مع هزيمة تنظيم "داعش" في مدينة الموصل العراقية، وقرب خسارته في مدينة الرقة السورية، تتطلع القوى الإقليمية المنخرطة في أزمات الإقليم، لا سيما تركيا، إلى كيفية المشاركة في تشكيل المشهد السياسي والأمني والاقتصادي في البلدين؛ إلا أن هذا التطلع يُجابَه بجملة من التحديات المتداخلة والمعقدة، خاصة أن ما أفرزه الواقع الجديد في المنطقة جاء مخالفًا لرؤية أنقرة التي راهنت على إسقاط النظام السوري، لدفع مشروعها الإقليمي على أرض الواقع.
تحديات إقليمية:
وضع تحرير الموصل من تنظيم داعش الإرهابي تركيا أمام معادلة صعبة في العراق، بعد أن كادت أن تدخل في مواجهة مباشرة مع الحكومة في بغداد، لرفضها مشاركة أنقرة في معركة تحرير المدينة. ومع انطلاق معركة تحرير بلدة تلعفر ذات الأغلبية التركمانية، تبدو أنقرة أمام خسارة آخر ما تبقى من مصداقيتها السياسية بعد أن أعلنت مرارًا أنها لن تسمح للحشد الشعبي بدخولها، وأظهرت نفسها كقوة حامية للتركمان في العراق.
وعليه يمكن القول، إن أهم التحديات التي تواجهها أنقرة في مرحلة ما بعد تحرير الموصل، تتعلق بكيفية التعاطي مع الواقع الجديد في العراق، ولعل ما يزيد من صعوبة هذا التحدي هو أن مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان، الحليف التركي، أعلن أنه لا رجعة عن خيار الاستفتاء على مصير الإقليم الكردي في الخامس والعشرين من سبتمبر المقبل، بعدما طالبته مرارًا بالتراجع عنه لأنه سيكون خطوة مصيرية ليس لتحديد مستقبل الإقليم فقط، بل لمستقبل القضايا الكردية المثارة بقوة في تركيا وسوريا وإيران. ومن شأن تلك الخطوة دفع الأكراد في هذه الدول إلى رفع سقف تطلعاتهم القومية، وهو ما سيدفع الأنظار بقوة إلى الداخل التركي الذي يعاني من عقدة القضية الكردية تاريخيًّا.
وفي مقابل تجلي ملامح المشهد العراقي الحالي إلى حدٍّ ما، يبدو المشهد في سوريا غامضًا إلى حد كبير، ومفتوحًا على كل السيناريوهات، ما يضع تركيا أمام ثلاثة تحديات كبيرة، هي:
1- تحدي التفاهم الروسي الأمريكي الذي تجلى في ثلاث نقاط أساسية تخالف محددات السياسة التركية تجاه الأزمة السورية، يتمثل أولها في اتفاق الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين على وقف إطلاق النار في جنوب غرب سوريا بمشاركة غير معلنة من إسرائيل، ويتعلق ثانيها باتفاق الطرفين على أولوية محاربة تنظيم داعش وباقي التنظيمات الإرهابية والمتشددة، ورفض ربط ذلك بمصير النظام السوري. وأخيرًا دعم الطرفين للمكون الكردي السوري، وتفهم مطالبه القومية، ومشاركته في مستقبل سوريا في إطار نظام لا مركزي.
2- تحدي الصعود الكردي في شمال شرق سوريا: ترى تركيا أن هذا الصعود يهدد أمنها القومي، وما يزيد من صعوبة هذا التحدي إخفاق أردوغان في إقناع إدارة "ترامب" بوقف دعمها للأكراد. وتتخوف أنقرة من سيطرتهم على مدينة الرقة بعد تحريرها من تنظيم داعش، ووضع خيار الفيدرالية على طاولة الحل السياسي للأزمة السورية. فضلًا عن الهواجس من أن يؤدي الثقل العسكري للأكراد إلى ربط عفرين في الغرب بالمناطق التي يسيطر عليها الأكراد في الشرق والشمال السوري، ما يعني عمليًّا أن حدود تركيا الجنوبية مع سوريا ستصبح بالكامل تحت سيطرة الكيان الكردي الناشئ.
ويشكل كل ما سبق تحديًا وجوديًّا لأنقرة في المستقبل، نظرًا إلى أن المناطق الكردية على جانبي الحدود بين تركيا وسوريا تقع -إلى حدٍّ كبير- تحت هيمنة حزب العمال الكردستاني الذي صعَّد من عملياته العسكرية داخل الأراضي التركية بعد أن تخلى أردوغان عن عملية السلام التي أطلقها عبدالله أوجلان زعيم الحزب في عام 2013.
