أكثر من حدث في المنطقة العربية، خلال الأسبوع المنصرم، بيّن خطورة القراءات الخاطئة للمشهدين الإقليمي والدولي المتغيرين. وتحديداً، في سوريا ولبنان كانت قراءات اللاعبين المحليين واصطفافاتهم ترتبك... من سوتشي إلى بيروت.
أولاً، المعارضة السورية صُدمت برعاية الأمم المتحدة «مؤتمر سوتشي» وسط «رسائل» سياسية وعسكرية من موسكو لا لبس فيها. ومهما كانت التبريرات جاءت الرعاية الأممية للمؤتمر عبر حضور الوسيط ستافان دي ميستورا، وكأنها مباركة لنسف «مسار جنيف».
كما نذكر، بدأت موسكو بضرب الانتفاضة السورية وكل مبادرات المجتمع الدولي بسلسلة من «الفيتوهات». ثم تطوّر تصعيدها بإعادتها تسليح «النظام»، ثم دعمه باحتلال واقعي ومشاركة قتالية فعلية. وعلى الصعيد السياسي، بعد تهديد تركيا وابتزازها، أطلقت موسكو بمشاركة إيرانية وتركية «مفاوضات آستانة» بهدف تهميش المعارضة السياسية المستقلة... مقابل تضخيم دور الفصائل المسلحة المعتمدة على رعاة «آستانة» الثلاثة، أي إيران وتركيا وروسيا.
كانت «آستانة» أول بديل عملي لـ«جنيف»، ورعتها موسكو مستفيدة من قلق طهران وأنقرة من اندفاعة واشنطن لدعم الانفصاليين الأكراد في شمال سوريا بحجة قتال «داعش». وفي ضوء «انقلاب» واشنطن على الانتفاضة السورية و«الجيش السوري الحر» مقابل حرص الروس على شقّ المعارضة وتفتيتها، ارتأت موسكو حسم المعركة وتصفية «القضية السورية» نهائياً في سوتشي.
هذه هي حقيقة سوتشي، حيث تآمرت الأمم المتحدة على قرارات مجلس أمنها.
ماذا بعد؟
تكرار الكلام عن «سيادة سوريا ووحدة أراضيها» بات عبثياً، ليس فقط في ظل التهجير و«الهندسة الديموغرافية» المطبّقة على الأرض، بل عبثياً أيضاً إذا ما لاحظ المراقب «تقاسم النفوذ» الفعلي لأراضي سوريا. فمنطقة الساحل السوري تحت السيطرة الروسية. والمنطقة الحدودية شمال غربي نهر الفرات بين لواء الإسكندرونة (هتاي) ومدينة جرابلس على النهر تطمح تركيا لإحكام سيطرتها عليها. وفي حين تتولى واشنطن الإشراف على منطقة شرقي الفرات مع الميليشيات الانفصالية الكردية يسيطر «النظام» – بدعم إيراني – في المدن الكبرى، وتنتشر شراذم لـ«داعش» وتنظيمات أخرى متشددة ومشبوهة الغايات في مناطق متناثرة.
بناءً عليه، يبقى الجنوب السوري في «عين العاصفة»، وسط صمت لا تكسره سوى عمليات إسرائيلية أو مناوشات غريبة في توقيتها ومنطقها... وتلويح إسرائيل بأنها لن تسمح لإيران و«حزب الله» بتهديد أمنها.
بالنسبة للبنان، معروفٌ أن الحدود السورية – اللبنانية انتهكت غير مرة خلال العقود الأخيرة. وكان آخرها قتال «حزب الله» داخل سوريا. ولقد سهّل على الحزب - الذي هو ذراع إيران السياسية والعسكرية داخل لبنان – عاملان مهمّان:
الأول: كون «نظام» دمشق جزءاً من استراتيجية التوسّع الإيراني داخل العالم العربي باتجاه البحر المتوسط.
والثاني: تمتعه بغطاء سياسي مسيحي مؤثّر، بفضل «تفاهمه» مع «التيار الوطني الحر» (تيار الرئيس اللبناني الحالي ميشال عون) الذي هو الطرف المسيحي الأكثر تشدداً في لبنان، والموقف الإكليريكي المسيحي المُعبَّر عنه في كل من سوريا ولبنان الذي يعتبر أن حكم آل الأسد يبقى أقل سوءاً من أي بديل مطروح.
