تصاعدت الضغوط الدولية على الصين للتعامل مع التوترات المتزايدة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية بسبب التجارب الصاروخية الكورية الشمالية، إذ تفاقمت حدة المواجهة بين بيونج يانج وواشنطن عقب فرض عقوبات دولية على كوريا الشمالية في أغسطس 2017، وتهديد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالردع النووي في مواجهة تهديدات الرئيس الكوري الشمالي كيم جونج أون باستهداف جزيرة جوام الأمريكية بالصواريخ الباليستية.
وفي هذا الصدد، تُعد الصين رقمًا محوريًّا في معادلة الصراع الدائر في شبه الجزيرة الكورية؛ إذ تتبنى بيكين موقف الدفاع عن كوريا الشمالية، وتحتفظ بعلاقات وثيقة مع النظام الحاكم في بيونج يانج، بالإضافة للدعم السياسي والدبلوماسي والاقتصادي الذي تقدمه الصين لكوريا الشمالية، وهو ما يزيد من حدة الضغوط على الصين للضغط على بيونج يانج لوقف سياستها التصعيدية.
التهديدات الكورية:
أدى تقدم كوريا الشمالية السريع في تطوير صواريخ باليستية قادرة على الوصول للأراضي الأمريكية مزودة برؤوس نووية، إلى تصاعد الضغوط الأمريكية على بيونج يانج، لا سيما وأن واشنطن وجدت نفسها عرضة لخطر التعرض لهجوم بسلاح نووي خلال أقل من عامين وفقًا لمسؤولين في الاستخبارات الأمريكية.
ويستقر في النسق العقيدي للرئيس الكوري "كيم جونج أون" أن القدرات النووية هي قوة الردع الوحيدة في مواجهة العالم الخارجي، ويرى أون وفق تصريحاته أن "الدول التي لا تمتلك أسلحة نووية سيكون مصيرها مثل العراق وغيرها". وتمثلت أهم السياسات التصعيدية لكوريا الشمالية في الآتي:
1- التجارب الصاروخية والعروض العسكرية: أجرت كوريا الشمالية ثلاث تجارب باليستية عابرة للقارات في عام 2017: الأولى في فبراير 2017، والثانية والثالثة في يوليو 2017، كما كثّفت من عروضها العسكرية لاستعراض قوة الردع لديها، وكان آخرها عرضًا في أبريل 2017 لإحياء الذكرى الـ105 لميلاد مؤسس النظام الشيوعي كيم إيل سونج.
2- التهديد بضرب القواعد الأمريكية: لوّحت بيونج يانج في أبريل 2017 بتوجيه ضربة للقواعد الأمريكية في كوريا الجنوبية واليابان، بالإضافة إلى بعض المنشآت الحيوية في كوريا الجنوبية حال تعرضها لهجوم.
3- خطط ضرب جوام: أكدت وكالة الأنباء الكورية، في أغسطس 2017، تسلم كيم جونج من جيشه خطة إطلاق صواريخ تجاه جزيرة جوام الأمريكية بالمحيط الهادي على بعد 3300 كلم من بيونج يانج، والتي تشكل موقعًا استراتيجيًّا لواشنطن، يتمركز فيها 6 آلاف جندي، وأضافت: "كيم سيراقب أفعال واشنطن لفترة أطول قبل أن يتخذ قرارًا".
التصعيد الأمريكي:
تستند إدارة ترامب في موقفها إلى السياسات الكورية الشمالية العدائية تجاه الولايات المتحدة، وتكرار التجارب الصاروخية بصورة استفزازية، بالإضافة إلى دور كوريا في إمداد سوريا والعراق وإيران بصواريخ متطورة، ونقل التكنولوجيا النووية إلى دولٍ معادية للولايات المتحدة مثل إيران والعراق، وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى اتخاذ عدة إجراءات للرد السريع على كوريا تتمثل فيما يلي:
1- تحريك قطع عسكرية: وصلت حاملة الطائرات "كارل فينسن" ترافقها 3 سفن قاذفة للصواريخ توماهوك إلى سواحل شبه الجزيرة الكورية، على بعد 300 ميل فقط من المواقع النووية في كوريا الشمالية، وفي يوليو 2017 اتفقت الولايات المتحدة مع سيئول لنشر نظام THAAD لمواجهة أية تهديدات صاروخية من كوريا الشمالية، وهو ما قوبل برفض صيني، كون نطاق الرادار الخاص بثاد يمكن أن يصل إلى أراضيها، وسيؤدي إلى الإخلال بالتوازن الأمني في شرق آسيا.
2- التلويح بالردع النووي: أكد الرئيس الأمريكي في أغسطس 2017 أن "ضرب جوام سيُعرِّض بيونج يانج لحدث لم يَرَ أحد مثله من قبل"، مستطردًا أن "التحذير الذي أطلقته بأن بيونج يانج ستواجه نارًا وغضبًا لم يرهما العالم قط إن هي شنت هجومًا على أمريكا، ربما لم يكن صارمًا بما يكفي"، وأشار في تصريحات سابقة إلى أن "جميع الخيارات مطروحة بما فيها الخيار العسكري".
3- فرض العقوبات: أدت الضغوط الأمريكية إلى إقرار مجلس الأمن في أغسطس 2017 عقوبات جديدة بموجب القرار 2381 ضد صادرات كوريا الشمالية، بما فيها الفحم والحديد والزئبق والأطعمة البحرية، ومنع الدول من استخدام العمالة الكورية الشمالية لمخالفتها القرارات الأممية بتماديها في التجارب الصاروخية والأسلحة النووية.
تكلفة التصعيد المتبادل:
تتحمل الصين تكلفة اقتصادية وأمنية وسياسية ضخمة بسبب التوترات المتبادلة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، إذ باتت بكين تقوم بدور "الراعي الإقليمي" للنظام الحاكم في بيونج يانج، وتتحمل دوليًّا تكلفة ضخمة نتيجة دفاعها عن سياساته في مواجهة الضغوط الغربية. وفي هذا الصدد، تتمثل أهم الخسائر التي تتحملها الصين من التصعيد بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية فيما يلي:
1- الخسائر الاقتصادية: ستتحمل الصين خسائر اقتصادية ضخمة نتيجة التزامها بالعقوبات الدولية المفروضة على بيونج يانج، حيث تُعد الشريك الاقتصادي الأول لبيونج يانج باستحواذها على 70% من إجمالي حجم التبادل التجاري الكوري الشمالي العالمي خلال عام 2017، وتحتل المركز الأول بين الدول المصدرة للسلاح لكوريا بما يعادل 208.3 مليون دولار بنسبة 83% من إجمالي حجم تدفقات السلاح العالمية لبيونج يانج. وفي المقابل، قُدرت صادرات الفحم الكورية للصين 2017 بما يُقارب مليار دولار من إجمالي صادراتها السنوية، وتضاعفت بقرار بكين في 2017 زيادة استيراد الفحم لنحو مليوني طن.
2- التهديدات الأمنية: ترى الصين أن انهيار نظام بيونج يانج سيترتب عليه موجات نزوح محتملة على طول الشريط الحدودي مع الصين البالغ طوله 1416 كم، وهو ما يفسر إرسالها قرابة 160 ألف جندي بالقرب من الحدود الكورية الشمالية، على اعتبار أن الجانب الآخر من الحدود يشهد تمركز عشرات الألوف من الجنود الأمريكيين، وهو ما يزيد تكلفة تأمين الصين لحدودها مع كوريا، كما ستتصاعد هذه التكلفة في حال حدوث مواجهات عسكرية بين بيونج يانج والولايات المتحدة.
3- تحجيم القدرات الصاروخية: أشار خبراء إلى أن نظام "ثاد" الصاروخي يستهدف الصين بالأساس؛ لأن الكوريتين يشتركان في الحدود، وليست هناك حاجة لاستخدامه، وإنما يكفي إمداد الجنوبيين بالمدفعية أو منظومة صواريخ تتناسب مع المسافة، كما أن "ثاد" مصمم لاعتراض الصواريخ الباليستية متوسطة المدى، وهي ما تمتلكه الصين، ومن ثم يبدو أن واشنطن تريد أن تكون لديها قدرة إضافية على المراقبة الرادارية للمجال الجوي فوق شمال شرق الصين؛ حيث تتمركز قواعد الصين التي تحتوي على صواريخ باليستية طويلة ومتوسطة المدى، وقد يكون المسار المحتمل للصواريخ الصينية العابرة في اتجاه الولايات المتحدة سيمر من هذه المنطقة، وهذا ما يفسر الاعتراض الصيني.