3- تحدي النفوذ الإيراني: يُمثل الصراع الطائفي والسياسي بين إيران وتركيا أحد أهم الصراعات الخطرة التي أفرزتها الأزمة السورية؛ حيث لم تكتفِ طهران بالتحالف مع النظام السوري ودعمه عسكريًّا؛ بل حشدت كل القوى والميليشيات الطائفية في الحرب على الأراضي السورية. وفي المقابل، انتهجت أنقرة نفس السلوك والسياسة، وهو ما زاد من حدة الأزمة بفعل الأيديولوجيا التي كانت تحرك الفصائل والمجموعات المتحاربة.
وبعد خسارة تركيا معركة حلب، واستعادة النظام السوري وحلفائه العديدَ من المناطق التي كانت واقعة تحت سيطرة المجموعات المسلحة؛ فإنها تبدو أمام محنة تزايد النفوذ الإيراني، خاصة وأن هذا النفوذ قديم ومتغلغل في بنية الدولة السورية وعلى كافة المستويات والأصعدة.
خيارات تركية:
ثمة جدل بشأن الخيارات المتعلقة بمسارات وملامح تشكيل المشهد السوري في ظل الضوابط التي ترسمها التفاهمات الأمريكية الروسية. ومنذ تحسن علاقتها بروسيا وانخراطها في اجتماعات أستانة، تحولت أولوية تركيا تجاه الأزمة السورية من إسقاط النظام السوري إلى كيفية مواجهة الصعود الكردي على حدودها الجنوبية. وفي سبيل ذلك، أمامها عدة خيارات للاحتفاظ بدورها في المشهد السوري الذي يتشكل على وقع تفاهمات ترامب وبوتين لتقاسم النفوذ، ولعل من أهم تلك الخيارات ما يلي:
1- زيادة التعاون مع روسيا لكونها القوة المتحكمة في الخيارات الاستراتيجية للأزمة السورية؛ حيث تريد تركيا من هذا التعاون الوصول إلى تفاهمات مع موسكو بشأن ترتيبات الوضع الميداني في سوريا، لا سيما في شمالها وصولًا إلى تسوية سياسية.
2- السعي إلى زيادة دورها في تفاهمات أستانة بشأن مناطق خفض التوتر في المناطق الساخنة، وهي تمتلك ورقة مهمة في هذا الصدد تتمثل في تأثيرها على المنظمات المسلحة في الشمال السوري، والدور المحتمل لها في حسم معركة إدلب المجاورة لها جغرافيًّا.
3- الحفاظ على الحوار والتنسيق مع الإدارة الأمريكية لوضع حدٍّ للصعود الكردي، وقضية الدعم الأمريكي للأكراد بالسلاح، ومحاولة إرجاع النفوذ الكردي إلى مرحلة ما قبل معركة الرقة.
4- الإبقاء على خيوط التعاون مع إيران في إطار رفض البلدين إقامة أي كيان كردي في المنطقة، نظرًا لتداعيات مثل هذا الكيان على البلدين ولوجود أقلية كردية داخلهما.
5- الاستفادة من الخيارات السابقة في تشكيل رؤية تركية تُفرض على طاولة التسوية السياسية للأزمة السورية تقوم على الإبقاء على النظام السوري لمرحلة انتقالية، وفتح الطريق أمام المعارضة السورية، لا سيما قوى الائتلاف الوطني، للمشاركة في المستقبل السياسي لسوريا، بما يعني ذلك الانقلاب على شعار التخلص من النظام الذي رفعته تركيا طويلًا.
حاصل القول، تقوم سياسة تركيا في مرحلة انهيار داعش على الحد من الخسائر السياسية والدبلوماسية من خلال الرهان على أهمية موقعها الجغرافي والسياسي في منظومة العلاقات الدولية على أمل أن يحفظ لها مكانة في صوغ مستقبل المنطقة، لكن الثابت أن هذا الرهان يُجابَه بجملةٍ من التحديات الدولية والإقليمية والمحلية، فعلاقاتها مع الدول الأوروبية تعاني من اضطرابات كثيرة، بالإضافة إلى التوتر والتضارب في الأولويات مع الولايات المتحدة الأمريكية. وعلى المستوى الإقليمي، هناك تحدي النفوذ الإيراني في العراق وسوريا. ويتفاعل كل ما سبق مع الداخل التركي الذي بات يعيش على وقع الانقسامات بين المطالبة بأن يُراجع أردوغان سياساته الإقليمية والدولية وانتهاج سياسة انكفائية، ومن يطالب باستمرار الدور الإقليمي التركي في ظل حدة التحديات الداخلية والأزمات في الجوار الجغرافي.