تبدي الدول الأوروبية مخاوف عديدة إزاء التداعيات التي يمكن أن يفرضها تصاعد حدة الأزمات الدولية خلال الفترة الأخيرة، خاصة أزمتى إيران وكوريا الشمالية. وفي رؤيتها، فإن استمرار اتساع نطاق الخلافات بين الأطراف المعنية بتلك الأزمات لا يزيد فقط من احتمالات انهيار الجهود التي بذلت في الفترة الماضية لتسوية بعضها، على غرار الأزمة النووية الإيرانية التي أمكن التوافق على حل وسط مؤقت لها من خلال الاتفاق النووي الذي توصلت إليه مجموعة "5+1" (ومنها ثلاث دول أوروبية هى فرنسا وبريطانيا وألمانيا) وإيران في 14 يوليو 2015، وإنما يعزز أيضًا من فرص نشوب مواجهات عسكرية جديدة سوف تؤثر دون شك على مصالح تلك الدول.
ومن هنا، تبذل تلك الدول جهودًا حثيثة من أجل الحفاظ على ما ترى أنه مكتسبات للصفقة النووية التي توصلت إليها مع إيران، خاصة فيما يتعلق بفرض قيود على الأنشطة النووية الإيرانية وإخضاعها لرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتعزيز فرص الوصول إلى مقاربات مشابهة للأزمات الدولية الأخرى، وفي مقدمتها الأزمة مع كوريا الشمالية التي تتصاعد حدتها باستمرار في ظل التهديدات المتبادلة التي توجهها كل من بيونج يانج وواشنطن خلال الفترة الأخيرة.
توجه جديد
ومن هذا المنطلق، دعت المستشار الألمانية أنجيلا ميركل، في 10 سبتمبر 2017، إلى تكرار نموذج المفاوضات التي أجريت مع إيران من أجل تسوية الأزمة مع كوريا الشمالية، حيث قالت في هذا السياق: "إن الاتفاق النووي مع إيران يمكن أن يكون نموذجًا لتسوية الصراع مع كوريا الشمالية"، مضيفة: "يمكن تصور صيغة مماثلة لتسوية صراع كوريا الشمالية.. ويجب أن تكون أوروبا وألمانيا مستعدة لتقديم إسهام فعال للغاية".
هذه الدعوة تطرح دلالة مهمة تتمثل في أن ألمانيا ما زالت ترى أن الاتفاق النووي مع إيران حقق مكاسب عديدة للدول الأوروبية، منها تجنب نشوب مواجهة عسكرية في منطقة الشرق الأوسط كان من الممكن، في رؤيتها، أن تفرض تداعيات سلبية على مصالحها في المنطقة، وهو ما يعني أن مواقفها إزاء هذا الملف تحديدًا تختلف إلى حد كبير عن السياسة التي تتبناها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي ما زالت توجه انتقادات مستمرة للاتفاق النووي بسبب "الثغرات" التي يتضمنها والتي تسمح لإيران بالالتفاف عليه دون أن تتوافر فرصة للقوى الدولية لإثبات انتهاكها له ومن ثم العودة إلى فرض عقوبات دولية عليها.
وهنا، ربما يمكن القول إن المقاربة بين ملفى إيران وكوريا الشمالية تحولت إلى محور رئيسي للتباين بين ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية. ففي الوقت الذي تدعو فيه ميركل إلى تكرار نموذج المفاوضات مع إيران في حالة كوريا الشمالية، باعتبار أن ذلك يمثل آلية مناسبة يمكن من خلالها الوصول إلى حل للأزمة مع الأخيرة، وجهت المندوبة الأمريكية في الأمم المتحدة نيكي هايلي، في 6 سبتمبر الجاري، تحذيرات من إمكانية تحول إيران إلى ما يمكن تسميته بـ"كوريا شمالية جديدة".
وقالت هايلي في هذا السياق: "إن الاتفاق النووي إذا بقى دون تغيير فقد يسمح لإيران بأن تشكل نفس التهديد الذي تشكله كوريا الشمالية بالنسبة للمدن الأمريكية"، مضيفة أن "الاتفاق الذي تنتهي مدته خلال عشرة أعوام يفتح الباب أمام إيران لمواصلة البحوث العسكرية". وبالطبع، فإن ذلك يشير إلى أن الإدارة الأمريكية ما زالت ترى أنه يمكن العمل على إجراء تعديلات في الاتفاق النووي الحالي، بحيث يستوعب الإشكاليات الحالية التي يتضمنها، وهو توجه لن تقبل به إيران في كل الأحوال.
صعوبات مختلفة
هذه التحذيرات الأمريكية تكشف أن ثمة عقبات ثلاثة رئيسية يمكن أن تواجه أى محاولة ألمانية لتبني النموذج الإيراني في التعامل مع أزمة كوريا الشمالية. يتمثل أولها، في أن النموذج الإيراني نفسه مهدد بالانهيار، في ظل الخلافات المتعددة والمتفاقمة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية.
فرغم أن الأخيرة أقرت، في 18 يوليو 2017، بالتزام إيران بالجوانب الفنية للاتفاق، إلا أنها ما زالت مصرة على اتهامها بما أسمته "انتهاك روح الاتفاق"، كما أنها وسعت من نطاق خلافاتها مع إيران في هذا السياق، خاصة بعد الزيارة التي قامت بها نيكي هايلي إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في 23 أغسطس 2017، وطالبت فيها بضرورة إخضاع بعض المنشآت العسكرية الإيرانية للتفتيش من جانب الوكالة، وهو ما اعتبرت إيران أنه "حلم لن يتحقق".
إيران بدورها ما زالت مصرة على استغلال "ثغرات" الاتفاق، لا سيما فيما يتعلق بمواصلة إجراء تجارب خاصة بإطلاق الصواريخ الباليستية، كما أنها لا تتوانى عن توجيه تهديدات بتجميد العمل بالاتفاق والعودة من جديد إلى تنشيط برنامجها النووي ورفع مستوى عمليات تخصيب اليورانيوم إلى 20% على غرار ما كان قائمًا قبل الوصول للاتفاق النووي في منتصف يوليو 2015.
وقد كان على أكبر صالحي رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية آخر من وجه هذه النوعية من التهديدات، حيث قال في حوار مع مجلة "دير شبيجل" الألمانية، في 9 سبتمبر الجاري، أنه "في حالة انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية وبعدها الدول الأوروبية من الاتفاق النووي فإن إيران سوف تعود إلى ما كانت عليه في السابق وحتى بمستوى أعلى من الناحية التقنية".
وينصرف ثانيها، إلى احتمال رفض هذه المقاربة من جانب الإدارة الأمريكية نفسها، التي ترى أن الاتفاق النووي مع إيران يتضمن ثغرات لا تبدو هينة، يمكن أن تهيئ المجال أمام إيران للوصول إلى المرحلة التي قد تمتلك فيها القدرة على صنع القنبلة النووية في حالة ما إذا كانت لديها رغبة في ذلك أو أصدرت قيادتها العليا قرارًا سياسيًا في هذا الصدد.
وبعبارة أخرى، فإن الولايات المتحدة الأمريكية ربما ترفض أية مقاربة قد تؤدي إلى تكرار ما تعتبره أخطاء ارتكبت في الاتفاق النووي مع إيران في حالة ما إذا كان هناك مجال لإجراء مفاوضات مع كوريا الشمالية للتوصل إلى تسوية سلمية لأزمة برنامجيها النووي والصاروخي.
ويتعلق ثالثها، بعدم وجود مؤشرات توحي بإمكانية قبول كوريا الشمالية بمثل تلك المقاربة، خاصة في ظل تقاربها الملحوظ في بعض القضايا مع إيران، وهو التقارب الذي قد يدفعها إلى تبني رؤية مشابهة لرؤية التيارات المتشددة في طهران فيما يتعلق بالمشكلات التي تواجه الاتفاق النووي وتهدد بوقف العمل به خلال الفترة القادمة.
وبمعنى آخر، فإن بيونج يانج قد ترى أن هذه المشكلات تكمن في التحول الكبير في السياسة الأمريكية تجاه الاتفاق، بسبب التباين الملحوظ في مواقف إدارة ترامب عن مواقف إدارة أوباما، وهو ما قد يدفعها إلى العزوف عن تكرار المحاولة من جديد أو قبول أى توجه أوروبي لتبني المقاربة نفسها.
ومن هنا، ربما يمكن القول في النهاية إن الدعوة الأخيرة التي وجهتها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تشير إلى أن ثمة مخاوف حقيقية تنتاب الدول الأوروبية إزاء المسارات المحتملة للمواجهة الحالية بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة الأمريكية والتصعيد المتوازي بين الأخيرة وإيران، لكن لا يبدو أنها سوف تحظى باهتمام خاص من جانب القوى الدولية المعنية بالأزمتين، في ظل العقبات العديدة التي تحول دون ترجمتها إلى خطوات إجرائية على الأرض.