازع عليها لبنانية مئة بالمئة، لأنه لو كان لإسرائيل أي حق فيها لأمطرتنا بالحجج القانونية، غير أن إدراكها للبلطجة الإسرائيلية يجعلها تحاول أن تَخلُص من النزاع لإسرائيل بأي مكسب، وما يثير الأسى بالنسبة لدبلوماسية دولة عظمى هو نهج المعالجة في حد ذاته، فالنزاع قانوني بامتياز وليس صفقة تجارية نختلف فيها على ميزان الربح والخسارة. فالقانون الدولي للبحار المعتمد من الأمم المتحدة منذ عقود يُنَظم بإحكام هذه النزاعات، ويُفترض أن يُسَوى أي نزاع في هذا الصدد بإحالته إلى لجنة قانونية تطبق القواعد المقررة، وليس باقتراح تقسيم المنطقة المتنازع عليها بنسبة أو بأخرى بعيداً عن القواعد القانونية المستقرة. لكن الدبلوماسية الأميركية تعلم علم اليقين أن إسرائيل دولة لا تلتزم بالقانون الدولي، لذلك تخرج علينا بمثل هذه الاقتراحات الغريبة التي لا تجد سنداً لها من القانون الدولي، بل ترفض حتى التعهد بضمان أي تسوية يتم التوصل إليها بشأن هذا النزاع. فعندما سُئل وزير الخارجية الأميركي أثناء زيارته الأخيرة لبيروت عن الضمانات التي يمكن للولايات المتحدة توفيرها للبنان حال التوصل لتسوية، وهو سؤال مهم لأن إسرائيل لا تعترف بالمحكمة الدولية لقانون البحار، أجاب بأن «الولايات المتحدة ليست في موقف يمكن أن تضمن فيه أي شيء لدولة سيادية أخرى»، وكان بمقدوره القول مثلاً بأن الولايات المتحدة تقف بحزم مع تطبيق القواعد القانونية الدولية، وعندما بدا واضحاً أن الموقف الأميركي لا يلقى قبولاً من أي طرف لبناني، لجأ إلى التعميم الذي لا يعني شيئاً بقوله إن هناك أفكاراً «ابتكارية» جرى بحثها وأضاف: «لن نطلب من أي من الطرفين التخلي عن أي شيء وإنما طلبنا منهما إيجاد حلول»، وهو ما يعني أن الدبلوماسية الأميركية تخلي مسؤوليتها وأن تطبيق القواعد القانونية الدولية ليس وارداً في حساباتها.
اتسمت الدبلوماسية الأميركية على الدوام بالانحياز لإسرائيل، لكنها كانت تحاول في عقود خلت إضفاء مسحة من الموضوعية على هذا الانحياز وأن تبدو مستجيبة للحد الأدنى من المطالب العربية، فهل نذكر مثلاً الدور الذي لعبه الرئيس الأميركي كارتر في مباحثات السلام بين مصر وإسرائيل؟ أو مبادرة ريجان لعام 1982؟ أو دور بوش الأب في مؤتمر مدريد؟ أو مبادرات كلينتون؟ أو «خريطة الطريق» لبوش الابن؟ أو التصويت الأميركي ضد الاستيطان الإسرائيلي في عهد أوباما؟
صحيح أنها لم تفض جميعها إلى حل الصراع، لكنها كانت تعكس محاولات لإظهار توازن ما في المواقف، أما الآن فإن أخشى ما يخشاه المرء أن تصب الدبلوماسية الأميركية مزيداً من الزيت على نيران يزداد اشتعالها يوماً بعد آخر.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد