على نقيض الاعتقادات والتحليلات الأولية التي ركّزت على الأبعاد السياسية لاحتجاجات إيران، كان الاقتصاد -وفقًا لعدد كبير من المُتابعين- هو المُحرّك الرئيسي للحراك الشعبي الذي كان بمثابة تعبير عن حالة الإحباط المجتمعي من تردي الأوضاع الاقتصادية، وعدم المساواة الاجتماعية، وانهيار آمال قطاعات واسعة من الشعب الإيراني في تحقق الوعود المتتالية للرئيس حسن روحاني بتحسن الأوضاع بعد تطبيق الاتفاق النووي مع الدول الغربية، وهو ما دفع الحكومة الإيرانية مؤخرًا لإعلان عدة إجراءات اقتصادية لاحتواء الاحتجاجات، والاستجابة للحد الأدنى من مطالب المتظاهرين.
تأثيرات الاتفاق النووي:
أدى الاتفاق النووي الإيراني في عام 2015 إلى تصاعد سقف التوقعات لدى المواطنين الإيرانيين؛ إذ كانوا يتوقعون حالة من الانتعاش الاقتصادي، وتراجع معدلات البطالة، والتضخم، والفقر، علاوة على تحسن بيئة ممارسة الأعمال. بيد أن الاقتصاد الإيراني لا يزال يعاني من مجموعة من الاختلالات الهيكلية، بالإضافة إلى استفادة مجموعة محدودة من الإصلاحات الاقتصادية.
وفي هذا الإطار، يشير تقرير البنك الدولي الصادر في أكتوبر 2017 إلى أن الاقتصاد الإيراني قد سجل تحسنًا ملحوظًا في عام 2016، حيث قدر معدل النمو السنوي الكلي بحوالي 13.4%، وذلك على النقيض من عام 2015 الذي شهد تراجعًا بنسبة 1.3%، ويعود هذا الارتفاع بشكل أساسي إلى النمو في القطاع الصناعي بنسبة تبلغ 25%، وارتفاع إنتاج النفط والغاز بعد تخفيف العقوبات بما يُقدر بحوالي 62%.
وعلى الرغم من ذلك فإن معدلات البطالة قد زاد بما يعادل 12.6% في ربيع عام 2017، كما انكمش الاستثمار بمعدل 3.7 ٪ في عام 2016، حيث لم تفلح إجراءات البنك المركزي الإيراني ومجلس النقد والائتمان في تحفيز الاستثمار والنمو في القطاعات غير النفطية، كما بلغ عجز الموازنة في عام 2016 حوالي 2.2% من إجمالي الناتج المحلي، فيما انخفضت نسبة الدين إلى إجمالي الناتج المحلي إلى نحو 35%، وزادت الصادرات النفطية في مقابل انخفاض للصادرات السلعية غير النفطية بنسبة 9% في عام 2016، كما شهدت نموًّا سلبيًّا في بداية السنة المالية لعام 2017.
الدوافع الاقتصادية للاحتجاجات:
تتمثل أهم الدوافع الاقتصادية للاحتجاجات التي تفجرت في إيران فيما يلي:
1- تردي الأوضاع المعيشية: عبرت اللافتات المرفوعة في الاحتجاجات الإيرانية عن أزمات البطالة وغلاء الأسعار والفقر، وعلى الرغم من أن تقديرات البنك الدولي تشير إلى أن البطالة قد بلغت 12.6% في مطلع عام 2017، إلا أن وزير الداخلية الإيراني "عبدالرضا رحماني فضلي" قد صرح في أكتوبر 2017 "بأن نسبة البطالة قد وصلت في المدن إلى 60%"، وتقدر منظمة العمل الدولية نسبة البطالة بحوالي 26.7% بين الشباب الذين يقع عمرهم في الفئة ما بين 15 إلى 24 عامًا.
وعلى الرغم من تعهدات روحاني بتقليل معدلات التضخم، إلا أن تقديرات البنك الدولي تشير إلى أن التضخم قد ارتفع إلى 11.5% في عام 2017 بعدما كان يقدر بحوالي 9% عام 2016، وقد ركزت الاحتجاجات على ارتفاع أسعار عدد من السلع الغذائية أبرزها البيض بنسبة 40%، وأسفر الارتفاع المستمر في أسعار السلع الغذائية عن تراجع استهلاك الأسر لبعض السلع الغذائية، مثل: اللبن، واللحوم الحمراء، والخبز، بنسب تتراوح بين 30% إلى 50% خلال السنوات العشر الماضية، وفقًا لتقديرات البنك المركزي الإيراني في مطلع ديسمبر 2017.
وفي هذا السياق، عادت معدلات الفقر للارتفاع مرة أخرى بعدما شهدت انخفاضًا من 13.1% عام 2009 إلى 8.1% عام 2013، إلا أنها تصاعدت مرة أخرى من بداية عام 2014، وذلك وفقًا لتقديرات البنك الدولي.
وفي هذا الإطار، صرح "برويز فتاح" رئيس لجنة الخميني الإغاثية بإيراني في ديسمبر 2017 بأن "الفقراء الذين تشملهم إعانات لجنة الإغاثة، ومنظمة الرفاه، والجمعيات الخيرية، لا يتجاوز 10 ملايين نسمة، بينما رسميًّا هناك 20 مليون شخص يعيشون تحت خط الفقر، وفي تعريف الدولة ووفقًا لمحاسبتها فهناك 40 مليون شخص يحتاجون إعانات بمبلغ شهري قدره 45 ألف تومان"، ويرجع هذا إلى انخفاض المساعدات الاجتماعية، ورفع الدعم تدريجيًّا عن منتجات الطاقة، وكانت إيران قد استبعدت ما يُقدر بحوالي 7 ملايين إيراني من برنامج الدعم النقدي، كما صرح "على ربيعي" وزير العمل والرفاه الاجتماعي في يناير 2017"بأنه سيتم إرسال إشعار بوقف الدعم النقدي إلى 3 ملايين إيراني عن طريق رسالة نصية".
2- تصاعد عدم المساواة: يُسيطر كل من المؤسسة الدينية والحرس الثوري الإيراني على إدارة الممتلكات العامة. فعلى سبيل المثال، وضعت المؤسسة الدينية قواعد غير واقعية للاستثمار الأجنبي، من ضمنها استخدام الفارسية في المفاوضات والتعاقد، وتغليظ الشروط على عقود الإيجار. وفي هذا الإطار، زادت المخصصات المالية للمؤسسة الدينية في الموازنة المالية الجديدة التي قدمها الرئيس روحاني في ديسمبر 2017. وفي المقابل تم إلغاء الدعم لملايين المواطنين، وتقدمت الحكومة الإيرانية في مشروع موازنتها باقتراح برفع "ضريبة المغادرة" 3 أضعاف، حيث يتعين على كل شخص يرغب في السفر إلى الخارج دفع رسوم قدرها 21 دولارًا، فيما ينص المقترح الجديد على أن يدفع الفرد في رحلته الأولى 61.80 دولارًا، ترتفع لتصل إلى 92.70 دولارًا في الرحلة الثانية، وليقوم بدفع 123.60 دولارًا في الرحلات التالية.
وقد أظهر تقرير التنمية البشرية لعام 2016 الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أن إيران حصلت على 0.774 بمؤشر التنمية البشرية لتحتل بذلك المرتبة 69 من بين 188 دولة على مستوى العالم، بينما شهدت ارتفاعًا في مؤشر عدم المساواة (IHDI) ليصل إلى 0.518، أي تقدر الخسارة التنموية بـ33.1%، وتقدر اللا مساواة في الدخل بحوالي 46.6%، وفي التعليم إلى ما يقارب 37.3%، وفي مدة الحياة المتوقعة بحوالي 10.6%.
3- تعثر القطاع المصرفي: لم تنجح الجهود الإيرانية في إعادة دمج القطاع المصرفي الإيراني، فعلى الرغم من تخفيف العقوبات، إلا أن البنوك الإيرانية قد استمرت خارج نظام التحويلات SWIFT ، وهو ما يُعد معوقًا رئيسيًا أمام الاستثمار الأجنبي وبيئة الأعمال. علاوة على ذلك، أدى انهيار العديد من مؤسسات الإقراض إلى الإضرار بملايين المستثمرين ورجال الأعمال، ويرى بعض المحللين السياسين أن التظاهرات ليست كلها من الفقراء، بل إنها تضم أبناء من الطبقة الوسطى ممن تضررت أعمالهم.
