يمر العراق حالياً بظروف استثنائية، ففضلاً عن الأزمة الاقتصادية التي تزداد سوءاً مع استمرار تراجع أسعار النفط الذي تمثل عائداته المورد الرئيسي لاقتصاد الدولة، هناك المواجهة العسكرية مع تنظيم "داعش" الذي يحتل مساحات شاسعة من البلد، والتي لابد من انتزاعها من سيطرته، الأمر الذي يضيف عبئاً مالياً آخر على ميزانية الدولة.
وهناك أيضاً الاضطرابات السياسية وحركة الاحتجاج الشعبية التي أخذت تتصاعد قوتها مؤخراً مع دخول الصدريين على خط المشاركة فيها بقوة لافتة في الأسبوعين الأخيرين، حيث دعا زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر إلى الاعتصام أمام بوابات المنطقة الخضراء بالعاصمة بغداد اعتباراً من يوم الجمعة المقبل وحتى انتهاء مهلة الـ45 يوماً التي حددها في 12 فبراير الماضي لرئيس الوزراء حيدر العبادي من أجل إجراء إصلاح شامل وتشكيل حكومة تكنوقراط.
تحديات حكومة العبادي
تواجه حكومة حيدر العبادي ثلاثة تحديات كبرى في آن واحد، وهي التحدي الأمني في ظل مواجهة "داعش"، والتحدي الاقتصادي، والتحدي السياسي، وجميعها خطيرة ومتداخلة، بحيث يصعب فصلها عن بعضها البعض. وهذا الموقف ليس سهلاً على أية حكومة مواجهته، خصوصاً أن التحديات الثلاثة ضاغطة وملحة ولا تحتمل التجاهل أو التأجيل في التعاطي معها على نحو جدي وحقيقي.
وعلى الرغم من ذلك، يمكن القول أن ثمة تراتبية ما في أولوية التعاطي مع التحدي الأكثر أهمية بين الثلاثة، ألا وهو التحدي السياسي الذي برز إلى الواجهة خلال الأسابيع القليلة الماضية، على أثر تلقي حركة الاحتجاجات الشعبية زخماً كبيراً بإعلان الزعيم الشيعي مقتدى الصدر النزول إلى الشارع مع أنصاره والمشاركة في الاحتجاجات في ساحة التحرير ببغداد. فما قام به الصدر حرك مياهاً راكدة، ووضع الحكومة والتحالف الوطني الذي يقودها أمام اختبار جديد وصعب.
لماذا انضم التيار الصدري للاحتجاجات؟
ثمة تساؤل حول أسباب دخول التيار الصدري في معترك الاحتجاج الشعبي ضد الحكومة العراقية على الرغم من أنه مشارك فيها؟ وهنا يمكن القول إن التيار الصدري، بخلاف جميع الحركات السياسية العراقية، هو تيار شعبي، أي أنه ممتد عبر جمهور عريض موال ينتشر في محافظات عراقية مختلفة، وليس مجموعة حزبية تصنع أنصارها عبر استخدام النفوذ السياسي والاقتصادي الذي تهيئه لها حيازة المناصب في الدولة.
ولم يستفِد التيار الصدري من تجربته في السلطة من ناحية توسيع مساحة التأييد الشعبي له، بل على العكس جلبت له بعض المصاعب؛ فعلاوة على عدم قدرة وزرائه ومسؤوليه على إحداث تغيير حقيقي وملموس في المؤسسات المعنيين بها، واجه التيار التهم ذاتها التي لاحقت بقية الأحزاب السياسية العراقية الأخرى، وهي الفساد والفشل، الأمر الذي أثر على شعبيته سلباً وربما فقد جزءاً منها.
لذلك، ثمة ثلاث فوائد استراتيجية يجنيها التيار الصدري من مشاركته القوية في حركة الاحتجاج ضد الحكومة العراقية، الأولى هي تخلصه من عبء المشاركة في الحكومة، وما يحمله هذا العبء من خسائر معنوية وسياسية. والثانية استرجاعه جزءاً من شعبيته التي فقدها، بل وكسبه دعماً جديداً في الأوساط المحافظة التي تصوت عادة للتيارات الدينية. وقد يعني ذلك زخماً سياسياً أقوى للتيار الصدري في انتخابات ٢٠١٨، ما يقوي موقفه أمام الأحزاب الدينية الشيعية الأخرى، التي تعتبر المنافس الحقيقي له.
