أثارت التغييرات المتكررة في الدائرة المحيطة بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب في البيت الأبيض التكهنات حول ما إذا كان اختفاء بعض الشخصيات، خاصة ستيف بانون، مؤشرًا على تحول في رؤية أو طريق عمل ترامب، أو على نجاح "القوى المؤسسية" في احتوائه. لكن تصرفات ترامب خلال الفترة القليلة الماضية أكدت استقلاليته، واستمرار أسلوبه "المنفلت" بحسب المعايير المؤسسية.
وبينما يؤشر تولية الجنرال كيلي منصب كبير موظفي البيت الأبيض على استمرار علاقته الطيبة مع العسكريين، والذي تأكد باعتماده الاستراتيجية التي قدمها وزير الدفاع جيمس ماتيس على الرغم من أنها تناقض تعهدات ترامب الانتخابية، إلا أن هذا التأثير يبدو أنه يقتصر على السياسات الخارجية وتحديدًا العسكرية، ولا يمتد إلى محتوى تغريداته أو إلى سياساته الداخلية، أو تلك المتعلقة بالهجرة أو التجارة الخارجية.
وينصب اهتمام ترامب على الحفاظ على دعم قاعدته الانتخابية، إلا أنه يواصل الصدام مع الحزب الجمهوري وقياداته في الكونجرس، ومهاجمتهم بشكل شخصي. لهذا، ستظل تفاعلات السياسة الأمريكية قائمة على مواجهات مستمرة بين الرئيس، مستندًا إلى قاعدته الانتخابية، وعدة مؤسسات، خاصة الكونجرس والقضاء والإعلام، بينما يلعب العسكريون دورًا أكبر في رسم السياسة الخارجية الأمريكية، مع تراجع للبعد الدبلوماسي بسبب الضعف المؤسسي لوزارة الخارجية، التي تعاني من فراغ العديد من المناصب المهمة.
وشهدت إدارة ترامب في الأسابيع القليلة الماضية تغيرات متوالية في دوائر البيت الأبيض، ومنها تغييرات متعددة في الواجهة الإعلامية للبيت الأبيض، وإقالة كبير موظفي البيت الأبيض واستبداله بشخصية ذات خلفية عسكرية، وهو وزير الأمن الداخلي كيلي، ثم تبع ذلك خروج ستيف بانون، أحد أهم رموز اليمين المحافظ في دائرة الرئيس، ثم تبعه سيباستيان جوركا، وكان أيضًا أحد مستشاري البيت الأبيض الذي أثارت توجهاته الأيديولوجية الكثير من الجدل.
مركزية ترامب:
ورغم ما يؤشر إليه استبعاد الأخيرين من بعد "أيديولوجي" في هذه التغييرات، وما يوحي به تصعيد شخصية عسكرية لإدارة البيت الأبيض من النجاح في "احتواء" التوجهات الأكثر تطرفًا في الإدارة، والاتجاه نحو قدر أكبر من العمل المؤسسي؛ فإن الأحداث اللاحقة والرؤية الأكثر تعمقًا لا تساند هذا التوجه للأسباب التالية:
1- التغييرات الواسعة في موظفي البيت الأبيض لا تعني حالة استثنائية من الصراع في الدائرة المحيطة بترامب، وذلك لأن الإطاحة بأفراد من الدائرة المقربة لترامب ليست بُعدًا جديدًا، مهما كان قربهم منه، باستثناء العائلة. فقد كانت هناك شخصيات وثيقة الصلة بترامب، وساندته أيام الحملة الانتخابية، وقت أن كان لا يحظى بدعم كبير من الحزب الجمهوري، مثل عمدة نيويورك السابق رودي جولياني، والذي كان من المنتظر أن يحصل على منصب مهم في إدارة ترامب ثم اختفى. وقد تكرر أثناء الحملة الانتخابية تغيير المسئولين. التغيير المستمر -من وجهة نظر ترامب- يدعم محوريته شخصيًّا، ويُحمِّل الآخرين المسئولية عن أي قصور أو إخفاقات.
