يواجه تنظيم "داعش" تراجعًا كبيرًا في قدراته العسكرية والمالية منذ بدء قوات التحالف الدولي عملياتها العسكرية ضده في سبتمبر 2014، وبالتزامن مع خوض الجيش العراقي معركة تحرير الموصل في أكتوبر 2016. وخلال الأشهر الأولى من عام 2017، فقد التنظيم جزءًا كبيرًا من المساحات التي كان يُسيطر عليها في العراق، في حين استطاع المجتمع الدولي كذلك تضييق الخناق بشدة على مصادر تمويله.
ويبدو أن هزيمة "داعش" في شمال العراق قد تدفعه إلى تغيير أسلوبه التنظيمي، حيث لم يعد بإمكانه، وفقًا لاتجاهات عديدة، أن يفكر باعتباره "دولة"، بل بوصفه "تنظيمًا إرهابيًا سريًّا"، وهذا التحول ستكون له انعكاسات على صعيد التكتيكات المالية والعسكرية أيضًا.
فعلى الجانب المالي، قد يبحث التنظيم ليس فقط عن بدائل تمويلية جديدة بدلاً من النفط والضرائب، وإنما مصادر آمنة وسرية. وفي هذا السياق أيضًا، من المحتمل أن يحاول إعادة تأسيس مراكز ثقله المالية في دول تتمتع ببيئة خصبة لتمويل الإرهاب، مثل ليبيا، كما تشير عدد من الشواهد الحالية.
وسوف تعطي التكتيكات السابقة للتنظيم الفرصة لإعادة التكيف من أجل توفير الموارد المالية لشن هجماته الإرهابية في منطقة الشرق الأوسط أو في مناطق أخرى حول العالم. لكن على أية حال، سوف تؤدي هزيمة التنظيم إلى حدوث تراجع كبير لإيراداته المالية، بشكل سيُضعف نشاطه حول العالم.
تضييق الخناق:
بمساعدة قوات التحالف الدولي التي بدأت معاركها ضد تنظيم "داعش" في سبتمبر 2014، تمكن الجيش العراقي من استعادة أجزاء كبيرة من الأراضي التي سيطر عليها التنظيم خلال العامين الماضيين، وبات على مقربة من استعادة مدينة الموصل، وهو ما أدى في النهاية إلى انكماش المساحة التي يسيطر عليها التنظيم في كل من العراق وسوريا بشكل كبير في الشهور الأولى من عام 2017.
وأثناء تنفيذ العمليات العسكرية ضد التنظيم، سعى المجتمع الدولي أيضًا إلى محاصرة موارده التي بلغت في بداية تأسيسه 2.9 مليار دولار سنويًّا. وفي هذه الأثناء أيضًا، شددت بعض دول المنطقة الحصار على شبكات تمويل "داعش" المحلية، حيث قامت تونس، في أول يوليو الجاري، بتفكيك شبكة لتمویل عناصر "داعش" في سوریا تنشط بین تونس ولیبیا وتركیا. فيما قامت السلطات اللبنانية، في مارس الماضي، بوقف مؤسسات صرافة وشركات مالية متورطة في تمويل التنظيم.
وعلى ما يبدو، فإن ضغط المجتمع الدولي سيستمر في الأشهر المقبلة للقضاء على "داعش"، ومحاصرته عسكريًّا وماليًّا وأيديولوجيًّا، وحاليًّا تتقدم "قوات سوريا الديمقراطية" المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية إلى ضواحي الرقة من أجل استعادتها، في حين تواجه القوات النظامية "داعش" بدير الزور.
تراجع كبير:
وكنتيجة للجهود السابقة، تعرض النموذج المالي لـ"داعش" لانهيار كبير، لا سيما في الشهور الأولى من عام 2017، حيث استطاعت العمليات العسكرية خفض عائدات النفط، التي تمثل المصدر الرئيسي لتمويل التنظيم، بالإضافة إلى استعادة المراكز السكانية الهامة التي كانت تعمل سابقًا كقواعد ضريبية للأخير.
ووفق "آى إتش إس" للأبحاث، فقد وصل التنظيم إلى ذروة خسارته المالية والاقتصادية في الربع الثاني من عام 2017، حيث انخفض متوسط الدخل الشهري بشكل كبير من 81 مليون دولار في الربع الثاني من عام 2015 إلى 16 مليون دولار في الربع الثاني من عام 2017، أى بانخفاض بنسبة 80%.
والانخفاض السابق يشمل جميع التدفقات المالية للتنظيم، سواء إنتاج النفط وتهريبه أو الضرائب أو المصادرة، وغير ذلك من الأنشطة غير المشروعة. وبحسب بيانات "آى إتش إس"، فإن النفط هو أكثر مصادر "داعش" تراجعًا، وذلك بنسبة 88% خلال الفترة السابقة نفسها، في حين انخفض الدخل من الضرائب والمصادرة بنسبة 79%.