أما الفائدة الثالثة، فتكمن في امتلاك التيار الصدري عبر المشاركة بقوة في الاحتجاجات لوسيلة تأثير أقوى على الحكومة والعملية السياسية، أي أنه يستطيع أن يكون مؤثراً وهو خارج الحكومة عبر دعم الاحتجاجات أكثر من قدرته على التأثير عليها وهو في داخلها.
مصير الاحتجاجات ضد العبادي
لم يعد تجاهل الاحتجاجات خياراً متاحاً للحكومة العراقية أو الكتل السياسية في المستقبل، خاصةً أن دخول الصدريين في الاحتجاجات قد حولها إلى مركز ثقل سياسي وأداة ضغط واضحة لإحداث تغيير سياسي جذري، وما يزيد الضغوط هو تحديد الصدر مطالب معينة للإصلاح ضمن سقف زمني محدد (٤٥ يوماً)، وإلا فإن الخطوة القادمة في حال عدم تحقق المطالب هي تصعيد قد يقود الى الإطاحة بالعملية السياسية الحالية.
ويبدو أن الصدر ليس مستعداً للإقدام على عمل غير محسوب النتائج أو يمكن أن يلحق أضراراً قد تكون كبيرة بالعملية السياسية وبالعراق ككل.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الإصلاح بات شعاراً يرفعه الجميع، ابتداءً من المتظاهرين مروراً بالحكومة، فضلاً عن مختلف أطراف التحالف الشيعي، والقوى السياسية الأخرى خارج التحالف. وحتى المرجعية الدينية طالبت بالإصلاح بشكل واضح ومكرر وقوي.
إذن، ثمة اتفاق على أهمية الإصلاح، لكن باستثناء هذا الاتفاق العمومي، ليست هناك فكرة دقيقة أو اتفاق بشأن شكل الإصلاح والخطوات اللازمة لإنجازه. كل الذي يجري الحديث عنه هو مكافحة الفساد، والاستعانة بالتكنوقراط، وتحسين أداء مؤسسات الدولة، خصوصاً الخدمية منها، وإنهاء المحاصصة الطائفية والعرقية التي ساهمت في تكريس الفشل وغياب الشفافية والتهرب من تحمل المسؤولية عن الأخطاء.
وتكمن الخلافات الكبرى في كيفية تحقيق هذه الأهداف الإصلاحية المتفق عليها نظرياً، وهي الخلافات التي أدت، في السابق، إلى إفشال كل مسعى إصلاحي، وهي تهدد بإفشال الحراك الإصلاحي الحالي.
خيارات الخروج من الأزمة
ثمة خيارات مطروحة للخروج من الأزمة الآخذة في التصاعد، أحدها، ويجري الحديث عنه كثيراً، هو تشكيل حكومة من الخبراء (تكنوقراط) بعيداً عن المحاصصة الحزبية والعرقية والطائفية. ويبدو هذا الاقتراح جيداً من الناحية النظرية، لكنه صعب التنفيذ فعلياً، لأنه يعني أنه على جميع الأطراف السياسية التخلي عن مصادر مهمة للنفوذ والقوة عبر المناصب الحكومية التي تُستخدم في العادة لكسب الولاءات السياسية والتأثير على صناعة القرار السياسي.
ومع ذلك، ثمة إمكانية تلوح في الأفق أن تقبل الأطراف السياسية بمثل هذا المقترح شريطةً أن يشمل تطبيقه الجميع بشكل "عادل"، بحيث تكون "الخسارة متوازنة ومتزامنة" لكل الأطراف المشاركة في الحكومة داخل التحالف الوطني وخارجه.
وهنا معنى مصطلح "حكومة التكنوقراط" مهم، ولابد من الاتفاق عليه من أجل إنجاح الإصلاح، فإذا كان المقصود به الوزراء فقط في الحكومة، فلن يكون صعباً على الأطراف السياسية القبول بـ"خسارات متبادلة" للمناصب التي لن تتجاوز 22 منصباً، لأن الخسارة لكل طرف لن تكون كبيرة، وبالتالي فإنه يمكن هضم هذه "التضحية".
ولكن هل ستكون هذه "التضحية" كافية لإقناع الشارع المحتج بالتوقف عن الاحتجاجات؟ وهل يمكن لـ22 وزيراً مختصاً أن يصنعوا فارقاً مهماً وحقيقياً إيجابياً في أداء الدولة في المستقبل القريب مع انتشار المحاصصة ضمن هياكل الدولة جميعها؟ بالتأكيد لا، حيث لن تكون مثل هذه الحكومة مقنعة أو كافية لإسكات الشارع الغاضب الذي سيعتبرها إجراء ترقيعياً، خصوصاً مع عدم تمكنها من إحداث تغيير ملموس على أرض الواقع.
أما إذا كان المقصود بحكومة التكنوقراط الوزراء وكبار موظفي الدولة من وكلاء وزارات ومديرين عامين ومستشارين ومفتشين عامين وخبراء ورؤساء الهيئات المستقلة، الذين يصل عددهم الإجمالي إلى بضعة آلاف، بمعنى أن يُعين هؤلاء على أساس الكفاءة من دون اعتبار للانتماء المذهبي أو العرقي أو الحزبي، فحينها ستكون عملية إصلاح حقيقية تقوض أساس المحاصصة الطائفية والعرقية والحزبية التي قامت عليها العملية السياسية وإدارة الدولة منذ عام 2003 وتسببت في الكثير من الخراب الحالي. فمثل هذه الحكومة ستُلبي مطلباً أساسياً للمحتجين وتعيد شيئاً من الحياة والتفاعل الشعبي الإيجابي لعملية سياسية تعيش "موتاً سريرياً" حالياً.
ولكن هل بإمكان حكومة غير مدعومة سياسياً أن تجري عملية إصلاح جذري شاملة كالتي يطالب بها الشعب؟ وهل ستقبل الأطراف السياسية بمثل هذه الحكومة التي تعني إنهاء نفوذها على الدولة وحرمانها من مصادر الثروة والنفوذ؟
مما لا شك فيه أن عملية إصلاح جذرية كهذه لن تكون سهلة، بل لا يمكن إجراؤها على الأمد القريب أو المتوسط، كذلك فإن الأحزاب الحالية ستتضرر كثيراً منها، لأنها ستفقد معظم كوادرها في مؤسسات الدولة، أو أنهم سيضطرون إلى فك ارتباطهم بها عملياً، أو الاثنين معاً.
ومن ناحيته، أرسل رئيس الوزراء العراقي رسالة إلى الكتل السياسية قبل أيام يطالبها بتقديم مرشحيها لحكومة التكنوقراط، ما يعني أن الحكومة المقبلة لن تكون مستقلة لأن مرشحي الأحزاب سيكونون خاضعين بطريقة أو بأخرى لمن أتى بهم إلى السلطة، وسوف يميلون لصالح الأحزاب التي أتت بهم، ولن يقوموا بأي عمل يمكن أن يقود إلى تقليص نفوذها. ويتوقع أن حكومة كهذه لن تكون قادرة على حل مشاكل العراق ولا يمكن أن نسميها حكومة تكنوقراط.
ولا يبدو أن ثمة حلاً سهلاً للأزمة الحالية من دون تدخل من خارج التحالف الوطني لدفعه لاتخاذ قرارات مؤلمة وجدية تضر بمصالح أطرافه المختلفة، لكنها مفيدة للبلد على الأمدين القصير والبعيد. في السابق كان التدخل الذي يدفع التحالف الشيعي لاتخاذ مواقف موحدة وتجاوز خلافاته يأتي في الغالب من إيران وكذلك من الولايات المتحدة بشكل غير مباشر. غير أن الموقف الإيراني أصبح أكثر تعقيداً بعد مغادرة نوري المالكي رئاسة الوزراء، والذي أحدث انشقاقاً في الساحة السياسية الشيعية.
ومن الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة تؤيد قيادة العبادي ومستعدة لمواصلة دعمها لها، لكنها لن تتمسك بأي شخص غير قادر على قيادة البلد بشكل جيد، فواشنطن تريد من العراق أن يكون حليفاً قوياً لها في المنطقة، واستمراره بهذا الضعف قد جعله يشكل عبئاً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً عليها.
وعليه، تعد مرجعية السيد السيستاني هي القوة الداخلية الأكثر تأثيراً حالياً، والمتوقع أن تتدخل في الوقت المناسب، كما فعلت سابقاً، إذا وصلت العملية السياسية إلى طريق مسدود، والكتل الشيعية تدرك ذلك جيداً. لذلك يُرجح أن تكون هناك مشاورات مستمرة بين القوى السياسية الشيعية المختلفة مع المرجعية الدينية من أجل تحقيق الحد الأدنى من الإصلاح.