لا تزال أصداء الصفقة التي أبرمها حزب الله وتنظم "داعش" تثير الجدل حول الدوافع التي ساقها الحزب وحلفاؤه لتبريرها. إذ لم تحظ تلك الدوافع بقبول حلفاء الحزب في العراق الذين اعتبر بعضهم أنها قد تهدد بعودة التنظيم إلى العراق من جديد، كما لم تكن مقنعة لخصومه في الوقت ذاته، على خلفية تناقض المواقف والشعارات التي تبناها الحزب منذ انخراطه في الصراع السوري، وهو ما أوحى بأن هناك أهدافًا وترتيبات سرية من إتمام هذه الصفقة، كما أضفى وجاهة خاصة على المؤشرات التي تكشف عن وجود علاقات خفية بين حلفاء النظام السوري، وخاصة إيران، والتنظيمات الإرهابية رغم الادعاءات التي يتبناها الطرفان وتشير إلى عكس ذلك.
ومن دون شك، فإن الصفقة التي توصل إليها الحزب مع "داعش" لا يمكن عزلها عن الصفقة التي سبقتها مع "جبهة النصرة"، فهى عمليًا صفقة واحدة تمت في إطار محاولة حلفاء النظام السوري بلورة استراتيجية جديدة للدور المستقبلي الذي سيقومون به بعد التطورات الميدانية التي شهدها الصراع السوري في الفترة الأخيرة.
تناقضات واضحة:
تقضى الصفقة بنقل بعض عناصر تنظيم "داعش" وعائلاتهم من المناطق الحدودية المشتركة اللبنانية- السورية إلى مدينة البوكمال القريبة من الحدود مع العراق، وذلك في مقابل إعادة 8 جثامين من جنود الجيش اللبناني بالإضافة إلى عنصر من الحرس الثوري الإيراني وعدد من الأسرى إلى لبنان.
لكن اللافت أن إبرام هذه الصفقة يكشف أن ثمة تناقضًا واضحًا في مواقف الأطراف المنخرطة فيها خاصة حلفاء النظام السوري. إذ تشير مقارنة موقف حزب الله من محاولات أمريكية، قبيل انطلاق معارك الموصل، لفتح مسار هروب لعناصر "داعش" من الأراضي العراقية إلى سوريا، بموقفه من الصفقة التي أعادت تموضع مقاتلي التنظيم بالقرب من الحدود العراقية، مدى التناقض الذي يواجهه الحزب ومدى انخراطه في خدمة مصالح وحسابات إيران في المنطقة.
كما اتسم موقف إيران بالتناقض أيضًا، إذ أنها سبق أن أعلنت مع النظام السوري أن لا تفاوض مع الإرهابيين وأن الحرب على الإرهاب هى الدافع الأساسي لتشكيل التحالف فيما بينهما وسبب وجود كل من إيران وحزب الله على الأراضي السورية، وهو ما لا يتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض التي تشير إلى أن إيران انخرطت في الصراع السوري من أجل الحفاظ على مصالحها ودعم دورها في المنطقة، بشكل ساهم في النهاية في إطالة أمد الأزمة وعدم وصولها إلى تسوية وفاقم من تداعياتها السلبية المختلفة.
دلالات عديدة:
يطرح إبرام تلك الصفقة بين حزب الله وتنظيم "داعش" دلالات عديدة: تتمثل الأولى، في أنها تزيد من احتمالات التوصل إلى مزيد من الصفقات المماثلة خلال المرحلة القادمة، لا سيما في ظل التطورات الميدانية الأخيرة التي يشهدها الصراع السوري، فضلاً عن الخسائر المتتالية التي منى بها تنظيم "داعش" سواء في العراق أو في سوريا. وقد أشارت اتجاهات عديدة إلى أن موافقة التنظيم على تلك الصفقة توحي بأنه يتجه تدريجيًا إلى التفكك داخل سوريا، في ظل انخراطه في معارك عديدة على جبهات مختلفة في وقت واحد.