تحولات محتملة:
مع اقتراب هزيمة "داعش" في الموصل، لم يعد بإمكان التنظيم أن يفكر باعتباره "دولة"، بل بوصفه "تنظيمًا إرهابيًا سريًّا"، وهو ما ستكون له انعكاسات على صعيد التكتيكات المالية التي يتبناها، والتي يمكن تناولها على النحو التالي:
1- مصادر آمنة: مع تكثيف المجتمع الدولي جهوده لمحاصرة التنظيم ماليًّا، قد يبدو أن مصادر التمويل عالية الأمان أو السرية كالعملات الإلكترونية هى إحدى أهم الأدوات المالية التي قد يلجأ إليها "داعش" لتمويل عملياته العسكرية في منطقة الشرق الأوسط وغيرها من مناطق العالم.
وبالفعل، لجأ التنظيم في العام الماضي لاستخدام العملة الرقمية "البيتكوين" لتمويل عناصر إرهابية داخل إندونيسيا من بينهم بهران نعيم (العقل المدبر لهجمات جاكرتا عام 2016)، وذلك لما تتمتع به من سرية عالية وتشفير.
2- بدائل جديدة: لم يعد بإمكان التنظيم بعد هزيمته تحقيق استقلاله المالي كما كان الوضع سابقًا، وهو ما سيدفعه حتمًا للاعتماد على مصادر تمويلية جديدة بخلاف النفط والضرائب. ومن المرجّح أن يكون تلقي التبرعات أحد الخيارات الأساسية المتاحة أمام "داعش" في الفترة المقبلة، والتي كانت بالماضي لا تساهم إلا بـ5% من ميزانية التنظيم، وبما قيمته 50 مليون دولار سنويًّا.
وأيضًا، من المتوقع أن يستفيد "داعش" أكثر من القدرات الذاتية لأعضائه في تمويل العمليات الإرهابية، لا سيما في الدول الغنية بأوروبا؛ حيث تشير نتائج دراسة لـ"مركز أبحاث الدفاع" النرويجي إلى أنه بعد تحليل 40 هجومًا إرهابيًّا في أوروبا في السنوات العشرين الماضية، تبيّن أنه تم تمويل معظمها من خلال المنفذين أنفسهم، فيما تكلّف 75% من الهجمات ما يتراوح بين 1000 دولار إلى 10 آلاف دولار، وهى مبالغ زهيدة التكلفة مقارنةً بمستويات الدخول المرتفعة في هذه الدول.
3- شبكات تمويلية جديدة: من المرجّح أن يحاول "داعش" إجراء عملية إعادة تمركز لأماكن انتشاره ومراكز ثقله المالي في بعض الدول التي تتمتع ببيئة خصبة لتمويل الإرهاب، وربما تكون ليبيا إحدى المناطق المستهدفة لـ"داعش" في الفترة المقبلة على الرغم من إخفاقه في بسط نفوذه بها خلال العامين الماضيين.
وفي واقع الأمر، فإن الأراضي الليبية وفرت مصادر متنوعة وهائلة للجماعات المسلحة والإرهابية كافة في السنوات الماضية. ووفق تقرير صادر عن فريق الخبراء بمجلس الأمن الدولي حول ليبيا في يونيو الماضي، فإن هناك أربعة مصادر رئيسية ساعدت في تمويل أطراف الصراع بالبلاد، وهى تهريب الوقود، والاتجار بالبشر، والتجارة بالأسلحة، وأخيرًا الاستفادة من مؤسسات الدولة المالية.
وقد يسعى التنظيم إلى تحقيق ذلك في دول من خارج المنطقة، مثل الفلبين، ليس لسهولة تجنيد المتعاطفين من كثير من الدول القريبة فحسب، وإنما أيضًا لتوافر مصادر تمويل كبيرة من التجارة غير المشروعة، لا سيما من المخدرات.
4- الأنشطة الاقتصادية: تُشير اتجاهات عديدة إلى أنه من المحتمل أن يعتمد "داعش" على نهج مالي جديد، يقوم على الاستفادة من أرصدته المالية السابقة في القيام بأعمال تجارية وأنشطة اقتصادية في دول مثل العراق وسوريا أو الدول المجاورة، وذلك من خلال أطراف أخرى تابعة له، مستفيدًا في الوقت نفسه من الروابط الاقتصادية والمالية التي أنشأها مع بعض رجال الأعمال أو المهربين في العراق وسوريا في الفترة الماضية.
وفي هذه الحالة، قد تشمل أعمال "داعش" أنشطة في مجالات التجارة والخدمات المختلفة، على أن يشارك صاحب العمل إيراداته مع تنظيم "داعش" عبر شبكات تمويلية سرية. ويبدو أن التنظيم بدأ في تبني تلك الآلية بالفعل، وهو ما يعكسه إعلان وزارة الداخلية الإسبانية، في 23 يونيو الماضي، عن تورط مغربي في تمويل "داعش" عبر شبكة من الشركات الدنماركية ساهمت في توفير الأموال للتنظيم بجانب تجنيد مقاتلين له.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إنه لا شك في أن التكتيكات المالية السابقة قد تعطي تنظيم "داعش" فرصة للمناورة لتحقيق نوع من الاستدامة المالية ولو لفترة وجيزة، بما قد يمكّنه من شن هجمات إرهابية في الشرق الأوسط أو في مناطق أخرى حول العالم، ولكن هذه التكتيكات، على أية حال، لن تسمح بحيز مالي وفير للتنظيم بالتزامن مع تضييق الخناق عليه، وهو هدف المجتمع الدولي في السنوات المقبلة، وبما سيضعف من قدرات التنظيم كثيرًا حول العالم.