صرح الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"، يوم السادس من ديسمبر 2017، باعتراف الولايات المتحدة بالقدس كعاصمة لدولة إسرائيل، معللًا ذلك بأنها خطوة قد طال تأجيلها وانتظارها، وأنها تؤسس لمنهج أمريكي جديد في التعامل مع الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. وأشار إلى أن هذا الاعتراف يأتي في صالح إرساء السلام والاستقرار بالمنطقة، وأن الولايات المتحدة لا تزال عازمة على تطبيق حل الدولتين، والتأسيس لدولة فلسطينية، كما أنه لم يحدد في خطابه نسبة مساحة القدس التي يحق لإسرائيل السيطرة عليها، مما قد يترك فرصة على الصعيد النظري لاتخاذ القدس الشرقية عاصمةً لدولة فلسطينية مستقلة.
فقد جاء القرار بالرغم من رفض أقرب حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط لهذه الخطوة، وتحذيرهم من عواقبها. فقد أفادت تقارير أردنية بأن الملك "عبدالله الثاني" حذر "ترامب" شخصيًّا من عواقب الاعتراف الأمريكي بالقدس كعاصمة إسرائيل على أمن واستقرار الإقليم، كما عبر عاهل السعودية الملك "سلمان بن عبدالعزيز"، بحسب التقارير الإعلامية، عن هذه المعاني أيضًا في محادثة هاتفية مع "ترامب". وعقب إعلان القرار، نددت السلطات المصرية والسعودية والإماراتية والقطرية والتركية به، بالإضافة إلى دول أوروبية حليفة للولايات المتحدة مثل فرنسا وألمانيا.
وبينما يأتي قرار "ترامب" مخالفًا للإجماع الدبلوماسي الدولي حول القدس، وخارجًا عن النص الذي تبنته الإدارات الأمريكية السابقة؛ فإن ذلك يطرح السؤال عن دوافع "ترامب" في اتخاذه لهذا القرار، وهو ما يتضح من خلال تحليله في إطار الشأن الداخلي الأمريكي، والقاعدة الانتخابية لـ"ترامب"، وعلاقات إدارته الوثيقة بإسرائيل، بالإضافة إلى اتساقه مع شخصية "ترامب" وأسلوبه.
اليمين المسيحي:
يُعد تيار اليمين المسيحي الأبيض القوام الرئيسي لمؤيدي "دونالد ترامب"، حيث تشير تقديرات مركز "بيو" إلى أن حوالي 75% من المنتمين لليمين المسيحي التبشيري أصحاب البشرة البيضاء قد منحوا أصواتهم لـ"دونالد ترامب" في انتخابات 2016، بينما حازت المرشحة "هيلاري كلينتون" 18% فقط من أصوات تلك الفئة. وتتسم الكتلة الحرجة من هذا التيار بالميل إلى تفسيرات محافظة، إن لم تكن متشددة، للمسيحية تمزج ما بين التأويل المحافظ للكتاب المقدس والقومية الأمريكية، والفخر بالانتماء الأنجلو-ساكسوني العرقي. كما يشوب هذا التيار، وفقًا للعديد من منتقديه، التعصب الديني والعرقي، والتسامح مع السلطوية والرأسمالية المتوحشة وعنف الدولة الأمريكية في سياستها الخارجية.
وأوضحت استطلاعات مركز "بيو" أن اليمين المسيحي التبشيري الأبيض هو أكثر التيارات الدينية تعصبًا ضد الإسلام والمسلمين، حيث يؤمن 63% من المنتمين لهذا التيار بأن الإسلام هو أكثر الأديان حثًّا على العنف، ويرى 51% منهم أن هناك نسبة مرتفعة من التطرف في أوساط المسلمين الأمريكيين. كما يؤمن أكثرهم بأن الإسلام لا ينتمي للنسيج الوطني الأمريكي (67%)، وأن هناك خلافًا جذريًّا بين الإسلام والديمقراطية (72%).
وعلاوة على العداء للإسلام فإن اليمين المسيحي الأبيض من أشد التيارات الأمريكية تأييدًا لدولة إسرائيل؛ حيث إن المنتمين لهذا التيار يُنفقون ما يعادل نصف مليون دولار على السياحة الإسرائيلية والأعمال الخيرية الداعمة لها سنويًّا. وحسب استطلاع لمركز "بيو" فإن 82% من المنتمين لليمين المسيحي التبشيري يؤمنون بأن الله قد منح إسرائيل للشعب اليهودي، بينما يؤمن أقل من نصف اليهود الأمريكيين بهذا المبدأ.
وقد أشار استطلاع لبلومبيرج إلى أن ما يقرب من 60% من اليمين المسيحي يعتقد بوجوب التأييد الأمريكي لإسرائيل حتى في حالة تعارض المصالح الإسرائيلية والأمريكية. والجدير بالذكر أن استطلاع رأي لمؤسسة "بروكنجز" رصد أن ثلثي اليمين المسيحي التبشيري يرون أن سياسات "ترامب" منحازة لإسرائيل؛ إلا أن نسبة تأييد اليمين المسيحي لنقل السفارة الأمريكية للقدس هي 53%، مقابل 40% من المعارضين لذلك من نفس التيار، وهي نسبة تأييد تبدو منخفضة وضعيفة مقارنة بالأرقام المذكورة سابقًا.
وينعكس تأييد اليمين المسيحي المعنوي والمالي لإسرائيل على الوسط الجمهوري بشكل خاص، حيث أصبح الحزب الجمهوري، حسب تقدير العديد من المحللين، معبرًا بشكل كبير عن أجندة اليمين المسيحي الأبيض. كما أن هناك وجودًا مؤثرًا لليمين المسيحي في إدارة الرئيس "دونالد ترامب"، ويُعد نائب الرئيس "مايك بينس" من أبرز رموزه.
وقد وعد "ترامب" أثناء حملته الانتخابية في خطاب أمام "الإيباك" (AIPAC) بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس في حالة توليه السلطة، للتأكيد على نصرته لإسرائيل أمام اليمين المسيحي وجماهير مؤيديه، ولجذب الداعمين المحتملين لحملته.
أمن إسرائيل:
يأتي على رأس الداعمين لـ"ترامب" الملياردير "شيلدون أديلسون"(Sheldon Adelson) ) صاحب أضخم التبرعات لحملة "ترامب" الانتخابية بمبلغ 35 مليون دولار، والمعروف بتوجهاته الصهيونية الصريحة، والذي أعرب عن عدائه الصريح للقضية الفلسطينية، قائلًا بأن الحافز الوجودي الأول للشعب الفلسطيني هو تدمير إسرائيل. وقد أفادت بعض التقارير بأن "أديلسون" كان يستشيط غضبًا من تصريح وزير الخارجية الأمريكي "ريكس تليرسون" بأن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس مرهون بتقدم عملية السلام، كما أفادت التقارير بأن "أديلسون" نصح "ترامب" بعدم التفاوض مع الفلسطينيين لكونهم غير عقلانيين في مطالبهم وأهدافهم.
وتوطدت العلاقة بين إدارة "ترامب" وإسرائيل أيضًا من خلال صهره "جاريد كوشنر" الذي ترعرع في عائلة يهودية ثرية ذات صلات وطيدة بإسرائيل، وتتجسد تلك العلاقة في تبرعات تقدر بالملايين لدعم الدولة اليهودية، بما في ذلك دعم المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة بالضفة الغربية. ومن الجدير بالذكر أن هناك صلات شخصية تجمع بين والد كوشنر ورئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" الذي مكث كضيف في منزل آل كوشنر بصفة شخصية.
وقد تجلت تلك العلاقات في تقارير تكشف عن مشاركة "كوشنر" وأعضاء آخرين من حملة "ترامب"، منهم مستشار "ترامب" السابق للأمن القومي "مايكل فلين"، في محادثات سرية تمت بين إدارة "ترامب" ودول مختلفة، على رأسها روسيا، لمحاولة ثني تلك الدول عن تأييد مسودة قرار صادر من مجلس الأمن بالأمم المتحدة يدين المستوطنات الإسرائيلية، في الفترة التي سبقت تولي "ترامب" منصب الرئيس رسميًّا.
شخصية "ترامب":
يُجمع المحللون على أن أسلوب "ترامب" الصادم، واعتماده على عنصري العفوية والمفاجأة، حققا له اهتمامًا جماهيريًّا كبيرًا أثناء الحملة الانتخابية، مما ساهم في وصوله إلى البيت الأبيض، وهو يعمد إلى تكرار نفس الأسلوب بعد توليه الحكم للإبقاء على الروابط مع قاعدته الانتخابية من جانب، وللإلهاء عن المشاكل التي يواجهها، ومنها استمرار التحقيقات بشأن الصلات بين فريقه الانتخابي وروسيا، وفشله في تمرير بعض التشريعات المحورية لبرنامجه، وبرنامج الحزب الجمهوري، مثل التشريع الخاص ببرنامج الرعاية الصحية.
وتُعد الضجة الكبيرة التي صاحبت قرار نقل السفارة حول العالم، رغم سلبيتها، حدثًا إيجابيًّا من وجهة نظر "ترامب"، وتأكيدًا على أهميته وسيطرته الشخصية على السياسة الخارجية الأمريكية. ويطرح البعض احتمال أن "ترامب" يهدف من ذلك لتكثيف الضغوط على الفلسطينيين لقبول شروط السلام التي يمليها عليهم، تمهيدًا للوصول إلى اتفاقية تحسب لـ"ترامب" كإنجاز تاريخي يكرس من صورته كزعيم تاريخي.
معضلة طهران:
أما بالنسبة للدلالات بالنسبة لرؤية "ترامب" للشرق الأوسط. فعلى المستوى البراجماتي، يشير قرار "ترامب" إلى أنه يرى أن الصراع الأساسي في المنطقة الآن هو بين الدول العربية السنية وإيران، وأن الأولى لذلك على استعداد للتقارب مع إسرائيل، كما أنها بحاجة إلى الدعم الأمريكي في هذه المواجهة، وبالتالي فإن النظم والحكومات سوف تتقبل هذا القرار، ولو ضمنيًّا. ويؤكد ذلك ما دللت عليه مواقف "ترامب" مرارًا من عدم درايته بتعقيدات الأوضاع الدولية، حيث إن اهتمامه ينصب في الأساس على الداخل، وعلى صورته لدى قاعدته الانتخابية تحديدًا.
لكن القرار له دلالات أيضًا على المستوى الأيديولوجي، وهو يشير إلى تحيز واضح للتوجهات اليمينية المسيحية المتعصبة، والتي تنطوي على عداء واضح أحيانًا ومستتر في أحيان أخرى، للعرب والمسلمين. وهذه الخلفية الأيديولوجية تدفع في اتجاه سياسات معادية للمهاجرين، وقد تدفع في اتجاه قدر أكبر من تجاهل مصالح وأولويات الدول الإسلامية.