وتنصرف الثانية، إلى أن هذه الخطوة تشير إلى استمرار الإخلال بالتوازنات السياسية القائمة في لبنان، في ظل تعمد الحزب تجاوز سياسة "النأى بالنفس" التي تبنتها لبنان في التعامل مع تطورات الصراع في سوريا منذ بداية اندلاع الأزمة في مارس 2011. لكن يبدو من أغلب تصريحات المسئولين اللبنانيين وكوادر "تيار المستقبل" وقادة الجيش أن هناك محاولة لعدم الانسياق إلى هذا المسار، الذي يمكن أن يفرض تداعيات سلبية عديدة على أمن واستقرار لبنان.
وتتعلق الثالثة، باستمرار الانقسام في العراق. ففي حين أيدت بعض الأطراف تلك الخطوة، اعتبرت أطراف أخرى أن إعادة تموضع المليشيات التي حاربتها داخل العراق على حدودها مع سوريا تمثل نتيجة عكسية للادعاءات التي ساقها حلفاء النظام السوري في بداية الأزمة، وهى محاربة الإرهاب، بشكل يشير إلى أن ذلك كان يمثل عنوانًا فقط سعت تلك الأطراف إلى استخدامه للتعتيم على أهدافها الحقيقية التي دفعتها إلى الانخراط في الأزمة. بل إن هذه الأطراف حذرت من أن ذلك قد يمثل مقدمة لعودة التنظيم من جديد إلى داخل العراق بعد الهزائم التي منى بها في الفترة الأخيرة.
ويمكن القول إن ما ساقه بعض المسئولين الإيرانيين من ادعاءات لتبرير الصفقة يمثل مناورة تستهدف إعادة خلط الأوراق في العراق في ظل الجهود التي تبذلها أطراف مختلفة خلال المرحلة الحالية للمشاركة في إعادة صياغة الترتيبات السياسية والأمنية، بعد هزيمة "داعش" في الموصل واقتراب موعد الانتخابات البرلمانية فضلاً عن إصرار إقليم كردستان على المضى قدمًا في إجراء الاستفتاء للانفصال عن العراق في 25 سبتمبر الحالي.
وربما لا يمكن استبعاد أن يكون أحد دوافع إبرام هذه الصفقة هو فتح الباب أمام توسيع نطاق دور ميليشيا "الحشد الشعبي" في المرحلة المقبلة، في ظل الإشارات المتعددة التي وجهها بعض قادتها باحتمال انخراطها في الصراع السوري، بتنسيق مع إيران التي تسعى إلى تعزيز دورها في سوريا رغم أن ذلك قد يكون بداية لنشوب خلافات مع أطراف أخرى مثل روسيا.
تداعيات مرتقبة:
يبدو أن التوصل إلى تلك الصفقة سوف يفرض تداعيات عديدة. إذ أنها لن تساهم، على الأرجح، في إعادة صياغة أنماط العلاقات بين الميليشيات الحليفة للنظام السوري فحسب، بل إنها ستمثل متغيرًا رئيسيًا في تحديد الأدوار التي ستقوم بها تلك الميليشيات في المرحلة القادمة، والتي يبدو أنها سوف تحظى باهتمام خاص من جانب القوى الإقليمية والدولية المعنية بالأزمة السورية، التي ترى أن بقاء تلك الميليشيات والأطراف الحليفة لها داخل سوريا سوف يتسبب في استمرار الأزمة واتساع نطاق تأثيراتها السلبية.
كما أن هذه الخطوة سوف تراكم الأزمات الداخلية في لبنان، في ظل تصاعد حدة الخلافات بين حزب الله من جهة والقوى الأخرى من جهة، التي تدعو إلى حصر السلاح في يد الدولة والالتزام بالسياسة العامة التي تتبناها في التعامل مع الأزمات الإقليمية، وفي مقدمتها الأزمة السورية.
وفي النهاية، يمكن القول إن تلك الصفقة سوف يكون لها تأثير مباشر على المسارات المحتملة التي يمكن أن يتجه إليها الصراع في سوريا، وعلى التفاعلات بين القوى المنخرطة فيه خلال المرحلة القادمة.