4- تكلفة الصراعات الإقليمية: حملت لافتات المحتجين في إيران عبارات تدين قيام النظام بإعطاء أولوية للإنفاق على الصراع داخل الإقليم، حيث يقدم مساعدات مالية وعسكرية إلى سوريا ولبنان واليمن في حين يعاني المواطنون من تقليص الحكومة للنفقات الاجتماعية، وهو ما دفع المواطنين إلى رفع لافتات مكتوب عليها "اترك سوريا".. "اترك فلسطين وفكر بنا".. "لا غزة ولا لبنان، روحي فداء لإيران".
تداعيات احتجاجات إيران:
تتعدد التداعيات الاقتصادية للحراك الاحتجاجي في إيران، وتتمثل أهم التداعيات التي ترتبت على الاحتجاجات في إيران فيما يلي:
1- ارتفاع أسعار النفط: تصاعدت المخاوف من أن تتطور الآليات الاحتجاجية إلى تخريب مرافق النفط، أو أن يتكرر السيناريو الذي اتّبعه عمال النفط خلال الثورة ضد الشاه في 1979 بالإضراب عن العمل إلى حدّ أن وصلت الصادرات النفطية إلى مستوى صفر، وهو ما أدى لصعود خام برنت إلى 68.17 في 4 يناير 2018 محققًا أعلى مستوياته منذ مايو 2015.
2-ارتفاع الدولار والذهب: يبدو أن اتساع الاحتجاجات كان له تداعيات نفسية على الأفراد دفعتهم إلى تخزين القيمة، مما أدى إلى ارتفاع الذهب والدولار، فقد ارتفع الدولار بنسبة 6% عقب الاحتجاجات، أما سوق الذهب فقد ارتفع بنسبة 9%، وهي النسبة الأعلى منذ أربع سنوات.
3- تراجع سوق الأسهم: كانت سوق الأسهم الإيرانية قد شهدت ارتفاعًا وكسرًا للحواجز لعدة أشهر، إلا أن اتساع الاحتجاجات أعقبه انخفاض حاد في سوق الأسهم بنسبة 3.5%، وفقدت 3300 نقطة خلال أربع جلسات.
4- تزايد عدم اليقين وعدم الثقة: تسفر الاحتجاجات على السياسات الحكومية -بطبيعة الحال- عن ارتفاع عدم اليقين بشأن الاستقرار في الاقتصاد الكلي، والبيئة التشريعية، والإجراءات الحكومية المترتبة على الاحتجاجات. وهو ما يؤدي في المحصلة إلى تراجع ثقة المستثمرين. فضلًا عن أن الاقتصاد الإيراني يعاني أصلًا من تصاعد عدم اليقين بسبب اتجاه ترامب المعارض للاتفاق النووي مع إيران.
ختامًا.. يرجح أن تتبع الحكومة الإيرانية للتعامل مع مرحلة ما بعد الاحتجاجات مسارين رئيسيين، أولهما هو المعالجة الأمنية وتصعيد القمع، مع الدفع بمظاهرات مؤيدة للنظام، دون اتخاذ إجراءات حاسمة لإصلاح الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد، فيما يتمثل المسار الثاني في اعتماد إجراءات قصيرة الأجل لاحتواء غضب المواطنين، وقد تبادر الحكومة إلى تقديم حلول للأزمات المعيشية وعلى رأسها غلاء الأسعار.
وفي هذا الإطار أعلنت لجنة توفيق الموازنة في المجلس أنها قامت بالتصديق على عدم رفع أسعار السلع الأساسية والكهرباء والماء والغاز، بالإضافة إلى الاتجاه إلى إجراء تعديلات على الموازنة، بيد أن هذه الإجراءات لا تعد كافية للمحتجين المطالبين بإنهاء الاحتكار وعدم مساواة، ووقف استنزاف الموارد الاقتصادية لصالح المؤسسات الدينية والحرس الثوري، وقد سبق وأعلن الرئيس روحاني في مطلع شهر ديسمبر، من خلال خطة الموازنة للعام الجديد، أن الحكومة سوف تقدم 3 مليارات دولار دعمًا لقطاع البنوك الذي يعاني من مشكلات الإقراض، بالإضافة إلى برنامج جديد للضمان الاجتماعي بهدف دعم الأسر الفقيرة، فضلًا عن وعده بدخول 840 ألف فرد إلى سوق العمل خلال العام المقبل، إلا أن تلك الوعود لم تنجح في إرضاء المتضررين، بل أعقبتها الاحتجاجات الشعبية الواسعة.