4- توتر العلاقات مع واشنطن: تمارس واشنطن ضغوطًا على بكين بتهديدها بوضع قيود على الاستثمارات الصينية بالولايات المتحدة، أو منع الشركات الأمريكية من العمل في الصين، أو فرض عقوبات تجارية ضد منتجي الصلب الصينيين، لدفعها للضغط على بيونج يانج لوقف أنشطتها الصاروخية، وليس أدل على ذلك من إبلاغ واشنطن وطوكيو للصين بوجود خيارين لا ثالث لهما، "إما أن تعزز بكين ضغطها، أو تشن واشنطن حربها"، وتصريح ترامب في أبريل 2017 أن "الصين تتمتع بنفوذ كبير على كوريا الشمالية، وعليها أن تقرر ما إذا كانت ستساعدنا في هذا الأمر أم لا"، كما أعرب في أغسطس 2017 عن خيبة أمل كبيرة من موقف الصين تجاه كوريا الشمالية.
ويُرجع المراقبون الضغوط الأمريكية على بكين إلى حالة التنافس الاقتصادي، ومخاوف واشنطن من زوال الهيمنة الاقتصادية الأمريكية ببدء بكين في تنفيذ "مشروع طريق الحرير البري والبحري" الذي يربط الصين بأكثر من 57 دولة، وتدشين بنك الاستثمار الآسيوي (AIIB)، وضم اليوان لسلة العملات الدولية، وكل ذلك يؤثر سلبًا على القوة الاقتصادية للولايات المتحدة، ويؤدي إلى وجود عملة دولية منافسة.
احتواء الضغوط:
تتبع القيادة الصينية سياسة "الدبلوماسية الهادئة" في مواجهة الضغوط الدولية في الأزمة الكورية، على الرغم من اتباع الصين سياسة "التعامل مع كل الاحتمالات" بما فيها السيناريو الكارثي، وهو ما دفع إلى نشر عدد كبير من قواتها على الحدود مع كوريا الشمالية، تزامنًا مع وصول القطع العسكرية الأمريكية إلى السواحل الكورية تحسبًا لأية تطورات مفاجئة رغم أن كافة الشواهد المحيطة بالأزمة لا تُرجِّح اندلاع الحرب في الوقت الحالي.
وتركز الصين جهودها على إيجاد "حل سلمي"، وتجنب الوصول إلى مواجهة عسكرية لتجنب تأثيراتها المباشرة على أمنها القومي، لاعتبارها كوريا الشمالية "منطقة عازلة"، وخط دفاع أوليًّا لحماية حدودها بسبب محاصرة حلفاء واشنطن لحدود الصين، خاصة كوريا الجنوبية، واليابان، وتايوان، والفلبين، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وأعلنت الصين منذ بداية الأزمة رفضها تفاقم الأزمة، وتحولها إلى مواجهة عسكرية بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية؛ حيث أكد وزير خارجيتها "وانج يي" في أبريل 2017 أن الصين "لن تسمح حتى بأن يكون احتمال الحرب 1%"، واتبعت الصين عدة إجراءات لتحجيم الأزمة يتمثل أهمها فيما يلي:
1- تطبيق العقوبات: علقت بكين استيراد الفحم من بيونج يانج حتى نهاية عام 2017، لإيصال رسالة لكيم برفضها إجراء أية تجارب باليستية تهدد التوازن الإقليمي، ورسالة للمجتمع الدولي بأن الصين مستعدة للتعاون مع القوى الدولية لحل الأزمة.
2- مبادرات الوساطة: طرحت بكين مبادرة عنوانها "التعليق مقابل التعليق" تنص على تعليق واشنطن وسيئول التدريبات العسكرية المشتركة في شبه الجزيرة الكورية مقابل تعليق بيونج يانج لبرنامجها النووي وبرنامج الصواريخ الباليستية بهدف التوصل لـ"حل شامل".
3- الاستعانة بالحلفاء: استعانت بكين بروسيا للمساهمة في تهدئة التوترات بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، ودفع الدولتين لاستئناف الحوار فيما بينهما، وحاولت بكين استغلال التقارب بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في وضع حدٍّ للتصعيد المتبادل.
ختامًا، على الرغم من تمكن السياسات الصينية من وضع حدٍّ للتوترات الكورية - الأمريكية بصورة مؤقتة؛ إلا أنها لن تمنع تجدد الصدام بين الدولتين، فالتقدم في برنامج الصواريخ الكورية، والسياسات التصعيدية لكلٍّ من الرئيس الكوري كيم جونج أون والرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ سوف تؤدي إلى تجدد التوترات بصورة متتابعة، وهو ما يزيد من حدة الضغوط على الصين، ويدفعها للتفكير في اتباع سياسات أكثر فاعلية لمواجهة تهديدات التصعيد الكوري - الأمريكي.