رغم أن الاتفاق النووي، الذي تم التوصل إليه في منتصف يوليو 2015، ساهم في تحسن العلاقات بين إيران والقوى الدولية، خاصة بعد اتجاه بعض تلك القوى إلى توقيع صفقات اقتصادية جديدة مع إيران، إلا أن ذلك لم يدفع الأخيرة إلى إجراء تغيير في سياستها إزاء القضايا العالقة ببعض مزدوجي الجنسية وعدد من الأجانب الذين تم توقيفهم في الفترة الماضية بتهم منها التجسس أو محاولة قلب نظام الحكم.
ففي هذا السياق، أشارت تقديرات عديدة إلى أن الحرس الثوري يعتقل أكثر من ثلاثين شخصًا يحملون جنسيات أجنبية خلال المرحلة التالية على الوصول للاتفاق النووي، بعد أن كان هذا العدد لا يتعدي حاجز العشرة في المرحلة السابقة على ذلك، وأن 19 شخصًا منهم يحملون جنسيات أوروبية، بعد أن كان معظم المعتقلين من الأمريكيين الذين ينحدرون من أصول إيرانية.
ورغم أن اتجاهات عديدة اعتبرت أن ذلك يعود، في قسم منه، إلى عدم اعتراف إيران بازدواج الجنسية بشكل يفرض قيودًا وضغوطًا أكبر على المعتقلين ويدفع القوى الدولية إلى إتباع سياسة حذرة في هذا السياق، إلا أن ثمة عوامل أخرى يمكن من خلالها تفسير إصرار إيران دومًا على تبني سياسة متشددة تجاه هذا الملف تحديدًا، لا ترتبط فقط باتجاهات علاقاتها مع القوى الدولية، وإنما تتصل أيضًا باستمرار الخلافات بين مؤسساتها الرئيسية، خاصة الحكومة والحرس الثوري حول العديد من القضايا المرتبطة بالاتفاق النووي.
اعتبارات عديدة:
يمكن تفسير تزايد عدد القضايا الخاصة بمزدوجي الجنسية والأجانب في إيران في ضوء اعتبارات رئيسية ثلاث هي:
1- امتلاك أوراق ضغط: سعت إيران باستمرار إلى تعزيز موقعها التفاوضي في مواجهة القوى الدولية، من خلال البحث عن أوراق ضغط تستطيع الاستناد إليها في تفاعلاتها مع تلك القوى، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، حيث استغلت حرص الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة باراك أوباما على دعم فرص الوصول إلى صفقة نووية من أجل ممارسة ضغوط عليها للحصول على أكبر قدر من المكاسب التي يمكن أن تفرضها تلك الصفقة.
وقد كان لافتًا أن إيران توصلت مع إدارة أوباما إلى صفقة لتبادل السجناء في 16 يناير 2016، وبالتوازي مع رفع العقوبات الدولية التي كانت مفروضة عليها عقب تأكيد الوكالة الدولية للطاقة الذرية أنها تلتزم بالبنود التي تضمنها الاتفاق.
ويبدو أن هذا الهدف تحديدًا يكتسب أهمية خاصة لدى إيران في الوقت الحالي، في ظل تصاعد حدة التوتر في علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، بعد إعلان الأخيرة عن استراتيجيتها الجديدة لمواجهة تهديدات برنامجها النووي ودورها الإقليمي، واستمرار احتمالات إقدامها على الانسحاب من الاتفاق النووي في مرحلة لاحقة، في ظل تأكيدها على أنه لا يتوافق مع المصالح الأمريكية ولا يوقف، حسب رؤيتها، طموحات إيران في الوصول إلى مرحلة امتلاك القدرة على إنتاج الأسلحة النووية.
2- الحفاظ على المصالح الاقتصادية: يبدو أن الحرس الثوري ما زال يرى أن الاتفاق النووي قد يفرض تداعيات سلبية على مصالحه الاقتصادية، خاصة بعد دخول العديد من الشركات الأجنبية إلى السوق الإيرانية في الفترة الماضية، على غرار شركة "توتال". ومن هنا، ربما يسعى الحرس من خلال تبني سياسة أكثر تشددًا في هذا الملف تحديدًا إلى دفع الشركات الأجنبية إلى العزوف عن الانخراط في صفقات اقتصادية مع الحكومة الإيرانية.
وبعبارة أخرى، فإن الحرس يحاول من خلال ذلك عرقلة الجهود التي تبذلها حكومة الرئيس حسن روحاني من أجل الحصول على أكبر قدر من العوائد الاقتصادية للاتفاق النووي، من خلال إبرام مزيد من الصفقات الاقتصادية التي يمكن أن تؤدي إلى تراجع النشاط الاقتصادي للشركات التابعة للحرس.
ورغم أن ذلك يمكن أن ينتج ضغوطًا اقتصادية أكبر على إيران، إلا أن الأمر قد لا يخلو من مكاسب للحرس، يتمثل أبرزها في إضفاء وجاهة خاصة على الرؤية التي يتبناها منذ الوصول للاتفاق، والتي تقوم على أن المكاسب التي حصلت عليها إيران بمقتضاه لا تقارن بالتنازلات التي قدمتها في سبيل الوصول إليه، على غرار تخفيض مستوى تخصيب اليورانيوم وتقليص عدد أجهزة الطرد المركزي وفتح المنشآت النووية للتفتيش وتغيير نظام تشغيل مفاعل "آراك".
3- إضعاف الحكومة: بالتوازي مع ذلك، فإن "الباسدران" يسعى أيضًا إلى تأكيد عدم قدرة الحكومة على الانفراد بتحديد اتجاهات العلاقات مع القوى الدولية، خاصة بعد الاتفاق النووي، وذلك في ظل التخوفات التي أبداها مسئولون في الحرس من إمكانية استغلال الحكومة لذلك في فتح قنوات تواصل خلفية مع بعض القوى الدولية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وإجراء مفاوضات حول ملفات أخرى غير نووية، على غرار ملف الصواريخ الباليستية، الذي يعتبر أحد أبرز محاور الخلاف العالقة حاليًا بين إيران والمجتمع الدولي.
ومن هنا، كان لافتًا أن الحرس قام باعتقال نزار زكا اللبناني الذي يحمل إقامة في الولايات المتحدة الأمريكية، في سبتمبر 2015، رغم أنه زار إيران بناءً على دعوة رسمية من نائبة الرئيس روحاني لشئون المرأة شاهيندوخت ملاوردي للمشاركة في مؤتمر حول "دور المرأة في التنمية المستدامة"، وهى إشارة إلى أن الحكومة لا تستطيع التدخل في هذا الملف، رغم تأثيره على العلاقات السياسية مع القوى الدولية، التي كانت حكومة روحاني تبذل جهودًا مضنية من أجل تحسينها في العامين الماضيين.
تداعيات سلبية:
لكن هذه السياسة يمكن أن تتسبب في تداعيات سلبية عديدة على إيران خلال المرحلة القادمة، إذ أنها لن تضعف من قدرة الحكومة على استقطاب مزيد من الاستثمارات الأجنبية الغربية من جديد بعد خروجها بسبب العقوبات الدولية التي كانت مفروضة على إيران فحسب، وإنما سوف تتسبب أيضًا في تقريب وجهات النظر بين القوى الدولية فيما يتعلق بالآليات الأنسب للتعامل معها.
وبعبارة أخرى، فإن هذا الملف قد يساهم في حدوث تقارب في المواقف التي تتبناها تلك القوى والسياسة الجديدة التي تتبعها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاه إيران، خاصة بعد أن بدأت تلك القوى في إدراك مخاطر التعويل على التزام إيران بالاتفاق النووي فقط، والتغاضي في الوقت ذاته عن التأثيرات السلبية التي تفرضها تدخلاتها المستمرة في الشئون الداخلية لدول المنطقة وأدوارها في دول الأزمات، والتي أدت إلى تفاقم الصراعات الإقليمية ومنحت الفرصة للتنظيمات الإرهابية من أجل التمدد داخل بعض هذه الدول.
ولذا، ربما يتحول هذا الملف، خلال الفترة المقبلة، إلى أحد محاور التفاعلات بين إيران وتلك القوى، بعد أن باتت الأخيرة تعي خطورة الحرص على عدم فتحه مع طهران، التي تبحث دائمًا عن أوراق ضغط لمساومة تلك القوى.