على رغم الصدمة التي مثلها قرار ترامب الأخير فإنه لا يمثل إلا فارقاً في درجة الانحياز الأميركي لإسرائيل، وهو الانحياز الذي بدأ بنشأتها وتواصل حتى الآن، ولم يحدث طوال سبعة عقود أن اختلفت السياسة الأميركية مع نظيرتها الإسرائيلية وفرضت وجهة نظرها إلا مرة واحدة في التعامل مع نتائج العدوان الثلاثي على مصر الذي شاركت فيه إسرائيل عام 1956، فقد أصر الرئيس الأميركي أيزنهاور آنذاك على انسحابها الكامل من سيناء وغزة ففعلت صاغرة. وفي العقد الماضي بدأنا نلاحظ زيادة التماهي بين السياستين الأميركية والإسرائيلية انطلاقاً من اعتبارات الواقع بالتجاهل التام للاعتبارات القانونية، ففي 2004، على سبيل المثال، صرح الرئيس الأميركي جورج بوش الابن بأن تفكيك المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة لم يعد عملياً! وها هو ترامب يستخدم الأمر الواقع في تبرير اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، فمن وجهة نظره هي فعلياً كذلك، وبالتالي فإن عدم الاعتراف بهذا الوضع لا معنى له، وكأنه لا يوجد في العالم شيء يُسمى القانون الدولي والقرارات الدولية! ومن المؤكد أن تداعيات قرار ترامب لا تنسحب على الصعيد القانوني فاعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل لا يغير من وضعها القانوني شيئاً، فهي من وجهة نظر المجتمع الدولي ومنظومته القانونية كيان دولي بموجب قرار تقسيم فلسطين 1947. وهي بموجب القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة أرض محتلة بالقوة يتعين الانسحاب منها، ولكن التحدي الذي يمثله قرار ترامب بالنسبة للفلسطينيين والعرب تحدٍّ سياسي بالدرجة الأولى، فأن يحسم ترامب بجرة قلم مصير المسألة الأخطر والأهم في الصراع لصالح إسرائيل يعني أنه فقد أبسط شروط الوسيط في عملية التسوية السلمية للصراع العربي- الإسرائيلي، وبالتالي لابد أن ينتهي دوره في هذا الصدد، ولكن المشكلة أنه لا يوجد طرف دولي آخر قادر على الضغط على إسرائيل، فما العمل؟
مشكلة الفلسطينيين والعرب إذن أن الدولة الوحيدة القادرة على الضغط على إسرائيل غير راغبة في ذلك لاعتبارات داخلية وخارجية، أما الدول والقوى الأخرى كروسيا والصين والاتحاد الأوروبي فحتى لو كانت راغبة في الضغط على إسرائيل فهي غير قادرة على ذلك أو بالأحرى ليست قادرة بما يكفي لحل مشكلاتنا معها. ولذلك لا يبقى أمام الفلسطينيين والعرب سوى تطبيق القول المأثور «ما حك جلدك مثل ظفرك، فتولَّ أنت جميع أمرك»، فليس ثمة مخرج من الوضع الراهن، سواء بالنسبة للقدس أو لغيرها من قضايا الصراع، سوى أن يغير الفلسطينيون والعرب ما بأنفسهم حتى يغير الله حالهم، وعلى هذا الأساس لم يعد مقبولاً تحت أي ذريعة ألا تكتمل المصالحة الفلسطينية. صحيح أن حركات التحرر الوطني قد عانت كثيراً من الانقسام ولكن أياً منها لم يكن يواجه خطر اجتثاث كهذا الذي يواجهه الشعب الفلسطيني، ولذلك فمن العار ألا تكتمل المصالحة الفلسطينية فوراً مهما كانت العقبات تمهيداً لوضع استراتيجية وطنية موحدة لاسترداد الحقوق الفلسطينية تستخدم كل أدوات النضال المتاحة. ولمن يتخوفون من مجرد استخدام كلمة المقاومة نقول إن المقاومة ليست بالسلاح فقط، ولمن يستخفون بأدوات المقاومة غير المسلحة نقول إن الهند تحررت باستراتيجية سلمية 100 في المئة. وبعد المصالحة الفلسطينية وتبني استراتيجية موحدة للنضال يأتي دور الظهير العربي دبلوماسياً ومالياً وإعلامياً والأفق مفتوح لكل صور المساندة، وقد انتفض الشعب الفلسطيني بعد قرار ترامب، ولكننا نتحدث عن استراتيجيات وليس ردود أفعال.
وليس معنى ما سبق بطبيعة الحال إهمال التحرك الدولي فهو يبقى بالغ الأهمية من أجل محاصرة قرار ترامب حتى لا تمتد عدوى الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل إلى غيره وبالذات من بين الدول ضعيفة الإمكانات التي يمكن التأثير عليها. وكذلك من أجل توفير أقصى دعم سياسي واقتصادي للشعب الفلسطيني وإحكام الحصار على إسرائيل وزيادة الضغط عليها بما يسهل مهمة النضال الفلسطيني إلى أقصى حد ممكن. ولعل الجانب الإيجابي الوحيد لقرار ترامب من هذا المنظور أنه أظهر ما يشبه وحدة العالم على رفض المساس بالوضع القانوني الراهن للقدس، ولابد من استغلال هذا الظرف المواتي من أجل بناء موقف دولي أفضل من وجهة النظر الفلسطينية والعربية يعيننا على التوصل إلى تسوية متوازنة تحقق أهداف النضال الفلسطيني.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد