إن مجلس التعاون لدول الخليج العربية الذي تحاول دولة قطر أن تفرغه من أهدافه ومبادئه التي قام عليها قبل أكثر من ثلاثة عقود ونصف، بحاجة لأن يعاد النظر في شروط عضويته قبل الحديث عن وظيفته ودورها السياسي، فهو اليوم منظمة تواجه تحدياً داخلياً ربما يهدد استمرارها بشكلها التقليدي (بقاء الأعضاء كما هم)، كما تواجه تحدياً في فعاليتها الإقليمية والدولية، حيث تركيز المنظمة لم يعد موجهاً إلى الخطر الأساسي في مواجهته، وهو إيران، لأن أي منظمة سياسية وحضورها إنما هو مرتبط بفاعلية أعضائها، فهم إما ينجحونها أو أن يكونوا سبباً لفشلها.
تجربة «مجلس التعاون» أثبتت في أكثر من تحدٍ خارجي أنها من أنجح التحالفات السياسية والأمنية، ليس في المنطقة العربية فقط، ولكنها كانت تقاس بنجاح تجربة الاتحاد الأوروبي قبل التصويت على خروج بريطانيا «بريكسيت»، وبتجربة الاتحاد الأفريقي، حيث استطاع المجلس الوقوف أمام الطموحات الإيرانية في تصدير أفكار الثورة الخمينية إلى المنطقة، ثم وقف موقفاً موحداً لتحرير دولة الكويت من غزو نظام صدام حسين، وثبت أمام تحديات ما كان يعرف بـ«الربيع العربي».. لكن أحد أعضاء مجلس التعاون الخليجي، وأعني دولة قطر تحديداً، يحاول اليوم أن يغير من أهداف المجلس عبر دعمه للتنظيمات الإرهابية التي تسعى لزعزعة استقرار أعضاء «التعاون الخليجي»، وكذلك من خلال تبني أفكار نظام الملالي في إيران، بل والتقارب السياسي معه، ما يعني أن الاعتبارات التي قام عليها المجلس لم تعد مرعية بالنسبة لأحد أعضائه، وهو ما يمثل تهديداً من الداخل لهذا الكيان السياسي وينذر بانهياره.
هناك شعور خليجي بأن حلم «خليجنا واحد» بدأ يتراجع منذ أن بدأت حكومة قطر في «تفسيخ» الكثير من أنماط السلوك الخليجي، منذ تغيير الحكم في الدوحة بانقلاب الابن على والده، والتفكير في اغتيال العاهل السعودي السابق عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، والتعاون مع تنظيمات تسبب زعزعة للاستقرار في المنطقة، كما تغير «نمط» اللغة الإعلامية المستخدمة في تغطية الأحداث الخليجية، وتم التطاول على الرموز السياسية والدينية.. كل هذه المؤشرات توحي بأن مسألة العودة إلى العلاقات الخليجية كما كانت قبل الأزمة الحالية هو أمر من المستحيلات، لذلك أصبح الحديث يتجه إلى العمل خليجياً من دون قطر، فذلك هو المزاج الخليجي، مع أن المجلس هو أكبر من تحالف سياسي وعسكري إذا ما دخلنا في التفاصيل التي تربط بين الدول المكوِّنة لهذه البقعة الجغرافية من العالم.
الصورة الذهنية التقليدية لطبيعة العلاقات الخليجية، التي تنطلق من أن تلك العلاقات أقوى من أي خلاف سياسي، لم يعد لها محل الآن، وينبغي أن نمرن تفكيرنا كخليجيين على ذلك، لأن هناك مصالح وطنية لكل دولة تحتاج أن تتم حمايتها حتى إذا تطلب الأمر خوض أقسى أنواع الممارسات، فتحريك الرأي العام ضد مقدسات المسلمين والحديث عن تدويلها في الإعلام القطري خدمة لأجندتها، هي مسألة سيادة وطنية ولن تقبل السعودية المساس بها، وبالتأكيد ستعمل بكل قوة لإيقاف مثل هذا الصوت النشاز!
وإذا كان علينا الاعتراف بأن التجربة السياسية الخليجية تجربة ثرية وحققت الكثير من النجاح وتستحق التقليد من دول أخرى، فإن اختلافات أعضائها لا ينبغي أن تكون سبباً في تعجيز الآخرين عن الحفاظ على استقرار دولهم، لأن ما تفعله دولة قطر من خلال سياساتها الحالية هو «تفريغ» لدور مجلس التعاون الخليجي، وبالتالي يصبح تجاوز قطر في العمل الخليجي أفضل من الاستمرار معها.
هذه ليست دعوة إلى تفكيك العمل التعاوني الخليجي ولكنها إشارة إلى أن التجربة الخليجية بالصورة التقليدية فقدت بريقها وإلى أن مسألة التقوقع في داخل هذا الكيان الذي كثيراً ما يختلف أعضاؤه في تحديد الأوليات كـ«مجموعة» ينبغي إعادة صياغته، وهذه المراجعة نموذج لما يحصل في العالم الغربي اليوم، حيث خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لأن المصالح تغيرت، لذلك فمسألة الإصرار على استمرارية مجلس التعاون الخليجي وفق النظرة التقليدية، أمر قد يقود إلى نوع من الترهل السياسي.
التفكير في نظام إقليمي بديل فكرة ليست جديدة، فقد ظهرت بعد أن اتضح الدور القطري في «الفوضى الخلاقة» في مصر، ويومها كان المغرب والأردن من الدول المطروحة للانضمام إلى دول التعاون الخليجي، ثم جاءت فكرة «الاتحاد الخليجي» كنوع من تعميق العمل الخليجي وربما التضيق على التحرك القطري، لكن اليوم هناك من يستشرفون بدائل العمل الخليجي، حيث توقع معالي الدكتور أنور قرقاش، وزير الدولة للشؤون الخارجية، في ظل استمرار الأزمة مع حكومة قطر، أن تظهر علاقات إقليمية جديدة حيث يتعين المضي قدماً من دون قطر، كما قال وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، إن الحديث عن تدويل مكة والمدينة هو إعلان حرب.
موضوعياً فإن ما تقوم به قطر منذ عام 2005 من أفعال هو مؤشر على أنها لا تريد أن تكون ضمن هذا «التحالف الخليجي».
*نقلا عن صحيفة الاتحاد