يبدو أن التوتر سوف يتصاعد تدريجيًا بين فرنسا وإيران خلال المرحلة القادمة، خاصة بعد أن تجاوزت الخلافات العالقة بين الطرفين الاتفاق النووي وبدأت تمتد إلى القضايا الأخرى غير النووية، على غرار برنامج الصواريخ الباليستية والأدوار التي تقوم بها الميليشيات الطائفية الموالية لإيران الموجودة في بعض دول المنطقة، وفي مقدمتها ميليشيا "الحشد الشعبي" في العراق.
فقد دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال لقاءه رئيس إقليم كردستان نيجرفان بارزاني، في باريس في 2 ديسمبر 2017، إلى تفكيك كل الفصائل المسلحة بما فيها ميليشيا "الحشد الشعبي"، مشيرًا إلى أنه تحدث مع رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي حول هذا الملف من قبل.
ومن دون شك، فإن هذه الدعوة لن تلق تجاوبًا من جانب إيران، التي ما زالت تعتبر أن استمرار الميليشيات الطائفية دون تفكيكها حتى بعد إعلان العبادي الانتصار على تنظيم "داعش" يمثل آلية رئيسية لدعم نفوذها الإقليمي داخل كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن وغيرها من الدول، وهو ما يبدو أن سوف يفرض تداعيات سلبية على العلاقات بين الطرفين خلال المرحلة القادمة.
اعتبارات عديدة
لكن استياء إيران من دعوة ماكرون إلى تفكيك الميليشيات المسلحة في العراق لا يعود فقط إلى ارتباط ذلك بتدخلاتها في الأزمات الإقليمية بالمنطقة، وإنما يعود أيضًا إلى اعتبارات ثلاثة رئيسية: يتمثل أولها، في أن ذلك معناه أن باريس باتت ترى أن الدور الإيراني في العراق يفرض تأثيرات سلبية على أمن واستقرار الأخيرة، بما يوحي باقتراب موقفها، نسبيًا، من السياسة التي تتبناها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في هذا السياق.
وهنا، أبدت اتجاهات عديدة داخل إيران اهتمامًا خاصًا بالتزامن اللافت بين مبادرة ماكرون الجديدة والتحذيرات التي وجهها مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية مايك بومبيو إلى قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري قاسم سليماني، في 2 ديسمبر 2017، من تداعيات تعرض المصالح الأمريكية في العراق لأية تهديدات محتملة خلال الفترة القادمة، حيث أشار في ندوة عقدت بـ"منتدى ريغان" للدفاع الوطني بجنوب كاليفورنيا إلى أنه "بعث بالرسالة عندما قال قائد عسكري إيراني أن القوات التي تحت إمرته قد تهاجم القوات الأمريكية في العراق"، مضيفًا: "ما تحدثنا عنه في هذه الرسالة هو أننا سنحمله (سليماني) وإيران مسئولية أى هجوم على المصالح الأمريكية في العراق".
ورغم أن إيران حاولت التقليل من تأثير هذه التحذيرات الأمريكية، التي جاءت ردًا على التهديدات التي وجهها قائد الحرس الثوري محمد علي جعفري لواشنطن، في 8 أكتوبر الماضي، بإبعاد قواعدها لأكثر من 2000 كيلو متر في حالة إقدامها على تصنيف الحرس الثوري كمنظمة إرهابية، من خلال الإيحاء بأن "سليماني لم يرد عليها"، إلا أن ذلك لا يعني أنها لم تهتم بها، خاصة أن أى تهديد جدي للمصالح الأمريكية في العراق يزيد من احتمال تطور التصعيد الحالي بين واشنطن وطهران إلى درجة غير مسبوقة سوف تطرح معها خيارات أخرى لا تبدو إيران في وارد المغامرة بمواجهتها في المرحلة الحالية، وفي مقدمتها خيار المواجهة العسكرية.
ولذا اعتبرت تلك الاتجاهات أن هذا التزامن بين التصعيد الأمريكي والدعوة الفرنسية ربما يؤشر إلى سياسة جديدة تتبناها الدول الغربية من أجل ممارسة ضغوط على إيران ليس فقط للالتزام بالاتفاق النووي، وإنما أيضًا للتوقف عن تدخلاتها في المنطقة، ودعمها للتنظيمات الإرهابية والمسلحة الموجودة في بعض دولها.
مواجهة حزب الله
وينصرف ثانيها، إلى أن هذه المبادرة جاءت عقب اندلاع الأزمة السياسية اللبنانية التي تسببت فيها مشاركة حزب الله في الصراع السوري لخدمة أهداف إيران في الحفاظ على بقاء النظام السوري ودعم نفوذها داخل سوريا ولبنان وربما في دول أخرى مثل اليمن، فضلاً عن دوره في تهديد أمن واستقرار بعض الدول الأخرى، مثل الكويت والبحرين.
وهنا، فإن إيران لم تفصل بين تلك الدعوة وبين الضغوط التي تمارسها قوى إقليمية ودولية عديدة في الفترة الحالية من أجل دفع حزب الله إلى الالتزام بالسياسة العامة التي تتبناها لبنان، وخاصة فيما يتعلق بـ"النأى بالنفس" عن الصراع في سوريا والأدوار السلبية التي تقوم بها إيران في المنطقة، وهى الضغوط التي ترى طهران أن هدفها الرئيسي يكمن في إضعاف دورها وتقليص قدرتها على ترسيخ نفوذها داخل دول الأزمات.
وربما لا تفصل إيران ذلك أيضًا عن التطورات الميدانية التي تشهدها اليمن منذ بداية ديسمبر الحالي عقب المواجهات التي تصاعدت بين حزب المؤتمر الشعبي الذي كان يقوده الرئيس السابق علي عبد الله صالح قبل اغتياله في 4 ديسمبر، والمتمردين الحوثيين، خاصة في ظل دعوة القوى الدولية إلى ضرورة التزام الحوثيين بقرار مجلس الأمن رقم 2216، واتجاه فرنسا تحديدًا إلى التركيز على التهديدات التي توجهها الحركة إلى دول الجوار، والذي انعكس في تنديدها بإقدامها على إطلاق صاروخ باليستي على الرياض في 4 نوفمبر الماضي، وتأكيدها على أن ذلك يبرهن على وجود خطر من انتشار الصواريخ الباليستية على نطاق واسع في المنطقة، في إشارة إلى برنامج الصواريخ الباليستية الذي ترفض إيران التوقف عن اتخاذ مزيد من الخطوات الخاصة بتطويره رغم تعارض ذلك مع الاتفاق النووي.
ملف كردستان
أما ثالثها، فيتعلق بإعلان تلك الدعوة خلال زيارة رئيس إقليم كردستان إلى باريس، وهو ما دفع إيران أيضًا إلى الربط بينها وبين الجهود التي تبذلها بعض القوى الدولية من أجل تسوية الأزمة العالقة بين الإقليم والحكومة المركزية في بغداد بعد الإجراءات التي اتخذتها الأخيرة من أجل منع تحويل نتائج الاستفتاء على استقلال الإقليم الذي أجرى في 25 سبتمبر الماضي إلى خطوات إجرائية على الأرض، بشكل قد لا يتوافق بالضرورة مع حسابات إيران والأطراف الأخرى التي تتخذ نفس سياستها المتشددة تجاه استقلال الإقليم، وفي مقدمتها تركيا والحكومة العراقية.
وعلى ضوء ذلك، ربما يمكن القول في النهاية إن التوتر سوف يتحول إلى سمة رئيسية في التفاعلات بين طهران وباريس خلال المرحلة القادمة، خاصة في ظل إصرار الأولى على تبني سياسة تصعيدية للتعامل مع الضغوط التي تواجه جهودها من أجل دعم نفوذها في المنطقة، والذي بات أحد أهم أسباب انتشار الفوضى وعدم الاستقرار في بعض دولها.
وربما لن تكتف طهران في هذا الإطار بدعم المواقف الرافضة التي اتخذتها العديد من الشخصيات والقوى العراقية الموالية لها تجاه دعوة ماكرون، على غرار نائب الرئيس العراقي نوري المالكي الذي اعتبرها مساسًا بسيادة العراق ومؤسساتها وتدخلاً فرنسيًا في شئونها الداخلية، وإنما قد تتجه إلى التدخل في هذا الجدل من أجل توجيه رسائل إلى باريس والأطراف الأخرى بأنها لن تتعاطى بإيجابية مع مثل هذه المبادرات التي ترى أنها الطرف الرئيسي المستهدف منها.