2- خروج ستيف بانون تحديدًا لا يعني تحولًا في رؤية ترامب الأيديولوجية، بل كانت لديه أسباب شخصية تدعم مثل هذه الخطوة، حيث كان ترامب يتذمر من الاهتمام الذي كان يلقاه بانون في الإعلام، والذي كان كثيرًا ما يصفه بأنه "المُنظِّر الرئيسي" لرؤية ترامب، وهذا ما كان يثير حفيظته. ويأتي خروجه لتضافر عدة عوامل، منها تصريحاته الأخيرة لأحد الصحفيين، والتي نُشرت في مجلة "بروسبكت"، والتي ناقض فيها تصريحات ترامب عن أهمية أزمة كوريا الشمالية، واستعداد الولايات المتحدة لاتخاذ إجراءات عنيفة ضدها، كما أنه سعى من خلالها -من وجهة نظر المراقبين- لـ"سرقة الأضواء" مرة أخرى.
من جانب آخر، دخل بانون في مواجهات عنيفة مع شخصيات هامة في البيت الأبيض، وقد أغضبت مواجهاته مع جارود كوشنر، صهر الرئيس، ترامب بصفة خاصة، كما أنه اصطدم بشدة مع مستشار الأمن القومي، مكماستر. وقد أوعز إلى الموقع اليميني بريتبارت، والذي عاد إلى رئاسته فور خروجه من البيت الأبيض، لنشر مقالات مسيئة للأخير، وسط تكهنات بأنه كان مسئولًا عن بعض التسريبات المتعلقة بما يدور في البيت الأبيض. وقد تردد في الشهور الأخيرة أن بانون كان يشعر "بالعزلة" داخل البيت الأبيض، وأنه كان يفكر في الاستقالة. ثم كان صعود الجنرال كيلي إلى منصب كبير موظفي البيت الأبيض سببًا في التعجيل برحيله، حيث سادت الرؤية بأن وجوده يخلق مناخًا غير مواتٍ للعمل.
3- محدودية دور كيلي، على الرغم مما يتكرر من آمال بأن الجنرال كيلي سيعيد الانضباط إلى البيت الأبيض، فقد أشارت تصريحاته بوضوح إلى أن مهمته هي إعادة الانضباط إلى البيئة المحيطة بالرئيس، وتنظيم سير المعلومات له بحيث تكون معلومات من مصادر موثوقة؛ حيث سبق أن أدلى ترامب بتصريحات استنادًا إلى تحليلات اعتبرها معلومات موثقة، ولم تكن كذلك.
لكن كيلي أشار بوضوح إلى أن مهمته لا تمتد إلى "إدارة" الرئيس نفسه، وقد لاحظ الإعلاميون في عدة مناسبات أن كيلي فوجئ بتصريحات لترامب في وجوده كان من الواضح أنه لم يعلم بها مسبقًا. من جانب آخر، لا يمكن الاستهانة بالعقيدة العسكرية الراسخة التي تؤمن بالتراتبية، والتي تدين بالولاء المطلق للقائد العام للقوات المسلحة، وهذا الولاء هو ما يتطلبه ترامب من المحيطين به، والذي ربما يجعله يثق بالعسكريين أكثر من غيرهم.
4- توجهات القاعدة الانتخابية لترامب، صعد ترامب إلى سدة الحكم بناء على دعم قاعدة شعبية تشعر بالغضب والاستياء من النخبة المؤسسية السائدة، سواء في دوائر الحكم أو الإعلام، وقد ساندت ترامب تحديدًا لأنه جاء من خارج هذه النخبة، وهاجمها هجومًا شديدًا أثناء حملته الانتخابية وحتى في خطاب تنصيبه. وقد ساهم خطابه "المنفلت"، وغير الملتزم بقواعد السياسة وحتى الأخلاق العامة في بعض الأحيان؛ في تصاعد شعبيته، ولذلك من غير المتوقع أن يتخلى عنه.
وقد صرح ترامب مؤخرًا بأن التباين الكبير بين خطبه "المنضبطة" المعدة سلفًا من قبل معاونيه، والتي يقرؤها بدون تغيير، وخطابه "العفوي" الذي يعده الكثير من المراقبين خطابًا "شعبويًّا"؛ لا يدل على تناقض، بل على ثراء شخصيته واتساع قدراته.
عسكرة الإدارة:
أما فيما يخص حدود تأثير التغييرات في إدارة ترامب على مستقبل السياسة الخارجية الأمريكية، فإنه يمكن القول إن المراقبين يلمسون تمددًا ملحوظًا في نفوذ العسكريين بإدارة ترامب؛ حيث تحتل شخصيتان لهما خلفية عسكرية مناصب مقربة منه في البيت الأبيض، كما نجح وزير الدفاع ماتيس في إقناع الرئيس بإعطاء الجيش صلاحيات أكبر في إدارة العمليات العسكرية.
كما أقنعه بالتعبير عن التزام الولايات المتحدة بالحلفاء التقليديين في أوروبا وحلف الناتو وآسيا، الذين يلعبون دورًا هامًّا في دعم الأمن القومي من وجهة نظر المؤسسة العسكرية. ومؤخرًا، نجح ماتيس في إقناع الرئيس بتبني ودعم الاستراتيجية الجديدة في أفغانستان، رغم تعارضها تمامًا مع وعوده الانتخابية.
ورغم تناقض مواقف ماتيس -في بعض الأحيان- مع موقف ترامب، حيث كان من اللافت تأكيد وزير الدفاع ماتيس على العلاقات مع قطر، نظرًا لأهمية القاعدة الأمريكية بها، رغم ميل الرئيس ترامب لموقف الجبهة المعارضة لها؛ فإنه حريص على عدم تخطي صلاحيات الرئيس، وعلى الحصول على تأييده العلني لكل خطواته وسياساته.
وبحسب القواعد العسكرية الراسخة، لن يستطيع العسكريون معارضة أو عدم تنفيذ أمر مباشر للرئيس، والخيار الوحيد المتاح أمامهم في حالة اعتراضهم عليه هو الاستقالة، وهو ما تتخوف منه دوائر أمريكية عديدة، ترى في العسكريين الأمل الوحيد لاحتواء ترامب.
لكن الشاهد حتى الآن أن هذا الاحتواء، بغض النظر عن نجاحه، يقتصر على توجيه السياسات الخارجية للولايات المتحدة، وتحديدًا فيما يتعلق بقضايا الأمن القومي. فرغم ميل ترامب للتفاهم مع روسيا، يأخذ وزير الدفاع موقفًا متشددًا من تحركاتها في أوروبا، وإن كان التنسيق قائمًا بقوة بين البلدين على مسرح العمليات في سوريا. كما يأخذ ماتيس أيضًا بزمام المبادرة في الأزمة الكورية والوضع في أفغانستان، والعمليات على الأرض في الشرق الأوسط.
ضعف الخارجية:
يؤشر ذلك إلى تواصل "عسكرة" السياسة الخارجية الأمريكية في عهد ترامب، خاصة مع اختفاء الصوت المعارض لستيفن بانون من نقاشات البيت الأبيض، حيث كان يقف بقوة ضد "التورط" الأمريكي الخارجي. ويدعم من ذلك التوجه أيضًا ضعف وزارة الخارجية في هذه الإدارة، خاصة مع ترك العشرات من المناصب الدبلوماسية شاغرة بسبب عدم قدرة الوزير على الحصول على موافقة البيت الأبيض على مرشحيه من ناحية، وبطء عمليات الموافقة من قبل الكونجرس من ناحية أخرى، مع اعتماد تخفيضات كبيرة في ميزانية وزارة الخارجية وعدد موظفيها من جانب ثالث.
النتيجة الأهم لكل هذه العوامل هو غياب البعد الدبلوماسي، وبالتالي غياب تشكل استراتيجية أمريكية متكاملة وشاملة للتعامل مع كل هذه الصراعات، حيث يتم التعامل معها من منظور عسكري تكتيكي، ما قد يفتح الباب لأدوار قوى أخرى تتقدم برؤى مختلفة.