هذان العاملان، حصّنا تدخل «حزب الله». ولاحقاً، التدخل الإيراني المباشر، بعد «ظهور» تنظيمات متطرّفة كـ«داعش» و«جبهة النصرة» في الساحة السورية... وتسابق قوى إقليمية سنّية على دعمها، قبل أن تغيّر هذه القوى نفسها مواقفها بعدما أجهزت - أو كادت - على عناصر الاعتدال بين فصائل الانتفاضة المسلحة.
ولكن كما ترتبك الصورة في الجنوب السوري بعد التلويح الإسرائيلي بعمل عسكري لمنع إيران من ترسيخ وجودها هناك، وتحويل «حزب الله» جنوب لبنان «مصنعاً للصواريخ» التي تهدّدها، فجّر جبران باسيل، وزير الخارجية اللبناني، معركة «كسر عظم» سياسية مع الرئيس نبيه برّي رئيس مجلس النواب ورئيس «حركة أمل» التي هي الحليف الشيعي الرئيس لـ«حزب الله».
توقيت معركة باسيل - صهر رئيس الجمهورية ورئيس «تياره» - مع برّي مفهوم. فهو يأتي على أبواب انتخابات سيلجأ فيها العونيون، كالعادة، إلى المزايدة واحتكار الدفاع عن المصالح «المسيحية». وهؤلاء بعدما كانوا قد جيّشوا حملة تحريض وتهييج وادعاء مظلومية بعد 2005، اختاروا «شيطنة» تيار «المستقبل» - والسنة عموماً - عام 2009. ثم منذ 2011 لجأوا إلى «دعشنتهم» لتبرير تغطيتهم حرب إيران في سوريا.
إلا أن الجديد هذه المرة، هو التغيّر المُحتمَل في المعطيات... والقراءات. ذلك أن واشنطن تبدو أكثر جدية الآن في مواجهة «حزب الله»، بعد فترة إدارة باراك أوباما «المتعاطفة» مع إيران وأدواتها. ثم إن إسرائيل النافرة من السلام تبدو جاهزة أكثر من أي وقت مضى لحرب جديدة الغاية منها ليست بالضرورة القضاء على إيران و«حزب الله»، بل إعادة «تقاسم» خريطة سوريا والهلال الخصيب.
كما سبق، الجنوب السوري هو المنطقة الوحيدة التي لم يحسم «التقسيم الواقعي» لسوريا مصيرها بعد. وهي المنطقة المتاخمة لإسرائيل لاتصالها غرباً بالجولان وجبل الشيخ، وبعدهما بالجنوب اللبناني و«الممرّ الشيعي» الواصل بين الكتلتين الشيعيتين اللبنانيتين الكبيرتين في البقاع والجنوب.
أسباب تقرّب باسيل – ومعه «تيار عون» – من «حزب الله» يدركها الحزب وحركة أمل جيداً. ولقد كافأ الحزب «التيار» على خير وجه عندما فرض عون رئيساً على لبنان. لكن بينما تبقى حركة أمل تنظيماً لبنانياً يؤمن زعيمه بهويته العربية، ولم يرتبط في يوم من الأيام بعلاقات ودّ وثقة بعون، فإن الحسابات الإيرانية قضت بتحالف «حزب الله» مع «التيار» كي تستخدم طهران الأخير غطاءً و«حصان طروادة» لها داخل البيئة المسيحية في لبنان والمنطقة.
وزير الخارجية اختار خلال الأسبوع بدء حملة تهييج الشارع المسيحي باشتباك مع برّي في جزء منه «جس نبض» لخيارات «حزب الله» التفضيلية. لكنه قبلاً، مع اشتداد الضغوط الأميركية، وجه كذلك انتقادات مبطّنة إلى الحزب.
إن محاولة باسيل التملص من تحالفه مع الشيعية السياسية الآن - إذا كان ذلك ضمن اعتباراته - رهان كبير وغير مأمون العواقب... والركون إلى واشنطن وتل أبيب مجازفة أكبر!
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط