المسألة بسيطة وواضحة. تصنعُ مصيرَك بنفسك أو يصنعُه الآخرون لك. تبنيه وفق مصالحك وتطلعاتك ومسؤولياتك أو يبنيه الآخرون لك وفق مصالحهم وحساباتهم. تعيش في عالم شاركت في صناعته أو تعيش في عالم صنعه الآخرون. وما يُصنع في غيابك يُصنع غالباً على حسابك.
والمقصود بمصيرك أمنك واستقرارك واقتصادك وموقعك في الإقليم الذي تنتمي إليه وعلاقتك بالعالم الذي تشكل جزءاً منه. لم يعد باستطاعتك إغلاق حدودك أو نوافذك. مصيرك لا ينفصل عن مصير جيرانك ومن هم أبعد منهم. إننا في عالم متداخل تتدفق فيه الأفكار بلا استئذان أو ترخيص. لن تنعم خريطتك بالهدوء إذا كانت الخريطة المجاورة مريضة أو مستباحة. ثم إن جيوش الظلام تتسلل عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والشاشات والمنصات. لن تستطيع هندسة حل داخل حدودك وغسل يديك مما يجري في العالم.
لهذا نريد الاعتقاد أن اجتماع وزراء الدفاع في «التحالف الإسلامي لمكافحة الإرهاب» في الرياض أمس هو تعبير عن أن العالم الإسلامي قرر الإمساك بمصيره. وقرر وضع خطة جماعية شاملة لمواجهة سرطان الإرهاب الذي كلما عولج في ناحية، سارع إلى الانتشار في أخرى. وآخر رسائل هذا السرطان كانت مروعة وشديدة التعبير.
تكسر القلب روايات الناجين من «مذبحة المصلين» في قرية الروضة في العريش عاصمة محافظة شمال سيناء. اختلط لديَّ الحزن بالغضب وأنا أقرأ ما قاله المواطن عيد شريفات لصحيفتنا. قال: «معظم أصدقائي وزملائي بالقرية قُتلوا في المسجد. سكرتير مجلس القرية المحلي قُتل أيضاً. ثلاثة أرباع رجال القرية وشبابها وذكورها من الأطفال قضوا في الحادث». وأوضح أن عائلته وحدها خسرت عشرين رجلاً في المذبحة التي فاق عدد ضحاياها ثلاثمائة قتيل بينهم 27 طفلاً.
تكسر الروايات القلب. إنها مذبحة مروعة. ومسرحها داخل المسجد. ووحشية تنفيذها فاقت ما تفتقت عنه أكثر المخيلات خصوبة في أفلام الرعب. تثير الوقائع الحزن وتثير الغضب أيضاً. إنه الإصرار على استهداف مصر في أمنها واستقرارها واقتصادها. إصرار على منع مصر من التقاط أنفاسها. ومن حسن الحظ أن مصر بشعبها وجيشها وسائر مؤسساتها ليست في وارد الانحناء أمام هذه الموجة المجنونة. موجة تعيد التذكير بأن الإرهاب من أسلحة الدمار الشامل، وأن ينابيع التطرف هي ينابيع الدمار الشامل. ولا مبالغة في القول إن «مذبحة المصلين» قابلة للتكرار في أكثر من مكان، ذلك أن الإرهابيين درجوا على انتهاك كل أنواع الحدود والحرمات.
شاءت المصادفة أن تأتي مذبحة الروضة قبل يومين من الاجتماع الأول لـ«التحالف الإسلامي لمكافحة الإرهاب». لا يحتاج من شاركوا إلى من يذكرهم بويلات الإرهاب. لم يعد ثمة مكان لأي غموض. العالم الإسلامي هو الهدف الأول للإرهاب وهو الخاسر الكبير من حروب الإرهابيين. صحيح أن هذا الإرهاب استهدف مدناً وعواصم غربية بعيدة، لكن الصحيح أيضاً هو أن هدفه الأول والأخير هو استباحة العالم الإسلامي نفسه بعد قطع الشرايين التي تربطه بالعالم.
لا خيار أمام العالم الإسلامي غير خيار اجتثاث الإرهاب وإغلاق ينابيع التطرف. هذه المعركة يجب أن تكون البند الأول في برنامج كل الحكومات. وأن تسخر لها الإمكانات اللازمة والخبرات الضرورية ومعها التعاون الفعلي مع الدول الأخرى المدركة لأهمية كسب هذه المعركة. الانتصار هنا أكثر من ضروري. من دون إلحاق الهزيمة بالإرهاب والتطرف لا يمكن بناء دولة طبيعية. ولا بناء اقتصاد طبيعي. ولا يمكن الحديث عن الاستقرار والاستثمار.
لا يفتقر العالم الإسلامي إلى الموارد. كانت المشكلة نقص الإرادة. والاستسلام لمنطق الهدنات أو الحساسيات والتجاذب حول الأدوار. لم تعد دول العالم الإسلامي تملك رفاهية الانتظار تحت هذا النوع من الأعذار. لا يمكن الذهاب إلى المستقبل من دون بناء دول ومؤسسات، ومن دون تنمية شاملة وتعليم عصري واللحاق بالثورات التكنولوجية المتسارعة. والإرهاب والتطرف هما العدو الأول للدولة الطبيعية التي لا يمكن أن تقوم إلا على حكم القانون والاعتراف بالآخر المختلف داخل الخريطة وخارجها.
لا يعقل أن يسارع العالم الإسلامي إلى الاستجارة بالدول الكبرى كلما نجح الظلام في تشييد بؤرة على أراضيه. لا يحق لنا الاتكاء على الآخرين ثم التذمر من تدخلاتهم واختلاف مقارباتهم.
نريد أن نعتقد أن اجتماع الرياض يؤسس لمواجهة شاملة مع الإرهاب وحتى «يختفي تماماً من على وجه الأرض»، على حد ما قال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في كلمته الافتتاحية. ونريد أن نعتقد أن الدول المشاركة سترسي قواعد تعاون وتعاضد على المستويات «العسكرية والمالية والاستخباراتية والسياسية». ومواجهة الإرهاب لا يمكن إلا أن تكون شاملة، وبحيث يمكن إزالة آثار استباحته للعقول والكتب والمساجد والشاشات وكل المنصات.
ليس المقصود القول إن الإرهاب هو المشكلة الوحيدة التي تواجه العالم الإسلامي. في هذا العالم مشاكل كثيرة قديمة وجديدة سياسية واقتصادية واجتماعية. المقصود هو أن مكافحة الإرهاب والتطرف شرط لا بدّ منه لمعالجة المشكلات الأخرى. لقد سمم التطرف والإرهاب العلاقات بين المكونات داخل الخرائط. وسمم أيضاً العلاقات بين الدول الإسلامية نفسها. وسمم العلاقات بين الدول الإسلامية والعالم.
لا يمكن الحديث عن مستقبل لشعوبنا وأطفالنا ما لم نتحول إلى جزء طبيعي من العالم. لا نستطيع أن نكون جزيرة مقفلة تتداوى من أمراض العصر بأعشاب الماضي. صحيح أن الجزء المتقدم من العالم يريد أسواقنا، لكن الصحيح أيضاً أننا نحتاج إلى ثمار مختبراته وأبحاثه، ونحتاج أيضاً تقدمه التكنولوجي المذهل واستثماراته. لقد اعتقل الخوف من الإرهابيين والمتطرفين طاقات الدول الإسلامية وحرمها من الاستقرار والاستثمار والازدهار. لهذا تبدو المعركة الحالية معركة مستقبل العالم الإسلامي.
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط